ذكرياتي.. إيزابيل تتذكر شقيقها لوركا

ذكرياتي.. إيزابيل تتذكر شقيقها لوركا
        

          يتميز كتاب (ذكرياتي) للكاتبة إيزابيل جارثيا لوركا (1909-2002) بأن كاتبته هي أخت الشاعر والأديب الإسباني ذائع الصيت فدريكو جارثيا لوركا, الذي أعدم عام 1936, ولما يتجاوز عمره ثمانية وثلاثين عامًا, وصدر الكتاب بعد وفاة المؤلفة بشهور.

          ولدت المؤلفة عام 1909, من أم معلّمة وأب غني صاحب مزارع, وهي الأخت الصغرى لأربعة إخوة, أولهم الشاعر الغرناطي فدريكو جارثيا لوركا (1898-1936)  أي أنها أصغر من لوركا بأحد عشر عاما. وأصغر من أخيها فرانشيسكو الذي تدعوه في الكتاب باسم (باكو) (1902-1976) بسبع سنوات وأصغر من أختها (كونجا) (1904-1962) بخمس سنوات.

          تربت إيزابيل في أحضان عائلة مثقفة ومرفّهة, وكانت مدللة البيت, خاصة من قبل الشاعر لوركا الذي تأثرت به كثيرا.

          درست إيزابيل في جامعة غرناطة ثم جامعة مدريد, وتتلمذت على أيدي أساتذة كبار أمثال خورخه جيين وبيدرو ساليناس, وهما من أبرز شعراء جيل الـ27, وأمريكو كاسترو وأورتيجا أي كاسيت وهما من أعلام المفكرين الإسبان.

          عاشت إيزابيل في عز ورخاء وسعادة حتى عام 1936. عندما تعرض أخوها فدريكو جارثيا لوركا للإعدام, وعندها تغيرت حياتها رأسا على عقب, وبقيت حزينة, ولم تنسه طوال حياتها, وما هذا الكتاب إلا شاهد على مدى علاقتها مع أخيها, فهو مليء بالإشارات إليه. وبعد إعدامه, غادرت إسبانيا إلى بروكسل ثم الولايات المتحدة, وفي عام 1951 عادت إلى إسبانيا لتجمع تراث أخيها, ولتؤسس جمعية جارثيا لوركا, التي عنيت بجمع كل ما له علاقة بالشاعر, وبعد إلحاح كبير عليها قبلت كتابة مذكراتها. ومن غريب الصدف أنها ما إن انتهت من كتابها حتى توفيت في يوم 9 يناير من عام 2002 قبل أن يصدر كتابها.

لوركا شاباً

          وأول ما يظهر في الكتاب هو صورة لوركا الشاب وقد وضع إيزابيل المؤلفة البالغة من العمر آنذاك خمسة أعوام على رجله, وأمامها كتاب كي يعلّم أخته الموسيقى, وهي صورة مشهورة تعكس مدى اهتمام لوركا بأخته وبالثقافة بصورة عامة.

          تقول المؤلفة: (عندما نفكر في ذكرياتنا أتذكّر قول لوركا: إن الثقافة شيء والنور شيء آخر, وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه).

          (لقد كان بيتنا مفتوحًا, وتبدو عليه السعادة التامة, حيث يدخل الكثيرون ويخرجون, وككل الأطفال كنا نلعب لعبة إخفاء شيء صغير, وعلى الآخرين اكتشاف مكانه, لا أعرف لماذا لم تعجب هذه اللعبة فدريكو كثيرًا, ففي الوقت الذي كان باكو وكونجا يتمتعان بقوة ملاحظة لا تصدق في البحث والعثور على الشيء المخفي, كان فدريكو على العكس من ذلك, فيذهب إلى جهة أخرى ويغرق في البحث ناسيا تمامًا كل شيء).

          وتروي إيزابيل في كتابها حادثة طريفة حول تنكّر أخيها بالزي العربي فتقول:

          (كان لوركا يرتدي لباسا عربيا ويتنقل بين السطوح مما يتسبب في ذهول الجارات وخوفهن... إن ارتداء اللباس المغربي كان يثير عدم الارتياح بين الجيران, وكان العبور بين البيوت في إقليم الأندلس سهلا, كما هو الحال أيضا بين البيوت العربية, وكان فدريكو يرتدي العمامة ويضع شاربا, ويتظاهر أنه يتكلم العربية, ويقفز بين سطوح الجيران, فيتسبب في ذهول جاراتنا ويصبن بالخوف, إلا أنه سرعان ما كان ينزع الزي العربي, وفي إحدى المرات أغمي على إحداهن وتم نقلها إلى المستشفى, ولاأزال أتذكر الانتقادات التي كان يتلقاها لوركا جراء هذه النكتة, وكانت أمي وخالتي إيزابيل تضحكان حتى الموت, عندما تتذكران الحادث).

          كما تحدثنا إيزابيل عن استحمامهم هي وأهلها في حمام عربي قديم تابع للكنيسة: تقول:

          (في عام 1925 كنا أنا وباكو نستيقظ من الصباح الباكر ونذهب بصحبة والدنا للسباحة في منطقة مالاها. وفيها حمام مغلق, فنطلب المفتاح من الراهب المسئول كي ندخل, وفي هذا المكان حمام عربي وفي سقفه حنيّة مع نجوم, كما هو الحال في قصر الحمراء, يدخل إليه الضوء من كل مكان, أما الماء فكان رائعا في الحرارة والصفاء, ولونه أخضر سمائي, يقارب لون الأحجار الكريمة في شفافيتها وبريقها).

          ومن القصص التي ترويها في الكتاب حول ثلاثة من الغجر كانوا يدخلون إلى مزرعتهم ليأكلوا التين. تقول إيزابيل: (كانت هناك شجرة تين كبيرة يأتي إليها ثلاثة من الغجر غاية في الظرافة, يصعدون إليها ويحيونني قائلين: (يا آنسة كم هو لذيذ التين) كانوا يقولونها بشكل عفوي ولطيف وكأنهم مدعوون, يتحدثون معي لبرهة ثم ينصرفون: (أخبرت فدريكو بالأمر, والآن لا أدري هل هؤلاء هم الغجر الذين صوّرهم لوركا, الذين يعيشون في أوليبو الذين أطلقوا النار على كولونيل الشرطة في أحد حوارات لوركا? أظن أنهم غجر شجرة التين).

          وتحدّثنا المؤلفة عن منزلهم في غرناطة فتقول:

          (في بيتنا في شارع آثيرا ديل كاسينو, كان هناك برج صغير من الزجاج الفاخر الملوّن, وفي داخله مائدة وأريكتان من شجر الصفصاف, وكان فدريكو يصعد إليه كثيرا لمنظره الرائع الذي لا يمكن أن يتصوّر جماله, فكان من الممكن مشاهدة غوطة الجبل وقصر الحمراء والبايثين (حي البيازين) ومرتفع سان ميجيل, حيث توجد الصومعة, وكنت أنا أقضي ساعات طويلة فيه كي أشاهد من خلال زجاجه الملون تلك المشاهد).

          وتصف إيزابيل غرفة لوركا قائلة:

          (كان فدريكو بعد أن ينتهي من الطعام يصعد إلى مكتبه, ففي بيتنا في شارع آثيرا ديل كاسينو, له ولباكو أيضا غرفة كبيرة, ومكتب صغير يعجبني كثيرا, وكنت أقرأ فيه عندما لا يكون هو وباكو في البيت, ففيها شرفة ومنها يمكن مشاهدة مرتفع سان ميجيل وصومعته, وكذلك منارة دي لا بيلا, وهذه الشرفة حاضرة جدا في أعمال فدريكو, حيث كان يجلس ففيه ويشاهد ذلك المنظر, ويكتب كثيرًا حتى عام  1933).

حياة لوركا اليومية

          كان لوركا يكتب ليلا, وينام صباحا, تقول إيزابيل:

          (كان غريبا أن يتناول فدريكو فطوره, فهو ينهض متأخرا جدا لأنه كان يعمل كثيرا في الليل, حيث يصعد بين الساعة الثالثة والنصف والرابعة عصرا إلى غرفته مع قهوته التي كان يقول عنها إنها تلهمه, وهناك يقرأ أو يكتب حتى ساعة العشاء, ثم يذهب إلى مقهى آلاميدا حتى الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل, وعندما يعود إلى البيت لا ينام, وإنما يفتح الشرفة ويغلق شمسية الشباك, ويبدأ بالكتابة حتى يدخل ضوء الصباح إلى الغرفة, عندها يغلق الشرفة ويغط في نوم عميق, أما نحن في البيت, فليس من عادتنا أن نحافظ على الهدوء في البيت على الإطلاق).

مشاجرة منزلية

          من القصص التي ترويها إيزابيل عن أخيها لوركا أن أمه كانت تنهره وتتشاجر معه, فقال لها: سترين كيف أنهم (سيضعون صورتي في المدارس, وسوف يعرف الناس عائلتي من خلالي).

          تعلق المؤلفة على قول أخيها لوركا بقولها:

          (أظن أن فدريكو كان يعرف تماما أين النجاح وأين الفشل, وكان يبحث عن النجاح دائما, وهذا كان دافعا له باستمرار لفعل ما يريد. وقبل سنوات عندما دخلت إلى كلية الفلسفة والآداب في غرناطة, رأيت في صالة صغيرة وجميلة للنشاطات اسمها (صالة فدريكو جارثيا لوركا), طار قلبي فرحا, وفكرت في الاثنين, والدتي وفدريكو, عند رؤيتي صورته معلقة على الحائط, لاشك أنه كان واثقًا من نفسه ومن الأشياء التي يستطيع عملها).

          وحول علاقتها الأدبية مع لوركا:

          (كان فدريكو يعلّمني الكثير من الأغاني, وأظن أنه كان يعدنا لتذوق الموسيقى والشعر, أتذكر أنني قلت يوما لفدريكو: لماذا أحب بعض القصائد والأغاني أكثرمن غيرها? وعيّنت له بعضها, فأجابني بشكل قاطع: (جيد, هذا يكفيك, ولكن اقرئي أكثر, كثيرا جدا), وكنت أطيعه فيما يقول, وفي إحدى المرات كتبت على قصيدة له: فهمتها, ولكن لا أستطيع أن أوضحها).

رحلة إلى بلاد العرب

          تتحدث إيزابيل عن سفرة بحرية قامت بها جامعة غرناطة وزارت من خلالها بعض الدول العربية تقول:

          (قامت جامعة غرناطة بسفرة بحرية عام 1933. في البحر الأبيض المتوسط, ومع الأسف لا أحتفظ بيومياتي التي سجلتها خلال هذه الرحلة, فقد ضاعت كما ضاعت أشياء عدة لي, في هذه الرحلة الرائعة, وبعد كل هذه السنوات, أتذكر لحظات بوضوح تام القيروان والقاهرة, انفعالات كأنها انفعالات دينية, عند رؤية الأهرام, التي يصعب فهمها تماما, والسفرة الليلية في النيل, وتلك الروائح, والأنواع البشرية المختلفة, أشعرتني كأنني عند نهر الوادي الكبير (في قرطبة وإشبيلية) الرائع, وفي الكثير من لحظات هذه السفرة حملتني إلى الأندلس, إن هذا ممكن لأنني أحمل الأندلس في داخلي).

          كانت إيزابيل قد حضرت أغلب أعمال أخيها, وحول عروض مسرحياته تقول:

          (إن عروض لوركا المسرحية محفورة في ذاكرتي وتكوّن جزءا من أهم ذكريات حياتي, إنه شعور يصعب تصويره بالكلمات. ولم يتعود والداي حضور العروض المسرحية, فلم يعجبهما ذلك, وحسنًا فعلا, كانا يفضلان الحضور في يوم آخر مع فدريكو للمرور بالعاملين والسلام على الممثلين, كان والدي يتمتع كثيرًا بنجاحه, على الرغم من أنه لم يبيّن ذلك, وأعرف أنه كان قد انفعل جدا عندما حدثوه عن نجاح مسرحية (يرما), لقد بكى من شدة الفرح.

          أظن أنني حضرت جميع عروض مسرحيات لوركا باستثناء مسرحية (ماريانا بينيدا) في برشلونة وهي المسرحية التي قام برسم لوحاتها الفنان سلفادور دالي, ولم أحضر أيضا مسرحية (الإسكافية العجيبة)).

          وحول مسرحية (عرس الدم) وهي أشهر مسرحيات لوركا, تشير المؤلفة إلى اهتمام الأدباء والمفكرين الإسبان بها أمثال الناقد ملجور فرناندث الماجرو (1893-1966) والشاعر المعروف أنتونيو ماتشادو (1875-1936) والكاتب المسرحي باجي انكلان (1866-1936) والمفكر أونامونو (1864-1936) تقول:

          (في مسرحية (عرس الدم) بدأت لدي ميول للحكم على الممثلين, وأتذكّر أن ملجور فرناندث الماجرو قال يوما إن مسرحية (عرس الدم) هي واحدة من أفضل الأعمال المسرحية في القرن العشرين.

          لقد فهم الناس المسرحية فهمًا خاصًا, ولكن أنتونيو ماتشادو فهمها من خلال رسالة بعث بها إلى فدريكو قائلا:

          شاعرنا وعزيزنا..

          لم تسنح لي الفرصة إلا البارحة كي أستطيع مشاهدة عملك التراجيدي الرائع (عرس الدم). لقد نالت استحساني, وأضفت تصفيقي إلى تصفيق الجمهور الكبير المتحمس, إنه إنجاز رائع, ونحو عمل آخر .. (أنتونيو ماتشادو).

          لقد شعرتُ بانفعال كبير عندما رأيت جمهورًا مهمًا مثل باجي انكلان, وميجيل دي أونامونو وهما واقفان يصفقان ويشجعان بحماس ليلة عرض مسرحية يرما, وأشعر بالأسى لأنني لم أستطع التعبير عنه).

إعدام لوركا

          تصف إيزابيل كيف وأين تلقت خبر إعدام أخيها:

          (في بيت برناردو خينير, (وهو أحد أصدقاء عائلة لوركا), سمعت بخبر فدريكو, دق جرس التليفون, ورفعت السماعة, وإذا بصوت نسائي يسأل عن الآنسة إيليسا (صديقة إيزابيل). قلت لها إنها لا تستطيع أن تتكلم الآن بالتليفون, وأخبرتها إذا كانت تريد أن تترك الخبر عندي.

          فقالت لي: قولي لها فقط: لقد قتلوا فدريكو غارثا لوركا في غرناطة).

          رميتُ بسماعة التليفون وتدحرجت حتى سقطت على الأرض, ولم أستطع الكلام ولا البكاء. سألوني: ما الخبر? ولم أستطع الجواب).

          (أي قوة أظهرت كونجا. أتذكّر جيدا ما قالته لي عند وصولي إلى نيويورك, ورأتني باكية: (ليبكوا هم) وكررت بيت لوركا: (الحزن الذي أصاب سعادتك الشجاعة).

          وتتحدث بعد ذلك حول كيفية خروجها من إسبانيا في نهاية شهر سبتمبر عام 1936, أي بعد مقتل أخيها فدريكو, وابتداء الحرب الأهلية:

          (كان أخي باكو يعمل في تونس سكرتيرا أول في سفارة إسبانيا, ثم في سبتمبر عيّن في بروكسل, وقررت العيش معه, وفعلا ذهبت إلى هناك وقضينا فترة الحرب الأهلية التعيسة ثلاث سنوات معا).

الحنين إلى الوطن والأهل

          تقول المؤلفة:

          (كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا! وكانت دوائر المراقبة في حكومة فرانكو تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي, فلم نعرف أي شيء عنهم, ومر وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كل ما أتمناه في هذا العالم, وأول خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير: (أبوك, كونجا, الأطفال, الكل بصحة جيدة. كنا في الحقل, لا تأتي, عندما نستطيع سنزورك نحن لنراك). وأرسلت لي ثلاث صور لها ولوالدي وكونجا, كم تغيّروا, وقد خيّم الحزن العميق عليهم, أحزنتني الرسالة جدًا).

          بعدها سافرت إيزابيل إلى نيويورك, وهناك استقبلتها صديقتها (لاورا دي لوس ريوس) (1913-1981) والتي تزوجت عام 1942, من أخ إيزابيل (باكو). تقول:

          (ولا أتذكر جيدا متى وصلت إلى نيويورك, ولكن أتذكر كانت تنتظرني عند رصيف الميناء لاورا وأمها, قد يكون مستحيلا التعبير عن (ما هو النفي). لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل, تحدثوا كثيرا عن (اللجوء), وأنا يعجبني مصطلح ميجيل أونامونو الذي استعمل كلمة (النفي).

          في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي, فحياتنا الحقيقية في الضفة الأخرى (إسبانيا) إنه: النفي).

          بعد ذلك استطاعت عائلة لوركا الخروج من إسبانيا والاتجاه إلى الولايات المتحدة, وكان الخبر فرحة لا توصف بالنسبة لإيزابيل. تقول:

          (أنا غير قادرة على وصف شعوري عندما عرفت بأن والديّ سيصلان لأنني لست بكاتبة. الخبر قاله لي باكو بالتليفون نهاية عام 1940.

          عندما أغلقت السماعة قلت للجميع: (سيصل أبواي وأختي وأطفالها الثلاثة, لقد سمحوا لهم بالخروج). كم كانت فرحتهم كبيرة, أخذوني بالأحضان, لما رأوه من فرحة عارمة غمرتني).

          (لم أندمج مع الحياة الأمريكية كثيرًا, وأظن لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل. وفي كل مرة يبدو لي غريبًا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أمريكا, وعندما كنا نذهب من نيويورك إلى Middleburt بالسيارة عندما كان يأخذنا أخي باكو, لم يترك أبي فرصة إلا وتحدث حول روعة الطريق, وكم هي جيدة وكثيرة الأشياء المعروضة في كل مكان).

العودة إلى غرناطة

          في عام 1951, عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته, حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينيات والثلاثينيات تقول:

          (عندما عدت إلى قريتي ومن شدة العاطفة التي امتلكتني, أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة.

          أشعر الآن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم, عندما يتقدم عمر الإنسان إلى هذا الحد, كما هي الحال بالنسبة لي, فإنه لا مجال للشك في أنه يعيش أكثر من حياة, أما حياتي تلك فقد انتهت تمامًا.

          حتى قصر الحمراء لم يعد لي, فهو الآن مليء بالسياح الذين يرتدون ملابس السباحة على البحر, ويتبعون دليلا لإرشادهم. أما حياتي مع الحمراء فكانت منزوية, فنسمع صوت الماء وتغريد البلابل, كم من صباح قضيته في حديقة لانحرون قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد.

          ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة, لم تكن إلا لكي أحقق رغبتي التي انغمرت بالدموع, هي رائحة جنة العريف, عند سماعي نواقيس كنيسة حي البيازين, هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا).

          (قصر الحمراء, ياسمين الألم 
          حيث يستلقي القمر)

الذكرى المئوية لميلاد لوركا

          في عام 1998 جرت احتفالات بالذكرى المئوية الأولى لميلاد لوركا, وكانت إيزابيل تعارضها معارضة تامة:

          (الطامة الكبرى التي تحل عليّ هي الذكرى المئوية للوركا! إنه شيء لا أطيقه, ليس للانفعال الذي يولده عندي, فإنه كثير, وإنما لظني بأن كل ما سيقومون به سيكون ناقصًا).

          إن كتاب إيزابيل جارثيا لوركا يلقي أضواء خفية وطريفة حولها وحول حياة الشاعر الغرناطي, ويلاحظ بين سطور الكتاب, أنها تشعر بأنها الطفلة المدللة منذ الصغر للوركا, وأحيانا يتحول ذلك إلى شعور بالاعتزاز وحتى بالأنفة, فهي ابنة شخص غني, وأخت أحد أهم شعراء إسبانيا في القرن العشرين, وتربت في دلال, خاصة من قبل أخيها فدريكو, حيث كان يعاملها بكل حنان, ويربيها تربية ثقافية. ولهذا تعلقت به تعلقا كبيرا حتى الموت, من هنا فإن النكسة التي تعرضت لها, بإعدام أخيها, ومن ثم ما حل بإسبانيا من حرب أهلية دامت ثلاث سنوات من 1936 حتى 1939, وخروجها إلى أوربا ثم أمريكا, ثم عودتها إلى وطنها. كل ذلك أثر سلبًا في حياتها, لكن فدريكو يبقى المثال الأعلى لها. في كل شيء, وفي كتابها هذا نجد أن أخاها يطغى على الكتاب, وحسنا فعلت, فهي أعرف به, كما أن هناك الكثير من المعلومات الخاصة التي لاتزال موضع شك أو غير معروفة حتى الآن حول فدريكو جارثيا لوركا.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





لوركا يُدِّرس أخته ايزابيل الموسيقى





ايزابيل في أيام شبابها





ايزابيل وعمرها سبع سنوات