مساحة ود

مساحة ود
        

مسرح الجدة

          كانت جدة صديقتي تبدأ الحكاية بكلمة ثم لا يلبث أن يتحول المكان حولنا إلى مسرح لأحداث مثيرة. جنيات يتخفين في فتحات الأثاث, ساحرات يركبن المكنسة. مؤامرات تحاك خلف الستائر في غفلة منا. ملاعق وأكواب تتحاور بلغة خفية. أشرار يخرجون من البالوعات. كنت أحسد صديقتي على جدتها الضخمة بأنفها الذي يشبه علامة تعجب, وكنز حكاياتها اللانهائي الذي يجعل قصص جدتي مجرد محاولات بدائية للحكي. وفي يوم لمحت الحزن في عيني صديقتي, وعرفت أن جدتها مريضة بالزهايمر. كنت صغيرة وبدت لي كلمة الزهايمر أشبه بحفرة عميقة, خاصة بعد أن رفع أمامي طبيبها صورة الأشعة, وأشار إلى شق أسود قال إنه يتسع كلما تقدم المرض. لم تعد تتعرف عليّ الجدة العجوز وفقدت مع الوقت قدرتها على الحكي. في البداية كانت تنسى أسماء الأبطال, ثم تطور الأمر فاختلطت الأدوار وتغيرت النهايات, فصارت الأميرة الجميلة رهينة حظها التعس, فلا ساحرة طيبة تحميها من مخاطر المجهول, وتخطط لها لنيل المستحيل, ولا أمير يصارع شياطين الإنس والجن من أجلها, ولم يعد المحبّون هائمين مسحورين, كمن يتبع قدرًا أكبر منه. أظن أن أصحاب هذه الشخصيات كرهوا صورتهم الجديدة الكئيبة في حكاياتها, فتركوها, وسكتت الراوية العجوز, ولم تعد تدري بما حولها. ورأيت الخطوط السوداء تتعمّق داخل الأشعة وتزداد أكثر, وتحولت ذاكرتها مع الوقت إلى صفحة ممحاة. أحيانا كانت تضحك وتبكي دون سبب أو تكلم شخصيات حكاياتها الذين تدفقوا لزيارتها ليسرّوا عنها, وليقنعوها كي تعود بهم إلى عالم حكاياتها الساحر بعد أن فقدوا هويتهم منذ تركهم لها وصاروا شخصيات هامشية مملة في حكايات الآخرين, ولكن عقلها كان ينطفئ رغم تلك المحايلات, سألت الطبيب: (متى تعود إلى سابق عهدها?), لم أتلق منه إجابة سوى نظرات حائرة, وكلمات مختصرة يحاول أن يشرح بها ما يحدث لعقل العجوز, مستعينًا بالأشعة المقطعية, منهيًا كلامه: إن ما تحتاج إليه هو الحب والرعاية والدعاء. أما المرض فمازال غامضًا, ولكن العلم يتقدم كل يوم (ثقي في العلم). ومازلت أثق في العلم بالرغم من أنه لم ينقذ العجوز التي أحببتها, وبالرغم من أن مرض الزهايمر مازال المرض الذي لا يشفيه دواء. أذكر هذه الجدة حتى الآن وهي تزورني كثيرًا في أحلامي, لم تتغير كثيرًا بعد الموت, فلا هالة فضية حولها ولا أجنحة نورانية. الشيء الوحيد الذي تغير هو شخصيات حكاياتها, فلم يعد البحث عن الثروة والسلطة هدفا. سألتها: (ولا الحب). ضحكت: (أمازلتم تتداولون كلمة الحب)....لا يمكن أن أنساها لأنها أول من وضعني في مواجهة العجز الإنساني.

 

منال القاضي