جمال العربية

جمال العربية
        

عبدالعزيز المقالح.. شاعرية التساؤل والمغايرة

          ترتبط باليمن - تاريخًا وإبداعًا - أبوّة الشعر العربي وأمومته, منذ كانت القحطانية في تجلياتها الأولى تنثال في أشعار مبدعيه, وتنشر ظلالها الوارفة على جنوب شبه الجزيرة العربية, وعندما تألق نجم امرئ القيس ومن بعده وضاح اليمن, كانت الإشارة الممتدة إلى هذا الإبداع تتنفس في قصائد هذين الشاعرين اللذين لفتا الأنظار والأسماع إلى القصيدة اليمنية منذ طفولة الشعر العربي.

          وفي غمار المشهد الشعري المعاصر في اليمن, يلتمع اسم عبدالعزيز المقالح, في دوائر متداخلة ومتكاملة, تجمع بين الإبداع الشعري, والريادة الفكرية والأدبية, وأفق الاستنارة بكل وعوده ورحابته التي لا يحدها حدّ, الأمر الذي جعل من اسمه رمزًا مضيئًا, دائم الإشعاع والنفاذ والتأثير. حتى وهو يعتصم بعزلته واعتكافه وابتعاده عن الأضواء, يظل الضوء خدْنه ورفيقه, لأنه عنه يصدر, ومن معينه يتفجّر, وفي ثنايا إبداعه وفكره يتألق ويُشعّ.

          وُلد عبدالعزيز المقالح عام 1937, ودرس في القاهرة, وحصل على الليسانس من جامعة القاهرة, والماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس, وبعد أن رأس جامعة صنعاء لسنوات عدة, يعمل الآن أستاذًا للأدب الحديث بالجامعة, ورئيسًا لمركز الدراسات والبحوث اليمنية.

          وخلال رحلة ثرية, حافلة بالعطاء الشعري, كانت دواوينه: لابد من صنعاء, مأرب يتكلم, رسالة إلى سيف بن ذي يزن, هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي, عودة وضاح اليمن, الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل, الخروج من دوائر الساعة السليمانية, أوراق الجسد العائد من الموت: أبجدية الروح, صنعاء. وهي بالإضافة إلى دراساته الأدبية والنقدية صُوًى وعلامات - في ديوان الشعر اليمني المعاصر, وفي حركة الشعر الجديد على مستوى الوطن العربي كله ـ وقامة شامخة لكل ما يمثّل الإبداع الأصيل من قيمة إنسانية وفنية.

          عبدالعزيز المقالح في تجلياته الشعرية, وفي كل كتاباته مزيج من حكمة اليمن وروحانيته وصوفيته, وخلاصة بديعة, شديدة الصفاء, لصلابته وصلادته ومقاومته لفعل الزمن والإنسان بالصبر والوعي والاشتعال الداخلي, هذا الاشتعال الذي يحافظ على توقد الجمر, وسخونة الإحساس بالحياة, ويجدّد طاقة الصمود والعنفوان في وجه كل الزعازع والأعاصير.

          وفي شعر المقالح, في كل شعره, صفاء من طراز نادر, هو صفاء نفسه ووجدانه, وشفافية ساطعة تتعانق فيها أبجدية الروح وجدلية الحدس العميق, واتكاء على موروث شعري باذخ, يمنيّ وغير يمنيّ, يضفي على لغته الشعرية كيمياءها النافذة, ومائيتها المائزة, في سلاسة نادرة, وتدفق تلقائي, وانسكاب - لا يعوقه عائق - في قرارة الوجدان.

          إنها اللغة الشعرية التي نطالعها الآن, نموذجًا ومثالا لجمال العربية في قصيدته (أسئلة ومرايا) وهو يقول:

(1)

هل أخطأت طريقي
حين اخترتُ الحرف فضاءً وجناحا
أطلق قلبي في ملكوت الذكرى
أبحث في نفق لا ضوء به
عن برْقٍ مسجونٍ يرسم للنيل صباحا?
هل أخطأت طريقي
فانسكب الحرف على دربي شوكا وجراحا

(2)

يا أمي
كنت جنينا في جوف الورد
وكان الورد جنينا في جوف الماء
وكان الماء جنينا في جوف الرعدْ
كيف تخلّى عني الورد
تخلّى جسدي عن روحي
كيف تخلّى الماء عن الماءِ الرعدِ - الوعْد?

(3)

تحملني الريحُ على أطراف أصابعها
ويُواريني الليل على أطراف أصابعهِ
وكبُوذيٍِّّ
يتسوّل لغةً من تابعِهِ
أتعثّرُ,
أغفو,
أشكو,
فيُلبّيني صمتي بمواجعهِ
وينامُ على صدري كلَّ مساء

(4)

دثَّرني صمتي بلحافٍ من ماء الكلمات
وأخفى رأسي تحت سحابته
لم أندمْ, عانقتُ الصمتَ
وأيقظتُ حروفي وطقوسَ شجوني فيهِ
وأطلقتُ لأجفاني ماء الحزْنِ
وغيْم الحسراتْ

(5)

نصف بلادٍ لا تكفي
نصف صباحٍ لا يكفي
نصف صديقٍ لا يكفي
ويُخاتلني فرحٌ ينشر ضوءًا مكسورًا
فوق مسائي
أيةُ أشباحٍ تسرقُ نصفي
أيّ غرابٍ يصطاد إذا جاء الليلُ
غنائي?

(6)

عيناكِ غوى
عيناك ظلال ترقص فوق بقايا
جسدي
يا واحة ضوءٍ بضفائرها
تنهلُّ
وتغسل قمصان الخوْفِ
تُبلّل بالذكرى كبدي
عيناكِ غدي

(7)

يتخلّى عني الأصحابُ
فأهجُرهم
وأرى في الشمس وفي الشجر الأخضرِ
في الورد, ملايين الأصحاب
يهجرني الشعرُ
فأشعرُ أنّ حدائق رُوحي مُعتمةٌ
وجدارَ القلب بلا نافذةٍ أو بابْ
....................................
....................................
يتخلّى عني السلطان
فتخضرّ الروحُ بوديانٍ من وردٍ
ورياحينْ
وأرى قفصًا يتهاوى
وقيودًا حولي تتساقطُ
وأفرُّ كعصفورٍ يتشوّقُ للشمسِ
وللنسماتْ
وتُفلتُ روحي من جُثثٍ
ووجوهٍ كالأحذيةِ الملقاةِ
على العتباتْ

          هذا الموقف الوجودي الذي يعيشه المقالح في هذا النص الشعري البديع متصلا ومنفصلا, مشاركا ومتأملاً, منغلقا على ذاته ومنفتحا, هو موقف الحرية, والبحث عن الفضاء الطليق والانفلات الأبدي من شَركِ الحرْف والغربة والتواصل والأصحاب والسلطان, الرحلة - بكلّ ما تمتلئ به ضفافها - تفجّر الأسئلة, وتُلقى على وجوه المرايا, فالصور المتتابعة والهواجس الشاخصة التي تحلّ حلولا شعريا, ضاغطا وكثيفا, وتدفع بالشاعر في اتجاه الإفلات والانطلاق من عالم الموتى ووجوه مَنْ يشبهون الأحذية الملقاة على العتبات. تُرى, هل ينجح الشاعر في تحقيق مسيرته المتوّجة في الحرية, والأشباح تسرق نصفه والغربان تصطاد غناءه?

          هذا الصوت الذي يحمل هدوؤه صخب وجدانه وقلق روحه وتمرّد عنفوانه, هو الذي نطالعه في نص شعري شديد الأسر والجاذبية, صاغه في صورة: (خطاب مفتاح إلى أهل داحس والغبراء) نطالع في مرآته صورة الوجود العربي اليوم وواقعه المتشظي ونشهد - في قلب المشهد الشعري - أبناءه من عبدة الظلام, يقول المقالح:

إنهم قومُ داحسَ
أجفانهم كالمفازات غبراءُ,
لا يُشبهونَ البلاد التي خرجوا من محاجرها
يتواصوْن بالموتِ,
لا يتواصوْن بالحبِّ,
حزني عليهم
وهم حزْنُ هذي البلادْ

* * *

إلى أين يمضي بهم حقدهم
وإلى أيّ هاويةٍ يُسرعون بأوزارهم
أيها الليلُ لا تنْجلِ,
ارتحلي يا نجومُ
فإنّ البلاد التي ذبحت أجمل الثائرينَ
وأشجعَهم
لن ترى الشمسَ
أبناؤها فقأوا بغوايتهم
عين حكمتها
ومضوْا يعبدون الظلامْ

* * *

حين أذكرُهم
تتشظّى الرياحُ
وينسكبُ القلبُ حزنا
ويأكلني خجلٌ لا قرار له
أيها الداحسيّونَ
حين أرى الأرض أعشقْها
تبتليني بحب عظيم وتغمرني بالمسرّة,
تملؤني نشوةً وحنانًا
وحين أراكم أخافُ
ويسقطُ عن كلماتي الكلامْ!

* * *

          الحكمة الهادئة العميقة, غير الصاخبة أو المجلجلة, هي ما ينشده المقالح في كلماته. وحين تُفقأ عين هذه الحكمة بفعل أبنائها وغواياتهم تكون المأساة الفاجعة, المفجرة لهذا الكون السحري الذي يصنعه شاعرنا من لبِنات التلفت والانفلات والانجذاب - الروحيّ والمادي - إلى واقع يمتلئ بالحقد والأوزار والغواية. هذه هي البلاد, وهذا هو الوطن, وهذا هو الواقع العربي, أجمل الثائرين وأنبلهم وأشجعهم يُذبحون فيه, والناس قد أصبحوا من عبدة الظلام, يؤثرونه وينحازون له رافضين شمس التنوير والاستنارة, وأفق الحرية والانفتاح والحوار, فأيّ شعورٍ بالخجل يتملّك المبدع الجميل وهو يرى سوء المآل وتقلب الحال والتدنّي إلى هوّة هذا المصير?

          قرونٌ طويلة تفصلنا - نحن عرب هذه الأيام - عن عرب داحس والغبراء. وكان الظن أنها كافية لإخراجنا من الطيش والنّزق وحرب الثارات والإحن, ووعي شروط اللحظة ودروس التاريخ. لكن المشهد الذي يعايشه الشاعر ونعايشه معه, مازال يغلي ويفور بامتدادات ذلك الإرث الجاهلي القديم, ومازلنا تحرّكنا النُعْرة, وتُزلزلنا الخرافة, وتقودنا ظلمة التراجع, ويعصف بنا التمزّق والتشتت والفُرْقة, في مواجهة عالم يُحكم دوائر وعيه ويقينه, ويصنّفنا على هواه, ونساعده - دون أن ندري - على تثبيت هذا التصنيف!

          إن أسئلة المقالح, في وقفاته وتأملاته وجلوات وعيه المستبق, تتيح لديوان الشعر العربي المعاصر في اليمن نصوصًا جميلة متفرّدة, غنية (بعربيتها) المسكوبة على غير مثال سابق, و(بلاغتها) الكاشفة الرائقة, خيالاً وتصويرًا ورمزًا وموسيقى, واستدعاء لموروثٍ يؤرّق ويُلهم, ويدعونا إلى حتمية التجاوز والمغايرة, بعيدًا عن العصبية المنغلقة, والتوقف والبكاء على الأطلال.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات