سأفكر في الخيول الأسيرة حين ندخلُ قرطبة, وسيكون عليَّ أن أبحث أين
ذهبت كل هذه الكائنات البديعة! وسأدرك أن الإجابة استقرت عند آثار المدينة القديمة;
عندما أرى خيول عرباتِ الحوذيَّة التي تحملُ السياح المتنزهين في الحارات الضيقة,
أو على الطرقِ المبلطة بالحجر قرب نهر الوادي الكبير, وحول المرابع التي تحمل هوية
المدينة وتاريخها, مثلما هي أيضا وسيلة نقل لبعض رجال الشرطة الخيَّالة. وهكذا
انتقلت وظيفة الخيول, ودارت دورتها, مع التاريخ, والبشر, والحكايات; سألت نفسي: ألا
تختزل رحلة هذه الخيول رحلتنا نحن العرب في هذه الأرض?
في طريقنا إلى قرطبة, أدركتُ أننا ولجنا كتاب التاريخ العربي في
أوربا, وكان يحلو لي وأنا أتابع اللافتات على الطريق أن أخمِّن نطق أسماء المناطق
والمدن والقرى الصغيرة التي عبرنا بها, وأن أردَّ هذه الأسماء إلى أصولها العربية,
قبل أن تحرِّفها السنون, وتحرقَ أطرافَها الأحداثُ, وتغيرَ مكامنَ الحميمية فيها
حروف الأبجدية الجديدة.
كنت أنوي ألا أحدثكم عن الماضي, لكنني وجدتُه يختبئُ في عباءةِ
الحاضر, ولا يكادُ يعيشُ دونَه, وحين تلوحُ في الأفق سفوحُ جبال قرطبة; التي تتفرع
من سلسلة جبال سيرا مورينا, يذكِّرُني بدءُ هطول المطر بقصة فتح هذه المدينة, حين
جاءها ليلا قائدٌ أرسله طارق بن زياد اسمه مغيث الرومي, وكانت حامية قرطبة ـ التي
فاجأها المطرُ والبرد القارس ـ قد أغفلتْ حراسة سور المدينة, فلم يفيقوا إلا وهي
تحت إمرة العرب, ولتصبح المدينة بعد ذلك وفي عام 138 هجرية حاضرة دولة الإسلام في
الأندلس, حين أسس الأمير عبد الرحمن بن معاوية ـ عبد الرحمن الداخل ـ دولة بني أمية
في الأندلس, ولتصل في عصر الخلافية الأموية, بين عامي 316 و400 هجرية, إلى مستوى من
الرخاء لم تشهده من قبل في العصور السابقة.
لعلَّ تذكر صورةِ الأمس, يمحوه تأمل صورة اليوم, مثلما يمحو آيةَ
الليل النهارُ, أفكار متناقضة جعلتْ المسافة (135 كيلومترًا) بين أشبيلية وقرطبة
تقصُر, فنقطعها مع السائق السريع الذي لا يعرف سوى الإسبانية, في وقت قياسي.
الإسبانية هي اللغة الأولى والثانية والثالثة, حتى في الأماكن التي تفترض فيها أنك
تستطيع التصرف بلغة محايدة كالإنجليزية, ولم لا والإسبانية لغة تغزو العالم الجديد
والقديم معًا.
تعلو موسيقى السيارة حينا, حين تصعد بنا التلال, وتنخفض كلما هبطت
السيارة الوهاد, وكأنها راقصة فلامنكو على خشبة مسرح سجَّادُه أخضر. الفلامنكو فن
تحتسيه المدن الإسبانية مع خبز الحياة, ربما منذ الطفولة. سنشاهدُ في إحدى الأمسيات
فتاة في العاشرة تؤدي أدوارا حماسية, بمروحة تقليدية, وثوب أبيض له ذيلٌ طويل,
تعبِّر بقوة عن نفسها في حركات تستعيد بها تاريخ أجيال من الرقص التقليدي. فَتَاة
مِنْ كِتَابِ الأندلس. لمْ يرَهَا قبلَ الليلة. لكن الأقدام ستنسجُ في رقصتِها
إيقاعًا ظلَّ يحلمُ بهِ قبلَ أنْ يولدَ! لعلَّ العرقَ الذي تدَحْرَجَ قطرةً, قطرة,
مثل نهر الذهب, فوق الوجه البرونزي تبخرَ منْ فلج حَفرَه جدُّه قبل ألف عام في
قرطبة. لعل الموسيقى التي حرَّكتْ الجسدَ إلى حافةِ المسرح والقلبِ كتبها زريابٌ في
لفافة خبأتها شاعرة عاشقة في قميص التاريخ. ولعلَّ الثوب الذي ترتديه من شجرةِ قطن
نبتتْ بذرتُها في الشرق قبل أن يحملهَا فارسٌ عبر المضيق. لا أذكرُ غيرَ اسم
الرقصة; (فلامنكو) فمن منكم يتذكر فَتَاة مِنْ كِتَابِ الأندلس?
استحضار الأندلس
كنت حريصًا قبل السفر ألا يأسرني تاريخ المدينة, حتى لا أظل عند حافته
أستدرُ عطفَه, وأستعيدُ بهاءه, وألا أبكي على الأطلال, كي لا أفعل مثل معظم زائريها
العرب كل يوم. لكنها كانت أقوى, مثل كل بقاع الأندلس التي تذكِّرُك بأن لك فيها
حجرًا ينطق باسم أحد أجدادك, من العلماء والفلاسفة, والفنانين والشعراء,
والموسيقيين والبنائين, وسواهم ممن شكلوا أزهى عصورها.
يطمئننا العلامة بدرو مارتينيث مونتابث على مشاعرنا الجياشة تجاه
قرطبة وأخواتها, حين يقول لنا بعد أيام من الوصول إننا في اللغة العربية نمتلك
مفردةَ (اسْتِحْضَار) وهي المرتبطة بمفردة (الأندلس). وأن هذا الاستحضار لا توازيه
أو تساويه مفردة في أي لغة أخرى, وكأنه يربِّتُ على أكتافنا, بأنه لا تثريب علينا
أن نستحضرَ الأندلس, لكنه لم ينسَ أن يلومنا, حين يسِرُّ إلينا حزنه وأساه على
إخفاق الحاضر العربي, في موازاة إشراق الماضي العربي. فلنستحضر الأندلس, ولكن لنكتب
بها تاريخا جديدًا, ولنحضر إليها, لا للتباكي, ولكن لننسج حضورًا جديرا بنا كأحفاد
صناع حضارتها.
لكن التباكي لم يكن ديدننا وحدنا, فكل من أضاعَ أرضَه بكى, وكل من
فرَّط في حقِه أسِفَ, ويحكي ـ أو يبكي ـ كاتبٌ إسباني مسيحي سنة 854 ميلادية هو
ألفارو عن إهمال إخوانه تراثهم القديم: (يَطْربُ إخواني المسيحيون لأشعار العرب
وقصصهم; فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها, بل للحصول على
أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات الدينية على الكتب
المقدسة? وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل? واأسفا! إن شباب
المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب, ليسوا على علم بأي أدب, ولا أي لغة غير
العربية; فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف, وهم يجمعون منها مكتبات كاملة
تكلفهم نفقات باهظة, وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. ولا يكاد يوجد
منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة, ولكن إذا
استدعى الأمر كتابة العربية فكم منهم يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما
يكون من الرشاقة).
إشارة الكاتب ألفارو إلى المكتبات واقتناء الكتب آنذاك في قرطبة كانت
إشارة حق, لأن قصر الحكم في قرطبة قبل أكثر من ألف عام في عهد خلافة الحكَم
المستنصر (350 ـ 366 هجرية) كان يضم أعظم مكتبة أنشأتها دولة إسلامية في العصور
الوسطى, تقع فهارسها في 44 كراسة ـ لا تضم سوى العناوين ـ بينما قدَّر المؤرخون
عددَ كتبها بقرابةِ نصف المليون مجلد, حتى أن مصنعًا خاصا لتجليد الكتب قد تم
تأسيسه لخدمة هذه المكتبة وحدها, فضلا عن عشرات النسَّاخين, والمراسلين الذين
يقتنون لها الكتب من كل حدب وصوب, ويُحكى أن الحكَم أوفد لأبي الفرج الأصفهاني ألف
دينار ليرسل إليه أول نسخة من كتاب الأغاني, وفعل. ولعل ذلك هو المؤشر الفاعل على
الرابط بين نهضة قرطبة وما كانت تملك من كتب آنذاك. وهي رسالة تأتينا من ألف عام
كوصية حكيم; فهل من مستمع?
المكتبات اليوم في قرطبة ليست علامة عليها, فلا نجد هنا سوى الكتب
السياحية بأكثر من لغة (ليس من بينها العربية), ولا نجد في المتاحف غير المخطوطات
والمطبوعات الإنجيلية المبكِّرة, التي يعود أقدمها للقرن الخامس عشر الميلادي
(فقط), مثلما هي الحال في متحف الفنون الجميلة, الذي أوقعنا الظنُّ في اسمه أننا
سنجد به كنوزا فنية عريقة أو معاصرة, فإذا بالبناء الضخم, الذي يعود تاريخ إنشائه
لفترة معاصرة لإنشاء المسجد الجامع في قرطبة, ويعود تصميمه للشكل التقليدي لفضاء
البيت العربي, وقد شغله أحد كبار رجال الدولة آنذاك, لا يضم سوى لوحات كَنَسِيَّة,
معظمها لفنانين مجهولين; (هكذا قرأنا من عمل مجهول مسجلة على معظم ما شاهدنا من
إطارات ملونة أو لوحات منمنمة أو تماثيل دينية للسيدة العذراء, والمسيح عليه
السلام), مع لوحات من تولوا من الأساقفة, إضافة لبعض الأثاث والسجاد العتيق(بمساحات
أسطورية) والذي سحب من أراضي القصور العربية, واستراح على الجدران في هذا
المتحف.
منازل قرطبة
نصل إلى إحدى بواباتِ المدينةِ; المُسَمَّاةِ بوابةُ أشبيلية. وهي
بوابة ضخمة, مفتوحة, وآمنة, أغرت أسرابَ الحمام لتهجع على جدرانها في سلام, بينما
تعبرها الفتيات على أجنحة الضحكات إلى مقاعد الدراسة, وتمر المياه أمامها في دعةٍ
ترسم على وجهها صورة لحجارتها. يداعب الأطفال صفحة الماء بالبالونات والكرات.
المدينة في عصورها القديمة كانت تبدأ هنا, لكن قرطبة اليوم أصبحت مثل بستان زيتون,
في قلبه بضع شجيرات تمثل المدينة القديمة, بينما باقي الأشجار مدينة عصرية تحاول أن
تستلهم عمارة المدينة القديمة, فتنجح أحيانا, ولا تكاد تُخفِق إلا قليلا. فلا تزال
المنازل الجديدة تستلهم المدخل الأندلسي, صغر أم كبُر. وهو مربع أو مستطيل تجده بعد
البوابة الخارجية وقبيل المدخل للفناء الداخلي. وحين نمر ليلا سنجد بعضَ الجلوس
فيه, كأنهم في شرفة أرضية تطل على الحياة, لا يبخل القرطبيون في تزيينها وإعدادها,
ودائما برسوم خزفية نباتية, وألوان ساخنة وحية, وأصيص ورد, ومقعد أو أكثر.
أما الطوابق العلوية فقد جعلت الحديقة في الشرفات, ومزجت بين عصرية
الشقق التي تفرضها المساحات, وتقليدية التصميم الذي يرتاح إلى إقامة الحدائق أين
يولَّى البصر, حتى أنهم ينطلقون إلى الحدائق التي تتوزعها الميادين القرطبية, في
الأمسيات, وكثيرًا ما ستجد فتيات وشبانا يتسامرون, وكبارا في السن يتنزهون بمفردهم
أو مع أحفادهم, ونساء ورجالا بصحبة كلاب من كل صنف ولون, وهي ظاهرة تستحق التأمل,
فلا يكاد مار بك - أو مارة - لا يرافقه كلب.
ما إن تعبر بوابة أشبيلية حتى تدخل تاريخ العمارة الأندلسية مجسَّدةً
في منازل قرطبة: حارات ضيقة, بيوت لا تعلو سوى طابقين على الأغلب, وأسماء يتردد
صداها منذ ألف عام: نُزُل بغداد, فندق أُمَيَّه, مطعم البيت الأندلسي, وبعض الأبواب
يحمل أسماء أعلام عرب أندلسيين, كالناصر, وابن رشد, بحروف لاتينية, وجرافيكية بصرية
كوفية!
على الجدران يضع القرطبيون أصص الورود فيما يمكن أن نسميه حدائق قرطبة
المعلقة. الزهور تصافح العيون, في بهو المنازل, وفوق البئر القديمة, وعلى الجدران,
وداخل الشرفات, وبالحدائق أمام المنازل, ومن لم يغرسْها حية رسمها على الطاولاتِ
حينا, والبوابات حينا, وموزاييك الأرضيات والدَّرج والأسقف والجدران أحيانا. وهو ما
لمحناهُ في المنزل الأندلسي, وشاهدناهُ في البيت الهندي, ورأينا بعضه في المعبد
اليهودي.
في سوق الصناعات الحرفية سنتعرف على واحدة من الآلات الأولى لإنتاج
الورق في العالم الغربي, أهدتها قرطبة للإنسانية. وفي هذه السوق المسماة (زاكو),
يقدم الحرفيون من كل أنحاء قرطبة صناعاتهم التقليدية التي ورثوها ويعرضونها للبيع.
وكلها مواد يتم إنتاجها بحس أندلسي صميم, من السيراميك, والخشب, والرخام, والفخار,
والمعدن, والأحجار الكريمة, والجلود, والورق. حتى تماثيل النسوة البدينات الريفيات
لا تكاد تراها حتى يشدك الزي المزركش العائدات به من قلب التاريخ.
ومن أهم ما يميز منازل قرطبة عنايتها بالاستفادة من المساحة, مهما صغر
المكان, ولعل أهمية هذه المنازل في الأحياء المحيطة بالمسجد الجامع في قرطبة, أنها
تبقى شاهدة على تراث عتيق عريق, بجدرها البيضاء, وحدائقها المعلقة, ونظافتها من
الداخل, وأشجارها التي تعد جزءا من نسيجها الداخلي, كشريان تجري به دماء من طيور
وزهور في أهم مكان بالمنزل; الفناء. وللبيت القرطبي باب خشبي كبير, ونوافذ قليلة
العدد, بقضبان حديدية مطلية باللون الأسود, تطل على الطريق الضيقة, فيما عدد
النوافذ المطلة على حديقة المنزل أكبر, وتكاد تكون مفتوحة طوال الوقت, وتستخدم
الأدوار العليا غرفا للنوم, أما الطوابق الأرضية فهي للمعيشة وإعداد الطعام.
ويوجد في ركن من الأبواب الخشبية, أو بإحدى ضلفتي الباب, مداخل أصغر,
ربما للتواصل بين من هو داخل البيت ومن هو خارجه دون فتح الباب بالكامل, حفاظا على
حرمته, أو لخروج الأطفال ودخولهم. وتتضح في هذه البيوت مثاليتها في الاستغناء عن
تعقيدات الحياة, بأنها تكاد تكون مكتفية بذاتها, من حيث جلب المياه عبر البئر, أو
الانتفاع بالثمار, أو تخزين الغلال, وغيرها من الوظائف التقليدية التي لا تتجاهل
طبيعة الروح الشرقية في الحفاظ على أهل البيت, دون أن يشعروا أنهم في فضاء مغلق, بل
حديقة ملآنة بالنافورات, والبحيرات, مهما صغرت, والنباتات, مثل القرنفل والياسمين,
وأشجار النخيل والليمون والنارنج.
ويساعد صغر صحن المنزل القرطبي على الحفاظ على درجة حرارته, وكذلك
حمايته من البرودة, وتتراص البيوت جنبا إلى جنب, كأنها فريق من المؤمنين يحمي بعضه
بعضا. كما يوجد في البيوت الكبيرة أكثر من فناء, ولذلك سهل على القرطبيين اليوم
تحويل هذه البيوت إلى مشاريع تجارية مع الحفاظ على بنائها الأصلي, وترميمها, خاصة
أن كل المواد المستخدمة في هذه البيوت التقليدية من البيئة المحيطة. ويتم تبليط
الأرضيات بالحجر أو الرخام, أو بلاطات دقيقة من الموزاييك, وتتم حماية الفناء بغطاء
علوي من النسيج, أو بزراعة كروم العنب.
وللمنزل سطح من جزأين, أحدهما منحدر مغطى بالقرميد, لحمايته من المطر,
والآخر أصغر, ويسمى بالإسبانية azotea وهي تصغير لكلمة سطح, من العربية سُطيح, وهو
لتجفيف الملابس, وأيضا لنباتات الزينة, وفيما عدا لون القرميد الأحمر, فإن الطلاء
الأبيض هو عنوان البيت القرطبي من الداخل والخارج معًا. ولبعض غرف النوم سقف مرتفع
يسمى القبة (بالإسبانية alcoba وبالإنجليزية alcove ) وتستخدم الفخاريات وقطع
الصيني في تزيين الغرف الأخرى, وفي غرفة الاستقبال لابد من أن يوجد مقعد كبير على
الأقل, مؤثث بالحواشي, مع أثاث مريح له أكثر من هيئة.
قلْ للزَّمَان ارْجَعْ يا زمان
ستفاجئك مهن كثيرة في شوارع قرطبة القديمة, ناهيك عن الحوذية, سترى
بائع يانصيب عجوزًا يصيح: لوتاريا, وتستوقفك عرَّافة تقرأ الكف, حاملة في يدها
عشبات خضراء تطلب نقودا ورقية, لا معدنية ـ لأن اليورو الورقي الذي أطاح بالعملة
المحلية في بلدان الاتحاد الأوربي, يبدأ بالخمسة - ولا أقل ـ ستمسك العرَّافة كفك
اليسرى, لتقرأ خطوط العمر والحب والمال, وتقول كلماتٍ بالإسبانية, وتهز هي رأسها
كأنها تفهم أنك فهمت, وهي لا تعرف من الإنجليزية غير كلمتين: نقود ورقية!
سيمر بك أيضا عازفو الجيتار, نغمات تقليدية, بأصابع دربة, شباب على
الأغلب, يضع أحدهم صورته مع صورة عازف شهير راحل, كأنه يقول إنه وريث ذلك الفنان,
وبجانب الصورة قبعة أو علبة أو سلة صغيرة يتلقى فيها هبات المستمعين من المارة,
أيضا ستؤجر لك بعض المحلات القبعات المكسيكية لتحتفظ بصورة لك ترتديها. ألف مهنة
ومهنة, بعضها جاء من صندوق الماضي, والآخر فرضت فكرته آليات السوق الجديدة.
فاجأنا صوت أم كلثوم; (وعايزنا نرجع زي زمان, قل للزمان ارجع يا
زمان). لم نكن نحن من يترنم بهذه الأغنية الشجية, بل عبر الصوت إلينا كأنه يدعونا
للقاء كوكب الشرق في قرطبة!
دخلنا المكان عبر بهو قصير فإذا بنا في بيت أصبح مقهى, مثل بيوت
تقليدية كثيرة هنا استجابت لرغبة السياحة المنفذ الرئيسي للدخل في مقاطعات الأندلس.
ابتسامة النادل وترحيبه جعلانا نتيقن أننا في أرض عربية خالصة, لولا أن زبائنه من
الشرق الأقصى, والغرب الأدنى. القهوة العربية, وكئوس الشاي والإبريق النحاسي بلون
الذهب, والحلوى الشرقية, وآلة الفونوغراف يصعد منها صوت أم كلثوم, عاليا شجيا,
كراسي من الخشب والخوص, ومرايا مطعمة بالصدف, وتمثال لقارئ, وبئر مغطاة بثمار
الجنة, وهانحن في الباحة من بيت ذي دورين, تحولت غرفه إلى قاعات شرقية الأثاث. قال
لنا مستقبلنا: اسمي محمد, بلدي المغرب, جئت هنا قبل 15 سنة, وكنت في الثامنة عشرة.
لم أشعر بالغربة, بل أحسست أن هذا المكان جزء من مدينة تراثية مغربية, بتصميمه,
وحاراته الضيقة, وأم كلثوم تؤنس وحشتنا ليلا ونهارًا. وقد عرفت منه أن مثله كثيرون,
قادهم البحر والحنين إلى العمل في مقاطعات الأندلس.
وعايزنا نرجع زي زمان, قل للزمان ارجع يا زمان, وصفة سحرية نطق بها
صوت أم كلثوم هنا في قرطبة, استعادة الزمان, واستحضار الأندلس, لا يعنيان في
اعتقادي سوى استعادة الروح الوثابة نحو السفر, والرغبة الوقادة للعلم, والمغامرة
الفنية التي جاءت ـ مثلا ـ بموسيقي من أقصى الشرق العربي مثل زرياب إلى قرطبة ليفجر
ثورة لحنية لا يزال صداها يتردد حتى اليوم, من الشارع الذي يحمل اسمه, إلى الأماكن
التي تسترجع وقع موسيقاه.
نحِنُّ دائما إلى الأماكن التي تحمل الأسماء العربية, غريزة لم نستطع
التغلب عليها, أن ترى في السماء اللون الذي تحبه العين, وتسمع من الأسماء الاسم
الذي تفضله الأذن. بين حين وآخر سنرى تمثالا لعالم كالغافقي, أو فيلسوف كابن رشد,
وابن حزم, أو نمر بنصب تذكاري لأشهر عاشقين في المدينة, وأقصد ابن زيدون, وولادة
بنت المستكفي. لكن ذلك النصب الأخير لم يكن يكفي, واعتقدت أنه أقل شأنا مما
يستحقانه من مكانة وتقدير. بل إن وجوده على الطريق دون إشارة ودون حديقة ومن غير
سياج أو حرم قد يعني ـ ضمن ما يعني ـ أن أهميتهما أقل من أهمية ابن ميمون, الذي
يحتفل به اليهود على مدار العام, في كل مكان, بدءا من المعبد, مرورا بتمثاله, في
متاهات الحي اليهودي, وإلى أماكن احتفالية أخرى. إن سماحة المدينة تجعلنا نلح على
أن نحضر بها, وأن نعيد إليها روحها العربية, تلك الروح التي لم تخمد أبدا, والشواهد
كثيرة. منها كان شاهد العاشقين, المدون عليه الشعر الذي يستعيد غرامهما بالعربية
والإسبانية, ويحمل كفين يقتربان دون أن يتلامسا, تقول ولادة في بيتيها:
أخافُ عليكَ, مِن عيني ومنِّي |
|
ومنكَ, ومنْ زمانِكَ,
والمكانِ |
ولو انِّي خَبَّأتُكَ في عيوني |
|
إلى يوم القيامةِ مَا
كَفاني |
فيرد بيتا ابن زيدون:
يا مَنْ غدوتُ بهِ في الناس
مشتهِرا |
|
قلبي عليكَ يقاسِي الهَمَّ
والفِكَرا |
إن غبتَ لمْ ألقَ إنسانًا
يؤنَّسُني |
|
وإن حَضرْتَ فكلُّ الناس قد
حضَرا |
في رحاب المسجد الجامع
نصل إلى مسجد قرطبة الجامع, وهو -أو كان- أكبر مسجد في العالم الغربي
على الإطلاق, بمساحة تصل إلى 24 ألف متر مربع. خريطة المسجد الكاتدرائية المتحف تضم
تخطيطا للأثر مختلف الألوان, ويدل كل لون بالخريطة على مرحلة مختلفة من مراحل بناء
أو توسعة شملت المسجد عبر العصور المتعاقبة, التي واكبت اتساع مدينة قرطبة. كان عبد
الرحمن الثاني هو صاحب التوسعة الأولى (833 ـ 852 ميلادية), وهو الجزء الذي شمله
أكبر تغيير عند إنشاء الكاتدرائية, بداية من سنة 1523 ميلادية, وتقع اليوم في قلب
المسجد تمامًا, وتحمل بذخا وترفا معماريا حاول أن يبهر العين فيصرفها عن معمار
المسجد, دون جدوى. أما التوسعة الثانية فنفذها الحكم الثاني, بين عامي 961 و966
ميلادية, فيما قام المنصور بالتوسعة الثالثة في العام 987 ميلادية.
ندخل حيث مكان الزيادة الثالثة وهي التي ضاعفت حجم المسجد باتجاه
النهر, أي نحو الجنوب, حيث أزيل جدار القبلة, لينقل قرب ضفة الوادي الكبير, وليبنى
سور يحجز المسجد عن الشارع المبلط, أو الرصيف الذي كان منتزه أهل قرطبة مثلما هو
اليوم, حيث شيدت صارية ونافورة وتماثيل جديدة جعلت للمنتزه روحا كنسية, تضاء الشموع
أمام قديسيه, طلبًا لمحبة مفتقدة, أو مغفرة مرتقبة.
ثم نميل حيث زيد المسجدُ للمرة الرابعة. وقد شيد المعمار على طراز
بقية المسجد ذاته, بأقواس مزدوجة, ومداميك (مصاطب أو حوامل) أقواس من الحجر الأبيض
والطوب الأحمر, كما شيد للمرة الأولى على نسق المسجد الأموي في دمشق. نمشي نحو
المحراب المسيج, وقد قام البهو المفضي إليه على أعمدة وقوائم مزدوجة, فوقها قبة
تستند على عصبات من الحجر, وهو الطراز الذي غزا أوربا وعرف فيما بعد باسم الطراز
القوطي, بأعمدته وعقوده المدببة, التي تقوم عليها قبابه. المحراب مثل غرفة من
الرخام سقفها قطعة واحدة, كأنها محارة, مع بروز التناسق بين قبته والعروق التي
تدعمها, ومما يذكر أن هذا المسجد كان من بين المساجد التي يقتصر التزيين فيها على
مساحات محددة, غير الجامع الأموي في دمشق مثلا.
وإذا كانت الأعمدة القرطبية في المسجد هي رمز العمارة الإسلامية التي
سادت آنذاك, فإن المئذنة الضخمة الشاهقة بفرادتها المربعة التصميم هي رمز المدينة
كلها بلا منازع, حتى بعد أن زال منها ما كان يزين رأسها من كرات الذهب والفضة, وبعد
إضافة الأجراس إليها. ولا تزال أشجار النارنج تنمو في الصحن, مثلما تنمو في صحون
بيوت كثيرة زرناها في قرطبة, وقد تجد على الأرض ثمارًا أينعت وحان قطافها, فلما لم
تمتد إليها يدٌ, سقطت بمفردها!
كانت المقتنيات في المسجد الكاتدرائية المتحف تعبِّر كلها عن التاريخ
الرسمي, إلا في مجموعة من الإطارات الزجاجية, ولن أترككم تخمنون كثيرًا, فقد احتوت
هذه الإطارات على أسماء بناة المسجد; مئات من الأسماء والتوقيعات والخربشات, نقلها
الإسبان من على الأعمدة ـ حيث نقش العمال أسماءهم حفرًا ـ على قوالب من الجبس
الأبيض: عبد الله, مسعود, سعد, نصر, كمال, يوسف,... وحروف وعلامات ورموز يتوه منها
المعنى. لكن ذلك كله كان يحمل بصمات المجهولين الذين مضوا وأرادوا أن يتركوا وراءهم
أثرًا لمن يقتفي.
وما أود إضافته حول النقوش المزينة للأقواس التي تعلو أبواب المسجد,
أنها تؤكد القيمة الجمالية للحرف العربي, بمرونته, وطوعه التشكيلي للزخرفة, مثلما
تبرز التوريقات (الزخارف النباتية) ثراء الطبيعة القرطبية بشكل خاص والأندلسية بشكل
عام, سواء في المراوح النخيلية, الكاملة أو أنصافها, والزهور ومصغراتها, والفروع
والسيقان, والفصوص التي تنبسط, وتنكمش, وتنثني, كأن في الحجر حياة حين تلمس بروزها.
وترتكز هذه النقوش على موجات من لفائف نباتية, كأنها مهاد لكائنات الحروف العربية
الحية, التي يجملها التماثل والتناظر, وخاصة فيما يعكس التكوين الأيسر صورته
اليمنى, ولا شك أن الطرز المعمارية في الغرب قد شربت من وعاء الزخرفة هذا حتى
ارتوت.
أما الأفاريز التي تطوق الكتابات, سواء كانت مستطيلة أو مربعة, أو
داخل سياج العقود, فتمتزج فيها الأشكال الهندسية بالحياة الزخرفية النباتية امتزاجا
ليس فيه انفصام. ويبقى التواتر بين اللونين المميزين, الوردي الداكن والأبيض, علامة
على المسجد, والعمارة الأموية, وهو الأمر الذي سنجد صداه في العمارة القرطبية حتى
المعاصر منها, فضلا عن البراعة في استخدام الألوان التي ورد ذكرها في القرآن
الكريم, في التعشيق والتذهيب, مثل الأخضر, والأحمر, والأصفر, ولوني الذهب والفضة,
وقد سمى الفنان المسلم اللون الأحمر الداكن بالمرجان, كما وردت مفردته القرآنية,
واللون الأزرق بالاستبرق, والأخضر الفاتح بالسندس وهكذا. وكان توزيعها يبعث النشوة
في النفس, مثلما يدعو إليها التأمل دون كسل, أو كلل, أو ملل.
القلعة الحرة
نعبُرُ القنطرةَ الرومانية, التي يقف في وسطِها تمثال القديس رافائيل
وتحت قدميه شموع المتبتلين, محاطة بالشرائط الحمراء, وبقايا الدموع والدعوات
والبركات. نصل إلى الطرف المقابل لرصيف منتزه مسجد قرطبة الجامع حيث ينتصب برجٌ
أصبح متحفا, لا يزال يحمل اسمه العربي: برج القلعة الحرة أوTorre Calahorra
بالإسبانية. ندخل (متحف الحياة الأندلسية) أو متحف الثلاث ثقافات, الذي تشرف عليه
مؤسسة روجيه جارودي, بعد إعلانه أثرا في 1931, والذي بدأ دوره كمتحف عام 1987
ميلادية, وهو متحف يعبر عن السماحة التي غمرت المدينة حين تعايش المسلمون واليهود
والمسيحيون فيها.
عند المدخل نتسلم سماعةَ رأس, تختارُ من بين أربع لغات ـ الألمانية,
الإنجليزية, الفرنسية, الإسبانية ـ تعليقا يصاحبُك كلما دخلت غرفة من غرف المتحف.
تدخل المكان, وتضغط الزر, فينساب التعليق الشارح بالموسيقى والمؤثرات السمعية
والبصرية لما تراه أمامك من مجسمات تحكي لك نظام الري الذي ابتدعه المسلمون في أوج
ازدهار الحضارة الأندلسية, وصور الحياة في قصور الخلفاء, ومدينة الزهراء, ومجالس
الحريم, ومسامر الأمراء, ورحلات القوافل, ومعمار البساتين والمنازل. حتى قصور
الحمراء في غرناطة, يضم (متحف الحياة الأندلسية) نموذجًا كاملا لها, تستطيع أن تلقي
عليه نظرة طائر, وأن تنظر من خلال نموذج مقطعي إلى المصلين في مساجدها, مثلما تستمع
إلى خرير المياه في نافورتها التي تحرسها الأسود.
حين نصل إلى سقف البرج يمنحنا الارتفاع فرصة مشاهدة المدينة من عل.
السطح يرفرف عليه علمان, للمملكة الإسبانية, وقرطبة. ويميز علم قرطبة شريط أبيض
ربما يرمز للسهل ونهر الوادي الكبير, يقف عليه رجل يروض أسدين, فيما يكتمل العلم
بشريطين باللون الأخضر أعلى وأدنى الشريط يرمزان للمزارع الخضراء التي تحيط قرطبة
شمالا وجنوبًا. بينما تبدو المآذن التي تحولت إلى أبراج لحمل الأجراس واضحة, في نمط
متكرر, شمله التغيير القسري للوظيفة دون أن ينجح في تغيير الشكل المعماري
الجمالي.
لكن الغرفة الثانية في (متحف الحياة الأندلسية), ويسمونها غرفة
الفلاسفة, هي التي عبرت بحق عن روح قرطبة الخالدة التي صعدت بها لتكون عاصمة
للحضارة الأوربية في ذلك الزمان. هاهو الملك ألفونسو العاشر جالسا أمام ثلاثة من
أعمدة التنوير في المدينة; ابن عربي, وابن رشد, وابن ميمون. ويأتيك عبر الميكروفون
صوت الأربعة في حوار فلسفي حول كُنه الحياة, ومعانيها. فالمسلمون مجسدون في ابن
عربي وابن رشد, واليهود حاضرون في شخص ابن ميمون, والمسيحيون يمثلهم الملك ألفونسو
الحكيم, هم شهود القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين, الذين حملوا للعالم
الرسالة الأندلسية, للحرية والتسامح والإبداع الفني والتقني في هذه العصور الحضارية
الذهبية: يقول ابن رشد, بالإنجليزية, فلسفتنا ليست ذات جدوى, إن لم تكن قادرة على
الربط بين ثلاثة, حاولتُ أن أجمع بينها في تجانس العلم والدين, العلم المؤسس على
التجربة لاكتشاف الأسباب, والحكمة التي تنعكس على الغرض الذي يرمي إليه كل بحث علمي
لجعل حياتنا أكثر بهاء, والكشف الروحاني للقرآن الكريم الذي نخلص به إلى مرامي
حياتنا وتاريخنا. فيما يردد ابن عربي: الله توحُّدٌ. توحد العشق والعاشق والمعشوق,
وكل عشق هو رغبة في التوحد. وكل عشق, بإرادتنا أو دونها, هو تقرب لله.
في القلعة الحرة وصلت إلى مغزى قرطبة; قيمة الحرية, التي وسِمَتْ سماء
المدينة في أزهى فترات حياتها, حرية كانت تسمح لأبي بكر بن ذكوان قاضي القضاة
بقرطبة رفض تسليم أموال الأوقاف لأبي الحزم ابن جهور, رأس دولة بني جهور, كما أنها
سمحت لابن حيان بانتقاد أمراء الطوائف دون أن يمسه سوء منهم. وزان قيمة الحرية قيم
أخرى كطلب العلم, الذي بقيت أدواته وعلاماته حتى اليوم في المتحف, من مباضع
التشريح, وأساليب الملاحة, ووسائل الجغرافيا, وعادت الأذن تسمع ـ حتى عبر لغة أخرى
ـ مفردات اللغة العربية في قرطبة.
لم تتوقف اللغة الإسبانية عن النهل من لغتنا العربية, وهي تحتوي على
آلاف المفردات التي تصافح الأذن من حين لآخر. بل إننا في قراءة التراث الشعبي علينا
أن نقف أيضا عند الأمثلة الشعبية التي عرفت الرحلة إلى الأندلس, ألم نقل: (عصفور في
اليد خير من عشرة على الشجرة), هم يقولون Mejor pajaro en mano, que cien volando,
ألم نسخر ممن (يعملون من الفسيخ شربات), الإسبان يقولون: Hacer de tripas corazon,
وقد جمعت د. علية العناني قبل عشرين عامًا عشرات الأمثلة والحكم والأقوال العربية
التي استقرت بعد خروج العرب: السن بالسن والعين بالعين والبادي أظلم, ابن الوز
عوام, دوام الحال من المحال, وقت البطون تتوه العقول, الدين هم بالليل ومذلة
بالنهار, تراعيني قيراط أراعيك قيراطين, باب النجار مخلع, يدّي (يعطي) الحلق للي
بلا ودان, لاقيني ولا تغديني, يصطاد في الماء العكر, وغاب القط, العب يا فأر:
Cuando no esta el gato, los ratones bailan. وإذا عرفنا كيف تشكل الأمثال الشعبية
آليات الحياة اليومية, يتأكد لنا أن هناك عادات وتقاليد لا تزال حية في شرايين
المدن التي سقتها قرونا مياهُنا العربية, بل إن شبها كبيرًا بين صيحات التهليل
الفرحة للمرأة الشامية, والنسوة الإسبانيات, يجزم بأن جذورا واحدة سقت ثمرة هذا
التشابه.
وحين تستضيف جامعة قرطبة الأمسيات الشعرية العربية, أتذكر مهرجانا
سنويا تقيمه جارتها غرناطة في إطار برنامج شعري تنظمه المؤسسة الأوربية العربية
بالمدينة برعاية الأمين العام للمؤسسة خيسوس جونثاليث لوبيث, حيث تتلى قراءات شعرية
عربية معاصرة, وليعود الشعر العربي إلى أسماع أحجار قصور الحمراء. علينا ألا نتوقف
عن الإنشاد, وأن يكون نشيدنا مسموعا, وأن نصل إلى الجهة الأخرى من الجسر, خاصة أن
لنا هناك محطات تذكرنا.
نعيش مع الشعر ونحن نصعد الطريق إلى مدينة الزهراء ـ أو ركامها
وأنقاضها ـ على جبل العروس, المشرف على قرطبة من الناحية الجنوبية, وبعيد ستة
كيلومترات من قلب المدينة. هناك حيث بدأ في أول المحرم سنة 325 هجرية (936 ميلادية)
الخليفة عبدالرحمن الناصر في تشييد عاصمة ملوكية ذات طبقات, يصل الماء لأعلاها عبر
قنوات خاصة تجمع مياه المطر على سفوح جبال سيرا مورينا. كانت أقسام المدينة على
درجات, يرقى إلى كل قسم منها بدءا من باب الأقباء (جمع قبو) حيث تحيط القباب به,
مرورا بطريق مبلطة وممهدة تقوم على جوانبه غرف الحرس وتظله الأعمدة والأشجار, حتى
يصل إلى باب السدة, حيث القصر. وقد افتتح جامع الزهراء عام 941 ميلادية, وانتقل
الخليفة ومؤسسات الخلافة إليها بعد ذلك بأربع سنوات.في هذا العبور يشاهد في المستوى
الأول مساكن الجند, ومأوى الحرس, وأماكن أصحاب الحرف, ممن يعملون في خدمة المدينة,
وفي المستوى الثاني قصور كبار رجال الدولة, وجماعات الحرس الخاص بالخليفة,
والحمامات والمساجد الخاصة بهم, وفي المستوى الثالث البهو الكبير الذي أعد لاستقبال
الملوك الأجانب وسفرائهم. وقد وردت إليها سفارة هوتو ملك الصقالبة, إمبراطور
الإمبراطورية الجرمانية المقدسة, وسفارة ملك الفرنجة في فرنسا, هيو كابيه, ومركيز
بروفنسا في جنوب فرنسا, الذي أصبح ملكا لإيطاليا في 926 ميلادية, ومركيز توسكانيا
جريدو بن أدلبرت وسفارة كونت برشلونة وطركونة, المغيرة بن سونير, ويوحنا الكرزي,
الراهب المسيحي الألماني, حيث حجوا جميعا إلى درة أوربا آنذاك. وبالإضافة إلى ذلك
كله كان هناك القصر الذي يذكر المؤرخ ابن عذارى (القرن الثامن الهجري) أن حول حوض
السباحة في بهو القصر كان ينتصب 12 تمثالا من الذهب الأحمر المرصع بالدر النفيس,
المنجز بدار الصناعة في قرطبة. وأن سواري مدينة الزهراء (الأعمدة) بلغت 4313, منها
1013 من إفريقيا, و140 هدية إمبراطور بيزنطة والباقي من الأندلس. وإذا كانت الزهراء
قد تكلفت ذلك فإنما كانت صورة من ازدهار قرطبة التي يشاع أنها ضمت آنذاك 113 ألف
دار, و300 حمام, وبلغ عدد مساجدها الخاصة والعامة ثلاثة آلاف! ولعلي أسرفت في
الحديث عن الزَّهراء عجبًا, لأني لم أجد شيئا مما قيل في كتب التاريخ واعتمدته
المصادر, لم يكن هناك سوى الهواء العليل, وبضعة أعمدة, من واجهة رواق مدخل القصر,
وصالون عبد الرحمن الثالث, كأنها حروف توقيع على رسالة احترقت فلم يبق منها سوى
النذر اليسير. حتى أن ما لم يُسرق, أو يُخرَّب, وبقي من مقتنيات, تم نقله إلى
المتاحف, ذهب كل شيء, وبقي الاسم; الزَّهْراء! أقول في الزهراء نعيش مع الشعر لأن
ابن زيدون قال يتغزل يومًا وهو يصعد الطريق ذاته الذي صعدناه قبل قليل:
إنِّي ذكَرتُكِ بالزَّهرَاءِ
مُشتاقا |
|
والأفقُ طلقٌ, ومرأى الأرضِ قدْ
راقا |
وللنَّسِيم اعتلالٌ في
أصَائِلِهِ |
|
كأنَّهُ رقَّ لي, فاعتلَّ
اشفاقا |
وقد خربت الزهراء أيام الفتنة الكبرى, لكن قول ابن زيدون فيها
يستحضرها متذكرا ومتشوقا:
أَلا هل إلى (الزهراء) أوْبَةُ
نازحٍ |
|
تقضَّى تنائيها مدامعَه
نزحَا |
مقاصيرُ مُلْكٍ أشرقتْ جنباتُها |
|
فخلنا العِشاءَ الجونَ أثناءها
صبحَا |
يُمثل قرطيها لي الوهم جهرةً |
|
فقبتها فالكوكب الرَّحبَ
فالسَّطْحَا |
مَحَلُّ ارتياحٍ يذْكر الخلد
طيبه |
|
إذا عز أن يُصدى الفتى فيه أو
يَضحَى |
كان ابن زيدون نموذجًا للأنثروبولوجي, وأكاد أقول إنه مثلما وصف علماء
الحملة الفرنسية مصر في موسوعتهم (وصف مصر), فإن أشعار ابن زيدون وصفت قرطبة, فكأنه
احتفظ لنا بجغرافيتها, وطبوغرافيتها, وكائناتها حية عبر القرون, بل وأعلامها, ويكفي
أن نوردَ بيتا من قصيدة امتدح بها المعتمد, هو البيت المُطَيَّر, جمع فيه الحروف
الأولى من بعض طيور قرطبة:
أنت إن تّغزُ ظافِرُ |
|
فَليُطِعُ مَنْ
ينافرُ |
والطيور حسب ما ترمز إليها حروف البيت, إذ إن كل حرف يرمز بصورته إلى
طائر, هي: (أ) قمري (ن) عصفور (ت) بلبل (إ) قمري (ن) عصفور (ت) بلبل (غ) نسر (ز)
شفنين (اليمام) (ظ) غراب (ا) قمري (ف) دراج (طائر مغرد نحيف طويل الجناحين يسمى عند
العامة أبو ضبة ويقال إن تغريده كموسيقى عبارة بالشكر تدوم النعم) (ر) زرزور (ف)
دراج (ل) غرنيق (طائر من فصيلة الكراكي)(ي) مُكَّاء (طائر سريع العدو لا يفارق
أنثاه إذا غرد في غير روضه كان نذير شؤم) (ط) شرشور (أبو براقش, يشبه البط) (ع)
باشق (من الجوارح)(م) شاهين (ن) عصفور (ي) مكاء (ن) عصفور (ا) قمري (ف) دراج(ر)
زرزور.
ومن الطيور الأخرى التي عاشت في قرطبة ووردت أيضا في شعر ابن زيدون:
الأعصم; وهو من الغربان, والبازي, وهو من الصقور, والحبارى, والرأل وهو ولد النعام,
والرهو, من الكراكي, والسَّمام, طائر رقبته قصيرة ورأسه عريض, والسمان, والشقراق
والعقعق وهما من الغربان, والصرد, وهو كالعصفور, والظليم والهيق وهما اسمان لذكر
النعام, والعنقاء, وذكر البوم; الفياد, والقبج وهو الحجل, والهديل وهو ذكر الحمام,
والورشان وهو ذكر القماري, من فصيلة اليمام.
ولكن بستان الطيور الشعري الذي قدمه ابن زيدون, لا يدل على موهبة
شعرية وحسب, بل على أن قرطبة كانت حديقة ثرية بطيورها, مثلما هي اليوم, ويضعون
مناظير مقربة على ضفتي النهر لتراقب منها أسرابها, فضلا عن غنى النهر بكائناته
البحرية. وقد حرص الإسبان على وضع ثبتٍ بأسمائها على لوحات ضخمة تراها حين تعبر
الجسور التي تربط ضفتي الوادي الكبير, وكأنها دعوة لك لتأمل السماء والأرض وما في
قلب الماء, كما هي أيضا غنية بأشجارها وزهورها في حديقة النباتات التي نمر بها كلما
انطلقنا من المدينة العتيقة إلى الجامعة بمحاذاة النهر.
ابن زيدون وعودة الروح العربية
ثم شاءت الأقدار أن يُسْتَحْضَرَ ابن زيدون في مدينتِه, وأن يُكرَّمَ
اسمُه في جامعتِها, وأن يحتفل به مفكرون عرب وإسبان, وأن نعيش ليالي قرطبة العربية
وأيامها الإسلامية في القرن الواحد والعشرين, حين نظمت مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود
البابطين للإبداع الشعري احتفالية خاصة ـ موازية لدورتها التاسعة ـ لعصر ابن زيدون
وشعره, ولسيرة ولادة بنت المستكفي وتراثها, وأن يكون ذلك الاحتفال سببا وجيها
لاستدعاء روح قرطبة التي استقطبت الفلاسفة والمفكرين من الجهات الأربع في أزهى عصور
الحضارة الأندلسية, لتستقطب أحفاد هؤلاء على منصة العلم, وكأن الرسالة الواضحة
تقول: إذا كنا دخلنا هذه الأرض يوما على صهوة الجياد بقوة السيف, فإن عودتنا إليها
ستكون على صهوة العلم بقوة الفكر.
فالعودة إلى الأندلس كما يقول رئيس مجلس أمناء المؤسسة, عبد العزيز
سعود البابطين, (عودة بسلاح أمضى من سلاح الفتح, هو سلاح المحبة, لأن زمن الفتوحات
بكل بطولاته ومآسيه قد مضى, وبزغ زمن جديد آن فيه للشعوب أن تتكافأ بالهوية,
وتتفاضل بالسعي لجعل هذا العالم فردوسًا للبشر كافة. عودة تمد يد المودة للشعب
الإسباني العريق تقول له بكامل الصدق إن بيننا تاريخا مشتركًا نسجنا خيوطه الذهبية
معًا وشاركنا في جعل الأندلس لؤلؤة أوربا, فلنأخذ من هذا الماضي صفحاته المشرقة,
ولنجعلها أساسا لمستقبل من الإبداع المشترك, ولنستخلص من هذه الصفحات كل القيم
البانية, لتكون دليلنا إلى ميثاق جديد, تتوافر فيه الحرية والكرامة للجميع, ولننزع
من الصفحات الدامية كل ألغامها, ونأخذ منها العبرة أن الدماء تنبت أشواكا لا
أزهارا, وقد مللنا من السير على الأشواك, فلنتطلع معًا إلى فضاء يعبق بشذا المحبة
والسلام). كان حفل الافتتاح الذي استضافته جامعة قرطبة دليلا على الحفاوة والرعاية
والأمل المشترك الذي يتمناه الجميع, سواء على المستوى الملكي الذي تمثل في حضور
الأميرة إلينا خوان كارلوس, أو المستوى الرسمي بحضور وزيرة الثقافة, وعمدة المدينة,
أو على المستوى الأكاديمي بحضور رئيس جامعة قرطبة, أو بالحضور الإبداعي والفكري
الذي مثله المشاركون في الدورة بأوراقهم ومناقشاتهم.
وقد طاب للمجتمعين في الندوة الأدبية أن يستحضروا ملامح ازدهار
الحضارة الأندلسية في كل مجال, وعَنَّ للدكتور محمود علي مكي أن يوجز تاريخ الأندلس
وإسهامه, وأن يؤكد أصالة الابتكار الإبداعي الذي بزغ ـ ضمن ما بزغ ـ في استحداث فني
التوشيح والزجل اللذين أولع بهما المشارقة فيما بعد. وقد تبعه كثيرون, حتى وصلنا
إلى الأوراق التي تحدثت عن التأثير المتبادل في الأدب, كما أشار إليه في الشعر
الإسباني المعاصر د. أحمد عبد العزيز ود. مانويلا كورتس غارثيا, مرورا بتأثيره في
الشعر الإسباني القديم كما قدمه د. محمود السيد, والعناصر العربية في الشعر
البرتغالي للدكتور ألدلبرتو ألفش, ثم يفرد الوقت للدكاترة مبروك المناعي وميغيل
أرناندث وبيير جيشار ليتحدثوا عن الوحدة والتعددية والتعايش الاجتماعي والديني في
الأندلس, وأن يكون لابن زيدون نصيب ساهمت فيه د. سلمى الخضراء الجيوسي, ود. وهب
روميه, ود. ماريا خيسوس بيجيرا, مثلما كان هناك نصيب لولادة وسيرتها أوفته د. ماريا
تيريسا جارولو.
وإذا كان ذلك الدرس الأدبي التاريخي, قد وجد آذانا صاغية, فإن الجلسات
التي تناولت الآني والجدلي وأقصد جلسات الندوة الفكرية كانت أكثر سخونة, وهي التي
احتدم فيها النقاش والتعليقات, خاصة وهي تتناول صورة الآخر (د. محمد الرميحي, ود.
فرد هاليداي, والشيخ محمد علي تسخيري), والأديان السماوية الثلاثة (الدكاترة محمد
سليم العوا, وخالد المذكور وجل أنيدجار وميلاد حنا), والعلاقات الاقتصادية
(الدكاترة حازم الببلاوي وبشارة خضر وأنطوان زحلان), والثقافة والتطرف (الدكاترة
راشد المبارك وخوان بدرو مونفرير وديفيد سولار الذي غاب لمرض وحضرت ورقته فأثارت
جدلا لم يهدأ), والثقافة والعولمة (للدكاترة علي أومليل وستيفان فلد وخوان بدرو
مونفرير مرة أخرى), والأقليات بين الهوية والاندماج (الدكاترة عبد الوهاب الأفندي
ودانيال نيومان ونبيل مطر).
وشهدت الندوة مداخلة من موشي آري فريدمان, الرابين الأكبر ليهود
فيينا, الذي ترك أعياد طائفته التي يرأسها في النمسا, ليعلن تضامنه مع الشعب
الفلسطيني, وحقه في أرضه, وليعرض حل المشكلة في إنهاء النظام الصهيوني غير الشرعي
والعنصري, لأكثر الدول في العالم خرقا لقرارات الأمم المتحدة, ضد شعب مسالم, فالعرب
والمسلمون بتاريخهم العظيم المليء بالأمثلة على التسامح لا يمكنه أن يتلقى دروسا في
التسامح من أحد. وأفاض فريدمان في نقد التعسف الصهيوني, ودعم الحق العربي, مما جلب
له تحية المحاضرين في الكلمة التي ألقاها بالإنجليزية, ووزع ترجمة لها بالعربية بعد
ذلك.
المهم أنه لم يرُقْ لكثيرين أن توجزَ عروضُ كل دراسات الندوة المفصلة
في دقائق, ما بالك بمناقشتها, ونصوصها غير متاحة للمناقشين, سوى ملخصاتها, حيث
ستأخذ هذه الدراسات دورها في الصدور ضمن مطبوعات المؤسسة, التي قدمت هذه الدورة
ديوان ابن زيدون ورسائله, بشرح وتحقيق علي عبد العظيم, وتقديم ومراجعة د. محمد
إحسان النص, وعصر ابن زيدون, للدكتور جمعة شيخة, وغيرهما من الدراسات المهمة في
الشعر والأدب الأندلسيين.
ثم كانت هدية الدورة عبر الاتفاقية العلمية الموقعة بين مؤسسة جائزة
عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري, لتأسيس أستاذية للغة العربية في الجامعة,
تدفع بموجبه المؤسسة ما يغطي نفقات هذه الأستاذية وما يرافقها من أنشطة ثقافية, وهي
اتفاقية تتجدد كل ثلاث سنوات, ووقعها رئيس مجلس أمناء المؤسسة, ورئيس الجامعة د.
أوخينيو دومينجيث فلتشيس.
خلال حفل الختام قام محمد عبد الله أبو الحسن وزير الإعلام الكويتي
بتسليم جوائز الفائزين في دورة مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع
الشعري, وهم الشعراء محيي الدين فارس, السودان, الجائزة الكبرى, والشاعر رابح لطفي
جمعة, مصر, جائزة أفضل ديوان, فضلا عن مناصفة أفضل قصيدة بين شاعر مصري وآخر مغربي,
فيما نال د. أحمد درويش جائزة نقد الشعر. وقرأ الكاتب فهمي هويدي بيان قرطبة 2004,
ملخصًا حكمة الاختيار للمكان, الذي احتضن نموذجا رائعا للوحدة مع احترام التعددية,
وتحقيق تعايش ديني واجتماعي بين مختلف الطوائف والأديان والأعراق. ودعا البيان
الاتحاد الأوربي لتبني جهد مواز لتعزيز العلاقات المشتركة مع العالمين العربي
والإسلامي.
وهكذا يشهد اليوم الأخير للاحتفالية, عودة اللغة العربية رسميا إلى
قرطبة, مثلما شهد هطول مطر غزير, وكأن المطر مرتبط بدخول العرب إلى الأندلس! استبشر
رئيس الجامعة خيرًا, مثلما استبشرتُ, ودعا العرب إلى المشاركة في احتفالية قرطبة
بعد 12 سنة حين تعيش المدينة عاصمة ثقافية في أوربا. قلت لنفسي, هاهم العرب
سيحتفلون بمدينتهم الأوربية!
في جولة الوداع داخل أحد أحياء قرطبة الجديدة, كنتُ أتطلع لمبنى شاهق
يرتقيه شاهد معماري, يشبهُ المئذنة في تصميمه, أو هكذا تمنيت. يخرجني د. أحمد درويش
من أحلامي حين يقول لي: بل هي مانعة صواعق! كانت تلك هي المسافة بين الحلم والواقع,
لكن الواقع يتغير حين نحافظ على أحلامنا, ونعمل على تحقيقها, وما عودة اللغة
العربية إلى قرطبة, القلعة الحرة, إلا بداية الأحلام.