وداعًا للتنوع الحيوي

وداعًا للتنوع الحيوي
        

          يبدو أن البشر مصرون بحمق على عدم التعايش مع أنواع الحياة الأخرى, خاصة الحيوانية منها. فالعديد من أنواع الحياة ينقرض بمعدلات مخيفة. وتتفاقم المشكلة أكثر عندما يتزايد البشر بمعدلات أكبر.

          يضحك البعض عندما يقرأ خبرا عن انقراض نوع من الفراشات أو الزواحف, ويتصور هؤلاء أن حديث علماء البيئة عن المخاطر التي ينطوي عليها انقراض الأنواع ترف لأناس لا يعلمون شيئا عن المعاناة الحقيقية للبشر. فماذا يساوي انقراض فراشات أو زواحف أمام معاناة ملايين البشر الذين يعضهم الجوع ,أو تشردهم الفيضانات أو الكوارث الطبيعية? أو معاناة هؤلاء الفقراء الذين تمتص دماءهم الشركات الكبرى, أو حتى هؤلاء الذين (يعضهم) أخوهم الإنسان في الحروب, ويعذبهم بمختلف أشكال القمع والتعذيب.

          لكننا نقول لهؤلاء إنهم مخطئون تماما بهذه النظرة القاصرة. فاختفاء الأنواع ليس مسألة رهافة قلب أو رقة أحاسيس, وإنما هي اختفاء عالم بأكمله وحرمان البشرية من ثروة طبيعية ومعرفية يمثلها وجود هذه الأنواع.

          فالحياة على الأرض توازنت في ظل وجود هذه الأنواع. وكلما اختفى نوع منها ازداد الخلل الذي يحدثه الإنسان في الطبيعة. وعلى سبيل المثال, عندما تختفي الفراشات نتيجة للاستخدام المفرط للمبيدات والمخصبات الزراعية, فإن وظائفها في الطبيعة, وأبسطها نقل حبوب اللقاح بين النباتات, تختفي معها.

          أما في عالم النبات, فإن كل نبتة هي في ذاتها دواء محتمل لمرض ما. وتراجع الغطاء النباتي يعني اختفاء العديد والعديد من أنواع النباتات.

          وحتى في عالم الحيوان عندما ينقرض نوع نفقد معه ثروة معرفية هائلة. وأسئلة عديدة يمكن الإجابة عنها من خلال دراسة هذه الأنواع. كيف تتعامل مع الطبيعة وكيف تتفاعل أجسادها مع الظروف الطبيعية والكائنات الأخرى? ولماذا, على سبيل المثال, يفتك مرض ما بنوع بينما يحمله حيوان آخر دونما أن يصيبه بأي أضرار? سؤال مثل هذا يمكن أن يفيد البشر في علاج أمراض مرعبة مثل الإيدز والإيبولا, اللذين يعتقد أنهما انتقلا للإنسان من القرود.

معدلات مخيفة

          والحقيقة أن أعداد الأنواع المهددة بالانقراض آخذة في التزايد بمعدلات مخيفة وغير مسبوقة. وقد جاءت آخر التحذيرات من أحدث وأشمل تقييم لحالة التنوع الحيوي في العالم, وقد أصدر هذا التقرير, الذي حمل اسم (القائمة الحمراء للأنواع المهددة Red List of Threatened Species), الاتحاد العالمي لصيانة الطبيعة World Conservation Union.

          ووفقا لهذا التقرير, فإن عدد الأنواع المهددة بالانقراض يبلغ الآن 15568 نوعا, 7266 نوعا حيوانيا و8323 نوعا نباتيا. ويهدد الانقراض اليوم ثلث أنواع الزواحف, ونصف سلاحف المياه العذبة, وثُمن أنواع الطيور وربع الثدييات. ومن بين كل مجموعات الأنواع, تراوحت نسبة الأنواع المهددة بالانقراض بين 12% و52%.

          والحقيقة أن (القائمة الحمراء) ليست سوى صورة جزئية للتنوع الحيوي في العالم. فتقديرات عدد الأنواع الحية على كوكبنا تتباين بشدة. وتتراوح وفقا للتقديرات المختلفة بين عشرة ملايين ومائة مليون نوع. لكن الأمر المؤكد بالنسبة للعلم أن أنواع الكائنات الحية التي صنفت علميا لا تتجاوز المليوني نوع.

          وبينما وضع الفقاريات المعروفة موثق جيدا نسبيا (تم تقييم 40% منها تقريبا), فإن معلوماتنا فقيرة جدا عن الحيوانات والنباتات في البيئات المائية (في البحار والمياه العذبة).

          ولأول مرة, تتضمن (القائمة الحمراء) مؤشرات رقمية تبين مدى التغير العام في الوضع المهدد لمجموعة معينة من الكائنات, مثل الطيور. وكل مؤشر منها, استنادا إلى مقارنات للوضع العام لمجموعة معينة على مدى الزمن, يتوقع خطر تعرض نوع يعينه للانقراض, ويبين في الوقت نفسه الآليات والاتجاهات التي تتناقض من خلالها الزيادات في أعداد البشر مع الأنواع المهددة.

          ومع هذه التوقعات المتشائمة يأتي الأمل في أن تنجح الجهود الاستباقية في تجنب حدوث كارثة في التنوع الحيوي. وكما قال أحد العلماء الذين شاركوا في وضع التقرير: (يومًا فيومًا ندرك أكثر أن الوضع يزداد تدهورا, لكنه هذه المرة يبدو أنه يزداد تدهورا بسرعة غير مسبوقة).والأسوأ من هذا أن البيانات الأخيرة تبدو أقل من الحقيقة, لأنها أخذت في الحسبان فقط مسح نسبة ضئيلة من الأنواع المعروفة لنا.

نجهل الكثير

          لكننا, على سبيل المثال, مازلنا نجهل الكثير عن البيئات الطبيعية الغنية بالأنواع, مثل الغابات الاستوائية والمحيطات والبحار والأنهار. فبينما نملك معلومات جيدة نسبيا عن الفقاريات (تم تقييم 40% منها), فإننا لا نعلم سوى القليل عن مواطن الحياة البعيدة عن اليابسة, وعن عالم اللافقاريات, والنباتات والطحالب (التي تشكل معًا النسبة الأعظم من الأنواع الحية).

          والأمر المؤسف أن هذه البيئات التي نجهل الكثير عنها هي التي تتعرض الآن للخطر البيئي الأكبر, كما يقول جريج هيلتون تيلور الأستاذ بجامعة كمبريدج وأحد واضعي التقرير.

          وعلى سبيل المثال, يواجه أكثر من نصف أسماك المياه العذبة في مدغشقر خطر الانقراض. وأحدها, وهو نوع من أسماك killifish جديد تماما على العلم إلى حد أنه لم يطلق عليه اسم حتى الآن, كان يعيش فيما كان يعرف ذات يوم باسم نهر ساكارامي. لكن هذا النهر بات على وشك الجفاف اليوم بعد أن استخدم لتوفير إمدادات مياه الشرب للمنازل, الأمر الذي ترك البقية الباقية من هذا النوع النادر من الأسماك تعيش فيما أسماه هيلتون تيلور: (حفنة من المجاري المائية التي تغذيها المياه المتسربة من البيوت والقرى القريبة, وإذا أصلح كل سكان مدغشقر صنابير مياههم فإن هذا النوع من الأسماك سينقرض إلى الأبد).

          وبالإضافة إلى (القائمة الحمراء) ذاتها, أصدر الاتحاد الدولي لصيانة الطبيعة نتائج دراسة استمرت أربعة أعوام تحت عنوان (التقييم الكوني للأنواع The Global Species Assessment).

          وشارك في إعداد هذا التقييم عشرة آلاف عالم من سائر أنحاء العالم. ويبين التقييم الاتجاهات العامة للتنوع الحيوي على مدى السنوات الأربع الماضية منذ إجراء آخر تقييم لها في العام 2000. وقد سلط الضوء بشكل خاص على الخطر الكبير الذي يهدد الآن البرمائيات والسيكاسيات cycads (فصيلة نباتية من عاريات البذور شبيهة بالنخل) وهي من أقدم أشكال الحياة النباتية على ظهر الأرض. وتتمتع السيكاسيات بشعبية واسعة في تجارة نباتات الزينة. وهكذا تقترن العوامل الاقتصادية مع التغير المناخي وتدمير الغابات في القضاء على هذه العائلة النباتية الجميلة.

          وقد قدم (التقييم) أول دراسة كاملة وشاملة لحالة البرمائيات في العالم. وهذه العائلة الحيوانية (التي تشمل الضفادع, والعلاجم, والسمندر, والسيسليانات وهي البرمائيات عديمة الأرجل) هي الأكثر عرضة لخطر الانقراض من بين كل الحيوانات الفقارية.

          وإجمالا, يصنف نحو 21 في المائة من البرمائيات كأنواع معرضة للخطر أو معرضة لخطر داهم, بينما هذه النسبة بين الثدييات 10 في المائة, وبين الطيور 5 في المائة.

          ويسلط التقييم الضوء على مناطق يتعرض فيها التنوع الحيوي للخطر الأكبر إلى جانب العوامل الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تسهم في المشكلة. ومن بين الأشياء التي  كشفها هذا التقييم, على سبيل المثال, أنه بينما كانت بلدان مثل أستراليا, والبرازيل, وإندونيسيا والمكسيك تضم الأعداد الأكبر من الأنواع المهددة, فإن عدد الأنواع المهددة يتزايد بمعدلات أخطر في المناطق التي يتزايد فيها بنو البشر بمعدلات أسرع, مثل الكاميرون والهند.

          وبينما كانت البلدان التي تتعرض أنواعها أكثر لخطر الانقراض هي الأقل قدرة على استثمار موارد كبيرة من أجل الحفاظ على البيئة, فإن بلدانًا أخرى, كالولايات المتحدة وأستراليا, أكثر قدرة على تحمل ذلك النوع من الاستثمارات. ويقول سايمون ستيوارت الخبير في الاتحاد الدولي لصيانة الطبيعة في واشنطن وأحد واضعي التقييم: (لأول مرة يصبح بوسعنا أن نربط بين خرائط توزيع الأنواع المهددة وبيانات النمو السكاني).

فتش عن الإنسان

          ومن اللافت أن الأنواع المهددة بالانقراض كانت تتركز في المناطق التي تزداد فيها كثافة البشر, وهو ما ينطبق على معظم آسيا (خاصة جنوب شرقي الصين, وغربي الهند, والهيمالايا, وسريلانكا, وجزيرة جاوة في إندونيسيا, والفيلبين وأجزاء من اليابان), وعلى أجزاء من إفريقيا (خاصة وسط إفريقيا والهضاب الإثيوبية). وبات الأمر قاعدة عامة عندما يحدث خلل في الطبيعة, أو انقراض للحيوانات, ما عليك إلا أن تفتش عن الإنسان.

          وتنطوي تلك العلاقة بين انقراض الأنواع ونمو السكان على أهمية خاصة, لأن فقدان البيئة الطبيعية بات هو التهديد الأكبر للتنوع الحيوي. وفي المناطق التي يزداد فيها تعداد السكان بمعدلات أكبر, يصبح الكفاح من أجل الأرض والموارد الطبيعية أكثر اتقادا وتعقيدا. وكما يقول هيلتون تيلور: (إن المنهج التقليدي المتمثل في إنشاء المحميات الطبيعية على مساحات واسعة من الأراضي لا يصلح في بعض البلدان).

          وبالتالي فإن التحدي الآن يتمثل في البحث عن أساليب جديدة لتمكين الناس في المناطق المكتظة بسكانها من تطوير علاقة مستدامة مع مواردهم المحلية. وهو أمر شديد الصعوبة إذا كان هؤلاء في معركة مع الفقر.

الأسماك والقرود

          وقد وجدت دراسة حديثة علاقة بين تراجع مخزون الأسماك في منطقة الساحل الغربي لإفريقيا واضطرار السكان في غانا إلى أكل المزيد من لحوم حيوانات الغابة, خاصة القرود, من أجل إضافة المزيد من البروتين لوجباتهم. ويقول جوستين براشيرز, أستاذ البيولوجيا في جامعة كاليفورنيا ببركلي: (مع مرور السنين, تتراجع حصيلة مصائد الأسماك, وتصبح الأسماك غير متوافرة, أو تصبح أسعارها أعلى من أن يتحملها الفقراء في الريف الغاني, ولا يجد السكان أمامهم سوى التوجه إلى الغابات لصيد الحيوانات البرية).

          وحتى الآن, لم يكن العلماء واثقين على نحو يقيني من السبب الذي يدفع الأفارقة إلى تناول لحوم حيوانات الغابات, وخاصة لحوم القرود التي تسببت على ما يعتقد في ظهور أمراض خطيرة مثل الإيدز والإيبولا, هل هو العوز والحرمان أم عوامل ثقافية أخرى?

          لكن الدراسة الأخيرة - التي كان جوستين براشيرز واحدا ممن أجروها - ألقت باللائمة كاملة على العوز والحرمان, على الأقل في غانا, بعد مراجعة بيانات مخزون الثروة السمكية وتعداد حيوانات الغابات على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة.

          وقد تبين أن تعداد 41 نوعا من الثدييات البرية في ست محميات طبيعية قد تراجع بشكل حاد في السنوات التي كانت تنخفض فيها حصيلة موسم صيد الأسماك. ولم تجد الدراسة أي علاقة بين تراجع أعداد حيوانات الغابة وضغوط الصيد. وظروف الطقس أو أسعار النفط أو العوامل السياسية. وهو ما قد يعني أن مصير الحياة البرية في غربي إفريقيا,  وربما في أنحاء كثيرة أخرى من العالم النامي, ستتوقف على قدرة السكان المحليين على إيجاد مصادر أخرى للبروتين أكثر استدامة.

          والحقيقة أن إدراكنا لتأثير الإفراط في صيد الأسماك في المحيطات على الحياة البرية على اليابسة يضع المزيد من الإلحاح على الأزمة التي تعاني منها مصائد الأسماك في العالم أجمع. وكما يقول براشيرز, فإن: (مصير الطبيعة على الأرض يتضافر مع إدارتنا للموارد البحرية).وهو يؤكد أن العلاج السريع لمحنة الحياة البرية في غانا يكمن في تخفيض كمية الأسماك التي تصطادها سفن الصيد الأجنبية الكبيرة التي تعمل أمام سواحل غرب إفريقيا, ومعظمها جاء من الاتحاد الأوروبي.

          وتبين (القائمة الحمراء للأنواع المهددة) و(التقييم الكوني للأنواع) أن سياسة ضخ المساعدات المالية من منظمات حماية البيئة إلى الدول الأفقر لم تكن في محلها دائما. فدولة مثل بوركينا فاسو هي في الواقع إحدى أفقر دول العالم, لكنها تواجه مشاكل قليلة فيما يتعلق بالحفاظ على التنوع الحيوي, بينما دولة كبرى مثل الصين تمتلك الكثير من الموارد تواجه في الحقيقة مشاكل هائلة في مجال التنوع الحيوي وتحتاج إلى مساعدات كبيرة.

          وربما أفضل ما يمكن أن تقدمه لنا بيانات (القائمة الحمراء) هو تلك الفرصة الفريدة لتحديد البلدان التي تحتاج أكثر من غيرها إلى مبادرات الجهود الاستباقية لحماية البيئات الطبيعية فيها.

          وبالرغم من أن معظم التهديدات التي تحيق بالتنوع الحيوي هي من صنع الإنسان (التغير المناخي - اجتثاث الغابات - تدمير البيئات الطبيعية - استخدام الكيماويات المدمرة), فإن الإنسان وحده هو القادر على الحيلولة دون انقراض المزيد من الأنواع. وهناك أمثلة عديدة على نجاح الإنسان في إعادة أنواع كانت على وشك الانقراض إلى الحياة, مثل وحيد القرن الأبيض, وابن مقرض الأسود الأرجل. وهي نجاحات تحققت بفضل جهود عشرات الآلاف من العلماء والبشر المخلصين الذين كرسوا حياتهم لهدف نبيل, قد يبدو مضحكا بالنسبة لآخرين.

          والحقيقة أن الحفاظ على التنوع الحيوي ليست مسألة تخص فقط البلدان التي تتعرض الكائنات الحية فيها لخطر الانقراض, لكنها تخص البشرية بأسرها. وبعبارات أدق مسألة تخص المجتمع الدولي. والمسئولية الأكبر تقع على عاتق الدول الغنية, القادرة على ضخ الاستثمارات اللازمة للحفاظ على البيئات الطبيعية, وفي الوقت نفسه مساعدة فقراء البلدان النامية على إيجاد وسائل معيشة مستدامة تمكنهم من التعايش مع الكائنات المهددة في بيئاتها الطبيعية.

 

أحمد الشربيني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





وحيد القرن الأبيض عاد من حافة الانقراض





البرمائيات في خطر داهم





سكان غرب إفريقيا أكلوا القرود عندما اختفت الأسماك





السيكاسيات من أقدم النباتات على ظهر الأرض