على هامش ندوة (حوار المشارقة والمغاربة)

على هامش ندوة (حوار المشارقة والمغاربة)
        

أولوية الشفافية الثقافية

          عقدت مجلة (العربي) ندوتها السنوية الموسّعة تحت عنوان (حوار المشارقة والمغاربة...الوحدة في التنوع), ولقد أثارت الندوة من الحوارات الخصبة والمكاشفات المهمة ما يستوجب إفراد كتاب لها, لكن موضوع الندوة ذاته يستدعي الكثير من الشجون والشئون العربية التي لا ينبغي أن تظل من المسكوت عنه أو الموصدة عليه الأبواب والنوافذ.

  • بعيدًا عن الوحدة السياسية هناك (وحدات) عديدة عملية فيها ما ينفع الناس ويبقى في الأرض ومنها وحدة الثقافة الجامعة في عالمنا العربي.
  • نشأت (العربي) جسرًا ثقافيًا وأداة وصل بين جميع أجزاء العالم العربي وندوتها السنوية امتداد لفلسفة النشأة وإن بروح تسعى للتجدد.

          ما إن انتهت الندوة, وغادر الكويت آخر الضيوف الأعزّاء من خيرة العقول العربية, حتى حان الوقت لبعض الراحة, وفي لحظات كهذه, يكون التأمّل استجابة لاإرادية للعقل الذي أجهدته المناقشات والمداخلات والمتابعة اللاهثة لحجج تتقارع, واستشهادات تتدافع, واستدعاءات تاريخية وفلسفية يستحضرها المنتدون الذين هم أساتذة في تخصصاتهم واهتماماتهم التي تلاءمت مع موضوع الندوة (حوار المشارقة والمغاربة...الوحدة في التنوع). ومن المدهش أن لحظات التأمل هذه التي أشير إليها, تنزع عادة, لا إلى التوقف عند مفاصل دقيقة من الحوارات التي جرت, بل تنزع إلى الانجذاب نحو الأطر العامة التي احتوت النقاشات, والخلاصات الكلية, والملاحظات البارقة التي لمعت هنا أو هناك, وتجاوزت خصوصية موضوع الندوة إلى عمومية الأوضاع العربية, تاريخًا وحاضرًا, ومن ثم مستقبلاً.

ضرورة فتح الأبواب والنوافذ

          لقد مثل في خاطري د. أحمد زكي, العالم العربي الرائد والأديب البارع والمفكر الذي سبق زمانه, وأول مَن رأس تحرير مجلة (العربي) باختيار دقيق وشديد التوفيق من الرعيل الأول لأصحاب الضمير الثقافي الكويتي, على المستويين الرسمي والشعبي على السواء, وبمباركة ثقافية عربية جامعة, فقد كان الرجل ممن لا يختلف عليه منصف أو عادل أو عارف, لكنه لم ينج من معاناة السير بحذر مجهد للنفس والعقل في حقول ألغام الحساسيات العربية, ولعل هذا هو ما جعل طيف الرجل الكبير الجليل يتداعى إلى خاطري في لحظات التمهل والتأمل, بعد نجاح ندوة أعتقد أنها اجترأت على شيء من حقل ألغام الحساسيات العربية دون أن ينفجر لغم أو ينجرح أحد, ولله الحمد.

          تذكرت للدكتور أحمد زكي افتتاحية عدد يناير 1966 من مجلة (العربي), وكانت مكرّسة لمناسبة مرور سبع سنوات على صدور العدد الأول من المجلة, وقد أعطى لهذه الافتتاحية عنوان: (بدأنا السنة الثامنة مباركة). وبالرغم من العنوان الإشراقي لتلك الافتتاحية, فإن قلبها لم يستطع إنكار بعض الشجون في الحياة العربية التي أشار إليها العالم الأديب بعنوان جانبي دال هو: (مواضيع تغلق دونها الأبواب). ومن المدهش أن تمر على ذلك قرابة أربعة عقود, ونجد أنفسنا لانزال أمام الكثير من المواضيع العربية التي ظلت الأبواب أمامها مغلقة, بالرغم من جدارتها بالدخول والمثول في ساحة المصارحة والمناقشة كخطوات أولى على درب العثور على حلول للمشكل وإزالة للمعيق.

          يتحدث د. أحمد زكي عن بعض ما أرقه كرئيس لتحرير هذه المطبوعة العربية الجامعة, الجامعة بإرادة مؤسسيها وكتّابها وجمهورها, يقول: (شيء واحد نأسف له من حيث اختيار المواضيع, ذلك أننا نتجنب مواضيع لا يمكن معالجتها, ودخول (العربي) بها, في كل البلاد العربية, مع المزاج الفكري العربي الحاضر, وعلى اختلافه, وهي مواضيع تمس مستقبل الأمة, ولكن عليها اختلاف كاختلاف ما بين الكفر والإيمان, وهي مواضيع لا يؤذن لها بأن تبحث حتى على الحياد.

          وعندنا أن المعرفة صنفان, صنف نافع يأذن لـ(العربي) أن تدخل كل البلاد العربية من أبوابها, وصنف نافع يمنع (العربي) من أن تدخل بابًا أو عدة أبواب, فيحرم من وراء هذه الأبواب من الانتفاع بسائر ما في (العربي) مما لا حرمة فيه ولا شبهة).

حساسيات قديمة, وأخرى جديدة

          كانت هذه ملاحظة مفكر عربي منذ قرابة أربعين عامًا, عن (الحساسيات) العربية - العربية التي تمر هنا وتمنع هناك, ولقد ضرب مثلين من هذه الحساسيات, أولهما كان عن الاشتراكية التي كانت تتبناها بعض الأقطار وترفضها بعض الأقطار, ومن ثم كان الحديث عنها نوعًا من المخاطرة لدى جانب عربي أو آخر, تبعًا للرفض أو القبول, التبنّي أو التخلّي. بينما كانت المكاشفة وصراع الأفكار أجدى للوصول إلى حقيقة تطلّبت عقودًا من الوقت الضائع لإثباتها, وكان الوصول المبكر إليها يوفر طاقات أهدرت ويتحسّب لمخاطر وقعت, ويوفر طرقًا وسطى آمنة لخير الجميع. وعن هذا يقول أحمد زكي: (والاشتراكية أصبحت اليوم ثوبًا فضفاضًا يدخل فيه مَن شاء, من المعاني ما شاء. والموضوع خطير, انقسمت بسببه الدنيا, فهو من الجدارة, بالبحث المجرّد, وهو باب من أبواب الثقافة لا يمكن تحريم الكلام فيه).

          قد يبدو المثال السابق بعيدًا الآن, بعيدًا عن تجسيد ما يشغل الناس في اللحظة الراهنة, لكن المثال المذكور لم يكن هو المقصود بذاته, بل كان المقصود هو تبيان مدى العنت والتعسّف في الحساسيات التي حالت دون مناقشة مواضيع تمت إلى الثقافة بصلة أكيدة من منطلق كونها أفكارًا قابلة للنقاش وفلسفات عرضة للنقد. ثم إن الكاتب أورد أمثلة أخرى في حديثه, لعل أقربها من موضوعنا العربي الآني, والذي انشغلت ندوة (العربي) بطرف ثقافي من أطرافه, هو موضوع الوحدة, بالمعنى غير السياسي, وبمداخلة هي إلى الثقافة أقرب, ولقد قال عنه د.أحمد زكي: (ومثل آخر للوحدة. الوحدة العربية, كنا نكتب فيها بقوة, وكان يكتب غيرنا. وذلك والشمس مشرقة ووجه الأرض وضاح ضاحك, ثم اغبر وجه الأرض, وملأت السماء سحب سوداء, وهطلت أمطار فأوحلت, وأوى الناس إلى بيوتهم, وانفض زامر الحي, وخفتت الأصداء.

          إن التغنّي بالوحدة, الوحدة الشاملة الكاملة, لا يمكن أن يكون في كل الأجواء, لابد لأغنية الوحدة من الصفاء كل الصفاء, ولقد جاء وقت تكدّر فيه الجو العربي, حتى صار أي غناء فيه نشازًا, كالذي يغني أغاني الأفراح في المآتم. وسكتت الناس عن الحديث في الوحدة وسكتنا. وقد كنت أخطئ فأقول: وسكتت, للذي لقيت من ذلك الشعوب, ذلك أن الشعوب لا يجوز أن يقال لها إنها فترت بالذي لقيت من الوحدة أبدا. وعلى أي حال, إذا نحن تحدثنا الآن عن الوحدة, وتحدثنا صادقين, وخلعنا أدب السياسة والساسة والعقائديين, لقلنا إن الوحدة الشاملة الكاملة تراجعت اليوم في حسبان العرب إلى حين, تراجعت بها التجربة المرّة والأحداث. والحديث اليوم أولى أن يكون في وحدة كل قطر. الوحدة الداخلية التي لا تكون وحدة خارجية إلا بها. ويكفينا نحن العرب, من حيث الوحدة الكبرى, إلى حين غير قصير, وحدة القلوب, وحدة محبة).

          لقد أوردت المثال الذي ذكره د.أحمد زكي عن الوحدة كاملاً, لأنه يكاد يتحدث عما نحن فيه بشكل منعكس, فثمة تفتت واضح في الفعل العربي, ولا أعني بذلك السياسة, بل أعني ما هو أعمق وأنفع للناس وأبقى أثرًا وزمنًا.. أعني الثقافة, الثقافة العربية, الوحدة الوحيدة الباقية بين العرب بالرغم من كل ما لحق بها من تهلهل أو ترهل أو تمزقات, فهي وحدة اللسان الذي لايزال عربيًا, بالرغم من اختلاف اللهجات والرطانات المتباينة, وهذا اللسان ليس مجرد حركة أعضاء في الفم تلون تيارًا من الهواء يعبر الحلق, بل هو علامة إشارية - كما تقول الألسنية - تحمل دلالات وترتبط بجذور, تاريخية وتراثية, مادية وروحية, وتشكل ميراثًا نادرًا قل أن تماثله ثروة بين جماعة بشرية بحجم الجماعة العربية التي تسكن مساحة مهمة من العالم وتمتلك طاقات هائلة إن شئنا حمايتها من الإهدار.

إرث يستحق الصيانة

          من أجل صيانة هذا الإرث الثقافي العربي, وتفعيله في الحاضر, واستثماره في اللحظة الراهنة, وفي الغد, لم تتوقف الجهود العربية للمثقفين والمصلحين وأصحاب الرأي, بل والساسة المستنيرين والمدركين لأهمية الثقافة في كل فعل إنساني, من التكوين الاجتماعي إلى الأداء الاقتصادي في الداخل, وصولاً إلى المكانة الدولية بين الأمم على ظهر هذا الكوكب الذي نسكنه. ولعل هذه المطبوعة (العربي) هي نموذج لأحد هذه الجهود التي تواصل سعيها منذ ما يقارب العقود الخمسة. وفي السنوات الأخيرة دأبت (العربي) بدعم كريم من كبار المسئولين في الدولة ووزارة الإعلام الكويتية التي تصدر عنها المجلة ومطبوعاتها - دون أدنى تدخّل في تحريرها - على عقد ندوة سنوية تكون غايتها فتح باب النقاش الحضاري والحر, لقضية مهمة من قضايا الثقافة عمومًا, والثقافة العربية على وجه الخصوص. وبعد ثلاث ندوات ناقشت قضايا ثقافة الطفل العربي, والنشر الإلكتروني, والعلاقة الثقافية مع الغرب, كان ضروريًا أن نخطو نحو بعض المسكوت عنه في شئون هذه الثقافة, نتحاور بضمائر مسئولة, ونتكاشف بمحبة, ونسعى معًا لما هو خير لهذه الثقافة, وما هو أجدى وأنفع لأهلها ومحبيها. وفي هذا الإطار بزغ موضوع ندوتنا الجديدة (حوار المشارقة والمغاربة.. الوحدة في التنوع), وهو موضوع غاية في الأهمية, ليس بالنسبة لمجلتنا فقط, وإنما أيضًا للواقع الراهن في الثقافة العربية.

          وكانت غاية (العربي) منذ أعدادها الأولى أن تكون صلة وصل, وجسر تلاق بين مشرق العالم العربي ومغربه, وبين شماله وجنوبه, وكانت دائمًا - وآمل أن تظل كذلك - بمنزلة السفير فوق العادة, الذي يتجاوز الحدود الجغرافية بأبعادها السياسية, ويعلو على الخلافات اللحظية, ومن يتصفح عددها الأول الذي صدر في الأول من ديسمبر عام 1958, فسوف يجد أنها قد نشرت ثلاثة استطلاعات مصورة, أحدها عن البحرين, وهي أقصى نقطة في الشرق العربي, وثانيها عن تمور العراق التي نأمل أن يعود نخيلها آمنًا مطمئنًا في سموقه ومودته, وثالثها عن ثورة الجزائر المجيدة التي كانت في ذلك الوقت في أوج اشتعالها, للتخلص من نير الاستعمار الفرنسي. وظل هذا دأب (العربي) على امتداد ما يقارب نصف قرن من عمرها, تجمع على صفحاتها البلدان والأشخاص والأفكار والإبداعات من أقصى المشرق العربي حتى أقصى مغربه.

ثقافة تواجه التحديات

          لقد آمن القائمون على (العربي) من مسئولين وعاملين, أن القوة الحقيقية للمجلة كمطبوعة رائدة تكمن في هذا التنوع, وفي قدرتها على أن تجعل من صفحاتها ساحة تتقابل فيها الأفكار, تتحاور وتتجاور وتتصارع دون قيد جغرافي أو حَجْر فكري. وكأن هذا المفهوم الأساسي هو الذي امتد ليكون نبراسًا في مسيرة ندوات (العربي) السنوية ومنها ندوة هذا العام, وهي تمثل الدرجة نفسها من الأهمية بالنسبة لواقع الثقافة العربية, ففي هذه الأيام تهدد رياح العولمة كل الهويات الوطنية المهتزّة, وتوشك أن تمحوها أو تهمشها. والثقافة العربية مثل العديد من الثقافات العتيقة مهددة بهذا التحدي, فهي لا تعاني أمراض التخلف التي يعانيها المجتمع العربي, ولا وهن درجة الحرية الممنوحة لها, ولا اختناق عوامل الإبداع والابتكار فيها فحسب, ولكن الخطر الأكبر على هذه الثقافة, هو خضوعها لعوامل الفرقة والتناحر بين عناصرها المختلفة, والسعي من جانب بعض أطرافها لإلغاء الآخر واستبعاده أو حتى تجاهله والتقليل من دوره فيها.

          إن قوة الثقافة العربية هي في وحدتها المتنوعة, وفي تنوعها الذي يتدفق كنهر نحو مصب واحد, فقد بزغ نورها مع الدين الإسلامي, وانتشرت بانتشاره, فهي لا تخص بلدًا بعينه, ولا شعبًا بمفرده, ولا جماعة عرقية مهما بلغت درجة أصالتها, وإنما تخص جماع روح هذه الأمة, فهي نتاج الباحثين عن جوهر الحياة, والغواصين في مياه الخليج العربي, وانطلاق القبائل متعددة الأنساب في الصحراء العربية, وثمار الفلاحين ذوي الحرث والغرس على ضفاف أنهار النيل, ودجلة والفرات وبردى, والرعاة الأشداء على جبال الأطلس, وهي تخص أبناء المدن, وبدو الواحات, ومدرّسي القرى المعزولة, وتخص أيضًا تلك العرقيات المتعددة التي تعيش معنا, والتي تجمعنا معها أواصر الجغرافيا والتاريخ, ووشائج الدين, الأكراد في الشمال والأمازيغ وغيرهم في الغرب, والقبائل الإفريقية في الجنوب.

          لقد كان مجرد اختيار موضوع ندوة هذا العام مخاطرة, ودخولاً في منطقة الحساسيات العربية, لكن العقول العربية المفكرة التي أثْرَتْ الندوة بنقاشاتها, جعلت من المخاطرة واجبًا نبيلاً, ومن المكاشفة ضرورة صحية تبقي على المودة وتزيل حرج الحساسية. كان هدفنا من هذه الندوة مواصلة السير إلى الأمام, والتخلص من اجترار ما مضى من سوء الفهم, تلافيًا للخلاف, أو للتأسف على ما فات, فالأسف تبديد مروّع للطاقة, لا يصلح للبناء فوقه بقدر ما يغري بالغوص فيه, وكل ما يقال عن مركزية الثقافة العربية, وعن الانفصال بين مشرقها ومغربها, وعن العربي والمستعرب, والأصيل والبيسري, كلها مسميات فقدت معناها, وفات أوانها, لأنها من مخلفات الضعف والفرقة والانحطاط, إننا في حاجة إلى رؤية تجمعنا معًا, إلى تضافر كل التيارات الفكرية والسياسية من أجل تجديد هذه الثقافة, وجعلها عصرية موضوعية قائمة على إعمال العقل, وليس على الجهل والخرافة. نريدها ثقافة مؤثرة في الناس, محافظة على تراثهم, مستخرجة من هذا التراث كل ما هو إيجابي وصالح لظروف العصر, نريدها أن تأخذ مكانتها في التعبير عن شخصيتنا وحضارتنا وعن استشرافنا للتقدم وليست دليلاً على التخلف. وأعتقد أننا في ندوة هذا العام, وعبر أربعة وعشرين بحثًا, ومثلها من الجلسات, ومئات المداخلات والمناقشات - التي تشكل بدورها زخمًا من الأبحاث الإضافية - قد أخرجنا الحساسية من العتمة إلى النور, فزالت سلبياتها, أو على الأقل تراجعت.

          أما ما قيل, وهو مهم وكثير, فهو موضوع كتاب أكيد, وحافز لحديث أو أحاديث قادمة.

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سمو رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الذي رعى ندوة (العربي) وقدم لها الدعم وهو يتلقى درع الندوة من رئيس تحرير (العربي)





كان اهتمام المسئولين الكويتيين بضيوف الندوة كبيرا وقد استقبل وزير الخارجية الشيخ د. محمد الصباح وفدا ممثلا لضيوفها يضم رموزا عربية فكرية





ناقشت الندوة على مدى ثلاثة أيام 24 بحثا في مختلف جوانب العلاقة الثقافية بين مشرق العالم العربي ومغربه