بوذا وسندباد... الأصل والصورة

 بوذا وسندباد... الأصل والصورة
        

          الرحلات البحرية العربية إلى جنوب الهند والصين كانت مناسبة للتجارة, وللتبادل الثقافي أيضًا, أخذًا وعطاءً. من هنا تداخلت الصور, واكتسبت الشخصيات بعدًا جديدًا.

          كانت الرحلات التجارية تضم أعدادًا كبيرة من البشر: تجارا وبحارة وعاملين, جميعهم يمثلون المجتمع في ثقافته. ويحملون في رءوسهم فكر وثقافة بلادهم مثلما يحملون سلع بلاد المنشأ للبيع. وطبيعي أنه مع بلوغهم بلاد الهدف يحطون الرحال. ويستقر بهم المقام زمنًا, وتتعدد وتتنوع اللقاءات وموضوعاتها, ويقص أهلها عليهم حكاياتهم, ويمارسون أمامهم عاداتهم وطقوسهم وشعائرهم وعباداتهم. وبالمقابل يسمع المضيفون ضيوفهم ويشاهدونهم. وتتباين مشاعر هؤلاء وأولئك إزاء ما يسمعون وما يشاهدون بين إعجاب أو قبول أو رفض أو استهجان أو استغراب تعقبه تساؤلات واستفسارات في محاولة للفهم والمعرفة.وقد يعرفون ما لا يفصحون عنه فيظل مضمرًا, أو يلقون به على الأسماع محوّرا خشية رد فعل غير محمود, أو يعبرون عنه بالرمز ويكون للإبداع الذاتي دوره بما يضفيه على الأحداث وأسلوب سردها.

          هكذا كانت رحلات البحر عبر المحيطين الهندي والهادي وبحر الصين بامتداد سواحل جنوب آسيا وجنوبها الشرقي, أو رحلات طريق الحرير من الصين عبر شمال الهند وإيران والشام إلى بلاد الرومان. استمع العرب التجار الرحالة إلى قصص عن ديانات تلك الشعوب وأبطالها التاريخيين, وعرفوا أشهر العقائد ومنها البوذية وحكيمها جواتاما سيدهارتا (563-483ق.م) الملقب بوذا كما اشتهر عنه.

انتصار الحياة

          وعرف العرب, من بين ما عرفوا, على لسان البحّارة والتجار تعاليم بوذا وحياته ورحلاته ومعجزاته. واشتهر عنه أنه طرح الدنيا ومتاع حياة الأمراء وراء ظهره, وطوّف بأرجاء البلاد في رحلات مطردة متواصلة يواجه المشاق بابتسامة الصابر. لم تثنه الآلام وقسوة الأحداث عن مواصلة التطواف والتنقل من إقليم إلى آخر واعظًا مبشّرًا. ولعل أهم معجزات بوذا تتمثل في الانتصار على الموت, يعاني المحن ابتلاء, ولكنه بالصبر والإصرار يتجاوزها منتصرًا ليواصل المسيرة والترحال.

          تؤكد تعاليم بوذا أن العالم صيرورة متصلة, ليس عالم وجود ولا عالم عدم, وإنما تغير دائم. الحياة معاناة وابتلاء ومواجهة في صبر وحكمة واستنارة, سبيل المرء إليها الانتصار على النفس, أي الانتصار على شهواتها ورغباتها, فهذه هي الطريق الحق إلى الحياة, الحياة الممتدة في صورة عود أبدى أو تناسخ عبر دورات تسميها ظاهريًا (حياة أو موت) مثلما نقول (يقظة ونوم). وترى تعاليم بوذا أن التخلي عن كل ما نملك هو سبيلنا إلى السعادة والثراء الروحي, وهكذا كانت حياة بوذا كما عاشها وكما يرويها التاريخ تجسيدًا لتعاليمه. رحلاته تجسيد للخلاص أو فك كل ارتباط بالماديات من أجل تعالي الذات أو الخلاص, فهذه هي حياة الإنسان المستنير الذي حرر نفسه من أغلال الهوى والرغبة فأصبح حرا, والحياة انتقال متصل من مرحلة إلى أخرى.

الفناء في الوجود الكلي

          وليس غريبًا أن البوذية في جنوب شرق آسيا تسمى الهينايانا, وتعني المركب أو القارب الصغير, يمضي المرء في رحلة على طريق الخلاص. والاسم مستمد من واقع جغرافي لهذه المنطقة المليئة بالجزر وأشباه الجزر, وحياتها مع البحر دائمًا.

          وترى البوذية في إحدى صورها, مثل بوذية الزن في اليابان, أن المؤمن لا يشغل نفسه بالبحث عن حقيقة قصوى خارقة للطبيعة, بل يعنيه الفعل الدنيوي الآن, ولكن دون النظر إليه هدفًا لأنه هو ذاته زائف. يجلس بوذا, وكذا البوذي, على حطام الدنيا متأملا, يحرر نفسه من جميع العوائق والعقبات ومتاع الدنيا. ويمسك عن التفكير فيها, متأمّلا الوجود حتى يغيب الفكر الفردي الذاتي ويفنى المرء في الوجود الكلي, ويبلغ حالة اللاارتباط أو الانعتاق والتحرر. ذلك أن التأمل وسكينة النفس هما السبيل للعودة إلى الطبيعة الأصلية النقية للذات. ويكف البوذي في حالة الفناء أو السكينة عن التطلع إلى الماضي, وإنما يتجه بكل كيانه وفكره إلى المستقبل. تتحقق الحرية حين يتخلص تماما من دهارماس, أي حين يتخلص من موضوعات الفكر المادية ومن كل ما يربطه بها من أملاك ومتاع.

          هكذا حياة بوذا, والبوذي من بعده, شقاء ومعاناة وابتلاء, تخلص من كل متع الحياة الفكرية والمادية, حياة في جوهرها هرب من العالم المادي الذي يراه وهما, ألا نعيش مع الماضي, ولا نأسى على ما فات, وإنما استنارة ذاتية, وحياة مع المستقبل, ليست حياة استرخاء, بل جد ومجاهدة ودأب وسعي متصل دون أطماع, تطواف وتنقل من أجل المعرفة ونورانية النفس, سفرة دائمة لا تنتهي, هي التماس للحقيقة عشقا لها, وسعيا إليها في مكابدة ومعاناة دون أن نقول يوما (الحقيقة ملكنا).

          ولكن هل من النزق في شيء أن نتأمل أيضا سيرة حياة سندباد في تطوافه الدائم, ومعاناته ولحظات توحده إلى أن يأتيه الخلاص? كان سندباد رحّالة طوّافًا في كل أرجاء الأرض, في البر وفي البحر, لا يعود إلى وطنه إلا ليعد نفسه لرحلة جديدة, حياته ورحلاته دورات, عود على بدء, أو عود أبدى, يخرج ويعاني ويعود جديدا لدورة جديدة كأنها الرمز لدورات حياة الإنسان, مثلما ترمز البيضة في حياتنا إلى دورة حياة الكائن الحي.

سندباد ومعاناة على طريق الخلاص

          اعتاد سندباد في كل رحلة - دورة - أن يواجه الأعاصير والعواصف وخطر الموت المحتوم, يفقد كل متاعه, ويلقى نفسه وحيدًا أو متوحدًا يفكر في اللحظة والمستقبل دون الماضي, فكره الجديد استنارة جديدة, يجلس بعد العاصفة متأملا, وقد تحرر من دهارماس, أي من العوائق المادية, ومن متاع الدنيا, ذات مجردة من كل ما يربطها أو يقيدها إلا الحياة في جوهرها, إنه الوجود الحق الذي بعده الخلاص متمثلا في العودة إلى الوطن لتكتمل الدورة, ولكن لتبدأ أخرى.

          ولكن من هو سندباد? هل من أصل له في الحقيقة? هل هو رمز إسنادي له مدلوله ومرجعه خارج الكلمة الدالة? أم هو رمز ثقافي? والرمز الثقافي كما نعرف يصوغ مثلا أعلى من أفكار وسلوك وقيم ورؤية إلى العالم. إنه رمز مشحون بالعواطف والانفعالات. وهو في هذا وذاك مقبول داخل إطار ثقافي رمزي أعمّ وأشمل هو الإطار الثقافي الاجتماعي المحلي.

          سندباد الرمز الثقافي ليس موجودا مستقلا عن بنية ثقافية شاملة جامعة وقابلة له, وإنما هو. إن جاز القول. وحدة ثقافية رمزية متكاملة مع البنية الأشمل, وهذا هو الشرط الذي يكفل للرمز البقاء, وهنا تتجلى قيمة الصياغة الإبداعية المحلية - وهي هنا الصياغة العربية - في الجمع بين النقل والإبداع والبقاء ضمن شبكة المعاني والرموز والأفكار والأحاسيس بحيث تنتفي أي أسباب لغربة الإبداع الجديد, ويدخل في تناغم ضمن النسيج الثقافي. وغني عن البيان أن القصص الشعبي رواية ترويها ثقافة مجتمع ما عن رؤيتها للفرد/الإنسان/الكون/الطبيعة/الحياة/التاريخ. رواية تعرض ماهية الأشياء وتبرز ما نظنه ذا شأن وقيمة, رؤية تأويلية مبتكرة, ولكنها تدعو إلى أن تكون تقليدًا متعارفًا عليه.

          وسندباد الرمز شخصية ابتكرها الخيال الشعبي, تحمل خاصيات وصفات وقيمًا ودلالات من وحي الواقع بعد أن لوّنها ولحّنها خيال جمعي, وأضفى عليها طابعه وخصائصه. إنه رحالة لا يهدأ له أو به مكان في البر أو في البحر على السواء. قد تكون الخاصية الأولى هي التجارة حسب مقتضيات الواقع التاريخي والسردي. ولكن القصص المتوالي, المناظر لدورات الحياة, لا يحكي عن ثروات مادية جناها, وإنما البطل هنا وإن حمل في البداية اسم تاجر أو أمير يشبه القصص التعليمي الذي يفضي قيمًا على سلوك صاحبه, ويدعونا إلى أن نعلي من قدر هذه القيم.

          سندباد الرحّالة واجه الأنواء والأعاصير, حياته ابتلاء, خسر الدنيا ومتاعها مرات ومرات, وواجه الموت المحتوم ولكنه انتصر, وهذه معجزة, وانتصر ثانية وثالثة, وهكذا الحياة دورات ممتدة, ويبقى السؤال: مَن هو في التاريخ السندباد الرمز الذي كان الشرارة الأولى لهذا النص الخالد?

الإبداع المتجدد

          حري أن نتأمل حياة ذلك العصر التجاري, والمجال الجغرافي لنشاطه, وما انطوى عليه نشاطه من تفاعلات ثقافية ومحارم (تابوهات) دينية. وأعاجيب مشهدية, ثم روايات تحكي ما دار وما كان في سالف العصر والأوان بعد أن ينمّقها العقل, ويلوّنها الخيال, ويصوغها الفكر: الشعوري واللاشعوري على نحو مقبول ثقافيًا وعقائديًا, وابتكارًا محلياً, تتوالى الروايات الشفاهية مع توالي الرحلات, وتتنوع في المكان مع تباين الثقافات, ويكون للذاكرة وللنسيان دورهما في إحكام الصياغة أو في تعديلها ليحتفظ بها الخيال. إلى أن ثبتت الروايات على حالها بعد شيوع الكتابة, فالمنتج الشعبي حصاد تعاون كثيرين مع تعاقب الأجيال.

          ونلحظ تشابها يكاد يصل إلى حد التطابق بين قيم يدعو إليها قصص السندباد, وقيم تدعو إليها البوذية, المعجزة واحدة, وهي الانتصار على الموت, وهكذا كان السندباد: الحياة والموت وجهان لامتداد وجودي واحد دوراني المسيرة, ومع التماثل هناك يقينا فسحة أو مجال لكي يؤدي الخيال المحلي دوره بشروطه وما تفرضه ثقافات المجتمعات من قواعد حظر وقبول.

          بيد أن الدلالة المهمة هي أن حياة ثقافات البشر رهن التفاعل فيما بينها, أن يكون الحدث أو القيمة خامة يعيد الإبداع المحلي صوغها بشروطه ومزاجه, قد يكون العرب ممثلين في البيروني والخوارزمي وغيرهما أخذوا عن الهند, ولكن هذا لا ينفي القدرة الإبداعية العربية التي أضافت ومثلت بما أضافته نقلة كيفية في سلم تطور علم الرياضيات, مرحلة بين تاريخ ممتد على مدى مراحل متعاقبة.

          وإذ نقول إن دانتي أخذ عن أبي العلاء المطهر والجحيم أو أن ديكارت أخذ عن ابن سينا مثال الرجل المعلق في الفضاء. إلا أن هذا لا ينفي إبداعية السابق واللاحق معا, وأن الصياغة في الحالتين جاءت وفاء لحاجات جديدة ومتلائمة معها. فالإبداع الأصيل لا ينفيه سوى بلادة الفكر وانغلاقه وادّعاء التفرد دون الآخرين, ولا يقتل الإبداع سوى الزعم بأن الأصالة أصولية, بمعنى الإقرار بسلف مطلق البداية والنهاية معا, وينفي فعالية كل ما سواه مثلما ينفي حق التفاعل معه, وينفي التاريخ.

تشابه القيم والأسماء

          ولا يقتصر التشابه على القيم, بل يمتد إلى الاسم أيضا. هل اسم سندباد هو سند أباد. أي بلاد السند, مثل إسلام أباد وحيدر أباد وجلال أباد....إلخ, أي نسبة إلى أرض المنشأ أو المصدر? أم أنها سند بودا, وخفّف النطق ليصبح سندباد, بمعنى بودا السند? أو بودا السند والهند. وأبدع الخيال العربي في إعادة السرد وتصوير شخصية البطل, كما أبدع في إحكام قالب الرواية وتكييفها ثقافيا?! ولكن يظل تماثل الجرس والقيم بين سندباد وسند أباد أو سند بودا يلح علينا بالسؤال عن الأصل والصورة مع التسليم بروعة الفعل الإبداعي.

 

شوقي جلال   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات