تقنية (قنديل أم هاشم)

 تقنية (قنديل أم هاشم)
        

          لا تلفت رواية (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي الانتباه إليها بوصفها رؤية خاصة للعلاقة المتوترة بين الشرق والغرب فحسب, وإنما تلفت الانتباه بالقدر نفسه إلى التقنية التي تنبني بها, تجسيدًا لرؤيتها, وتأكيدًا لمغزاها.

          إن المعنى الخاص لرحلة د.إسماعيل بطل رواية (قنديل أم هاشم) لا يصل إلينا بتحولاتها خلال سرد مباشر يؤديه مستخدمًا ضمير المتكلم الذي يقترن برواية السيرة الذاتية في حالات عديدة من خلال سرد يؤديه راوٍ غير البطل, يحكي حكايته كما لو كان يحكي أمثولة يريد توصيل دلالاتها إلى القرَّاء على نحو غير مباشر, وذلك بما يجعل من شخصيات الرواية وأحداثها مجازات تؤدي إلى أهداف دلالية مباشرة وغير مباشرة. وقصر حجم الرواية قرين تكثيفها وشحنتها العاطفية المكتنزة التي تندفع كالطلقة, مؤكدة بالشخصيات والأحداث المتدافعة مجازيتها التي تدفع القارئ إلى التعاطف والتفاعل,ثم الفهم والتأمل. ولذلك, لا تخلو شخصية إسماعيل من دلالة التمثيل الكنائي الذي يزدوج معناه, فيشير إلى المعنى المباشر, أي الحقيقة المقترنة بإمكان الحضور الواقعي للشخصية المشاكلة لشخصيات العالم الذي انبثقت منه, كما يشير إلى المعنى غير المباشر, أو معنى المعنى بلغة عبدالقاهر الجرجاني, حيث يفضي المجاز إلى مقصده, ويدل على نوع ما يشير إليه دلالة الخاص على العام, أو دلالة اللازم على الملزوم.

          وأتصور أن هذا البعد المجازي للتمثيل الكنائي في الرواية هو ما يحتوي عناصرها الرمزية, ويؤكد توازياتها وتعارضاتها, مبرزًا التعدد الدلالي لحضور النور المقترن بضوء القنديل, واصلاً معنى البركة بالصفاء, والطهارة بالدنس, والبركة بالقذارة, ومن ثم الحضورالمزدوج للشيخ درديري, ذلك الذي يجمع  بين الروحي في أحواله الصوفية التي تتسع فيها الرؤيا, وينزاح الحجاب عما لا يراه غير المرضيّ عنهم, في يوم الحضرة, والحضورالدنيوي للشيخ نفسه الذي يتهمه زملاؤه بأنه يحرق النقود الواردة إليه من بيع القنديل في الحشيش, والذي لا يخلو طبعه من ميل إلى (القفش) والتنكيت, جنبًا إلى جنب الميل إلى النساء, فلا يمر العام إلا ويتزوج بفتاة بكر جديدة. وإذا كانت التوازيات تقابل ما بين نعيمة الخاطئة وإسماعيل الذي ضل السبيل, في زمن السنوات السبع التي تبدو كما لو كانت الحد الذي ليس وراءه حد, فإنها تعارض ما بينهما وبين فاطمة التي ظلت تنتظر في صبر كما لو كانت تجسيدًا حيًا للجملة التي ترد في النص عن الصبر الذي هو أساس مجاهدة الدنيا, والذي أوصلها - في النهاية - إلى ما كانت ترجو. واقترابها من العمى يشبه عماها الفعلي الطارئ في دلالة المماثلة الجزئية التي جمعت بينها وبين إسماعيل, خصوصًا في مدى المفارقة الدلالية التي يبدو معها طبيب العيون عاجزًا عن رؤية النور الحقيقي, فيقود المريضة إلى العمى الذي يعانيه قبلها, أو ينقل عدواه إليها, فلا بصر مع فقد البصيرة, ولا علم بلا إيمان, ولا نور يبدأ إلا من الروح الخاشعة.

دائرة المكان

          والواقع أن علاقات المكان المتمركزة في الميدان والجامع والحواري المحيطة به لها دلالتها. فنحن لا نرى في الرواية من المشاهد البصرية سوى الدائرة المكانية التي تتوسطها السيدة زينب, فهي القطب أو المركز الذي يبدأ منه كل شيء, حيث الحضور الرمزي لضوء القنديل, والذي يعود إليه كل شيء, تمامًا كرحلة إسماعيل التي بدأت بتوديع المقام وانتهت بالعودة التائبة في المقام. ويلفت الانتباه في الرواية أننا لا نرتحل مع إسماعيل إلى إنجلترا, ولا نرى شيئًا من الرحلة, لا البحر, ولا المدن, ولا العلامات المكانية للحضارة التي تكثَّف حضورها الرمزي في (ماري). وحتى ماري لا نعرف عنها شيئًا سوى أنها زميلة إسماعيل في الدراسة التي فضَّت براءته العذراء, وفتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال, في الفن, في الموسيقى, في الطبيعة, بل في الروح الإنسانية أيضًا. وهي آفاق يبدو الطريق إليها قائمًا على الأضداد التي أحالتها (ماري) في النهاية إلى مشابهات, فقد كان إسماعيل يرى الحياة برنامجًا ثابتًا بينما تراها (ماري) مجادلة متجددة. وكان يكلمها عن الزواج (المؤسسة الثابتة) فتكلمه عن الحب (المغامرة الدائمة). وكان يبحث دائما خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته, وتربيته وأصولها. أما هي فكانت تقول له: يجب أن تكون ذاتك هي ما تستند إليه وليس أي شيء خارجي. وكانت الحرية أخشى ما يخشاه, أما هي فما كانت تخشى إلا القيود. وكان يطيل الوقوف إلى جانب الضعفاء, ويحنو على المنبوذين من مرضاه. وكانت تقول له: (أنت لست المسيح) و(من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم). ولا تكف عن تأكيد أن العواطف الشرقية مرذولة مكروهة لأنها غير عملية وغير منتجة.

          وبديهي أن تتركز بؤرة السرد وتتباطأ عند هذه الثنائيات المتضادة ما بين (إسماعيل) و(ماري). وهي الثنائيات التي تختزل - في تضاد الذكر والأنثى - وغيرها من ثنائيات التضاد بين الشرق والغرب. ولكن فيما عدا ذلك لا نعرف شيئًا من ملامح (ماري) في علاقاتها بالأماكن التي قادت إسماعيل إليها, أو الأماكن التي طاف بها إسماعيل, فكل شيء عن المكان الذي ينتسب إلى الغرب واقع في علاقات الغياب, ولا تطوله عدسة السرد التي لا تنشغل أو تتركز إلا بعلاقات المكان الذي بدأ منه وعاد إليه إسماعيل مليئًا بالشوق والحنين. ولذلك ترى بعينيه فنار الإسكندرية والشاطئ الأصفر, ولا نرى من الميناء إلا ما يدفعنا إلى القطار الذي يدفعنا - بدوره - إلى القاهرة, حيث الميدان وبيت الأسرة والمقام وغيرها من العناصر المكانية التي تشبه حجر المغناطيس فيما تجذبه إليها من عناصر مكانية قابلة للتمغنط.

تجسيد المدلولات

          ويتحقق التمثيل - في هذا السياق - عن طريق نوع من التجريد لا تخلو منه شخصية إسماعيل إلى حد ما, ولا تخلو منه الشخصيات المحيطة به إلى حد كبير, فنحن لا نعرف تفاصيل كثيرة عن والد إسماعيل الشيخ رجب عبدالله, أو زوجته, ولا نعرف عن بقية الشخصيات الدالة في الرواية - ابتداء من فاطمة النبوية والأم والشيخ درديري - خادم المقام - ونعيمة وماري إلا من حيث هي أدوار تؤدى في تجسيد المدلولات الملازمة للتمثيل, فلا ندخل إلى عوالمها الداخلية, أو نستمع إلى أصواتها الخاصة في حبكات فرعية خاصة بها, وإنما نراها في علاقتها بإسماعيل الشخصية الأساسية وحدها, ولا نعرف عنها إلا ما يفيد في إضاءة الحدود الدنيا من صفات شخصية إسماعيل, ولذلك تبدو (ماري) في السرد مثل (نعيمة) بمنزلة تمثيل فرعي يخدم التمثيل الرئيسي للبطل الذي سقط عندما تخلى عن ميراثه القومي وإيمانه الروحي, ونهض من سقوطه عندما استعاد هذا الميراث, واستعاد نور الإيمان الذي ضل عنه. وإسماعيل نفسه, من حيث هو شخصية روائية, ينوس في المسافة الواقعة بين التجسيد والتجريد, يميل إلى التجسيد عندما نرى ما يميزه من صفات حياتية وتجارب عيانية, ويميل إلى التجريد عندما يؤدي الدلالات المقصودة منه, خصوصا من حيث هو تمثيل كنائي ينحو منحى (الأليجوريا) أو الأمثولة.

          ومن هذا المنظور, لا تخلو الرواية من مغزى أخلاقي, والأمثولة كالأليجوريا لا تفارق مغزى أخلاقيًا في تشكلها. هذا المغزى لا يفارق رؤية الكاتب المضمر الذي يختفي تحت قناع الراوي أكثر مما يختفي تحت قناع إسماعيل, ويحرّك بطله حركة مقصودة منذ البداية, ناثرًا في النص علامات استباق بالنهاية التي لابد أن تحدث في نوع من الحتم غير المعلن, كأنها النتيجة الطبيعية للمقدمات التي سبق الإعلان عنها, والتي تبدو إرهاصات بما هو آتٍ على سبيل الحتم. ولذلك, لا نعرف شيئًا متعينًا عن الرحلة, أو تفاصيلها, ولا تفاصيل الحياة في إنجلترا كما قلت, كل ما نعرفه هو أن شابًا انبنى وعيه في رحاب (السيدة) التي لم يتناقض مع روحانية حضورها الاستهلالي في وطنه, كما نعرف أن معتقدات هذا الشاب انقلبت رأسًا على عقب في إنجلترا بغواية العلم والحضارة اللذين تمثلا في امرأة, فعاد إلى وطنه ساخطًا على تخلّفه, متمردًا على معتقداته. وعند التجربة الأولى القاسية ينهار التوازن الظاهري المصنوع في الخارج, وتفشل الأساليب الأجنبية المستعارة التي لم تجد قبولاً روحيًا من ممثلي الثقافة المحلية أو الوطنية, فتحدث الأزمة التي لا يخرج منها الشاب إلا بعودته إلى جذوره, أي إلى ما كان عليه من إيمان روحي وانتماء قومي.

          هذه البنية المجردة للتمثيل تتراكم في وعي القراءة بواسطة سرد يختزل المسافات والأحداث, ويعبرها في جمل اختزالية من مثل (ومرّت سبع سنوات, وعادت الباخرة), أو (ومرّت أيام كثيرة وإسماعيل لا يغادر الفراش). وهي جمل تتضافر مع التعليقات الخارجية للراوي الذي يقول - مثلاً - بمناسبة عودة إسماعيل: (أقبل يا إسماعيل فإنا إليك مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرّت كأنها دهور, كانت رسائلك المتوالية, ثم المتراخية لا تنفع في إرواء غلتنا, أقبل إلينا قدوم العافية والغيث, وخذ مكانك في الأسرة, فستراها كالآلة وقفت بل صدئت لأن محركها انتزع منها. آه! كم بذلت هذه الأسرة لك). وهو تعليق يبدو شبيهًا بتعليقات الراوي الشعبي - مع اختلاف اللغة - على أبطال السير والملاحم الشعبية التي يحكيها, ويؤدي حكاياتها دراميًا بما يشرك معه المشاهدون الذين يتعاطفون مع الشخصيات الأمثولات.

دائرة روحية

          ويؤدي التشبيه وظيفته التوضيحية عندما يساعدنا نحن القرّاء على فهم الكيفية التي تحنو بها أسرة إسماعيل عليه, وتفانيها في توفير راحته, وذلك في (محبة وصلت من قوتها إلى عنفوان الحيوانية: الدجاجة القلقة ذات النظرة المتوجسة الحذرة ترقد على بيضها مشلولة الحركة ذليلة العين, كأنها راهبة تصلي). هذا هو شأن أسرة إسماعيل معه, في دائرة روحية مركزها القنديل الذي يبدو - في عيني إسماعيل - (وسنان كالعين المطمئنة رأت, وأدركت, واستقرت. يضفو ضوؤه الخافت على المقام, كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام في أحضانها. ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانًا, أو وقفات تسبيحها همسًا. يطفو فوق المقام كالحارس مبتعدًا تبجيلاً). وفي هذه الدائرة الروحية التي يحتل القنديل مركزها, جاذبًا إليه كل ما يقع في دائرة (التمغنط) الخاصة به, يلعب التشبيه دور الإرهاص التحذيري, خصوصا حين يسمع أهل بيت إسماعيل كلمة (بلاد برة) للمرة الأولى. عندئذ, تتردد الكلمة في جنبات البيت (الكلمة لها رنين وسحر تتسلل, كروح مبهمة لا يطمئن لها, إلى المنزل الذي لا تنقطع فيه تلاوة القرآن, وحيث الشرع هو الحق والعلم جميعًا, وثوت هذه الروح في ركن صغير من الدار وغطت رأسها وتمطت. ونامت منتصرة قريرة العين. بلاد بره! ينطق بها الأب كأنها إحسان من كافر لا مفر من قبوله لا عن ذلة, بل للتزود بالسلاح نفسه). وإذا كان التشبيه يؤدي دورًا تحذيريًا في سياق السرد على هذا النحو, مرهصًا بالمخاطر التي لابد أن تقع في - أو بسبب - (بلاد برة) التي لا تخلو من الكفر, فإن الدور التحذيري المقرون بالإرهاص يؤكد المعنى الاستباقي الذي سبق هذا التشبيه المتعدد المركب بفصل واحد, خصوصًا حين تسمع صوت الراوي يؤكد أن الزيت المبارك يشفي من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان, فلا بصر مع فقد البصيرة, ومن لم يشف فليس لهوان الزيت, بل لأن (أم هاشم) لم يسعها بعد أن تشمله برضاها, إما عقابًا على إثم, وإما لعدم تطهره بعد.

          واقتران التشبيه بالراوي دال في هذا السياق, فالراوي المغاير للبطل هو وسيلة من الوسائل التي يتباعد بها المؤلف المضمر أو المعلن عن مضمونه, نائيًا بنفسه عن الدفق العاطفي المباشر, أو التورط الانفعالي في الموضوع. ولذلك فصيغة الراوي الذي يروي عن غيره صيغة روائية فاعلة في تأكيد موضوعية التناول النسبية في النهاية, لأن الأشياء تُحكى من منظور هذا الراوي بأكثر من معنى, ولكن بما يؤكد انفصاله عن شخصية البطل التي يحكي عنها. ولذلك فحضور الراوي تقنية ناجعة في مراقبة الشخصية من مسافة جمالية كافية, تعين على التعليق الهادئ عليها وعلى الأحداث المتعلقة به. وعندما يستخدم الراوي التشبيهات في هذا المقام, ويؤثرها على الاستعارات, فإنه يؤكد ميله إلى الوسيلة البلاغية التي تبقي المسافة بين الأشياء, وتتيح له التعليق على ما يرويه, بل تتيح له بطبيعتها الذاتية تأكيد التمايز بين الموضوعات المدركة الواردة في السرد.

إرهاصات النهاية

          والنتيجة هي كثرة التشبيهات التي تتحول - بدورها - إلى تعليقات للراوي, فحشد الشحاذين المحيط بمقام (أم هاشم) يبدو كأنه (ثمار سقطت من شجرة الحياة فتعففت في كنفها) وإسماعيل يمضي في الميدان (تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط).

          وآخر ما يذكره إسماعيل بعد خروجه من المقام لوداعه قبل سفره هو ما شمله من أخمص قدميه إلى رأسه (كالتيار المندفع العنيف, يتأرجح فيه ملقى القياد, مقلوب الوضع, فقد خلاله الزمن ترتيبه, والمرئيات اعتدالها, والأصوات صدقها وفروقها). والتعليق المصاحب للتشبيه نوع آخر من الإرهاص الذي يستبق النهاية, مؤكدًا هيمنة الراوي الذي ينبهنا من خلال تعليقاته, والتشبيهات التي هي تعليقات تمثيلية, إلى ما سوف يقع في المسيرة التي يعرفها سلفًا, كما يعرف - مثلاً - أن (مصر راحة ممدودة الأيدي إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها) أو أن إسماعيل عاش في مصر قبل سفره (كذرة الرمل اندمجت في الرمال واندست بينها). أما في إنجلترا فقد (بدأ يشعر بنفسه كحلقة في سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطًا إلى وطنه).

          وتبدو له مصر (عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها فنامت). ولذلك يرى الباعة على المحطات - بعد العودة - في ثياب ممزقة (تلهث كالحيوان المطارد, وتتصبب عرقًا). ويعود إلى منزله ثائرًا على العوائد القديمة, مهاجمًا العلاج بزيت القنديل فيهبط على الدار (صمت مقبض كصمت القبور). ويلقي بقنينة الزيت إلى الطريق, فتتحطم. (وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة). ويعاني إسماعيل الأزمة الناتجة عن المعركة, ويختلط عليه الأمر فيبدو (كالطير قد وقع في فخ, وأدخلوه القفص, فهل له من مخرج?).

          والذي يطرح السؤال المقترن بالتشبيه هو الراوي الذي سبق له أن نبَّهنا إلى أنه لا بصر مع من فقد البصيرة, ولا شفاء إلا لمن كانت بصيرته وضاءة بالإيمان. ولذلك, فإن سؤاله عن المخرج يحمل في داخله الإجابة عنه, أو الإجابة التي سبق له الإرهاص بها, والتي تتحقق كما أرهص بها واستبقها في السرد, فيعود الإيمان إلى إسماعيل الذي وصفه أستاذه الإنجليزي بأن روح طبيب كاهن من الفراعنة تقمصته, ويشرق في داخله النور عندما يدخل المسجد بحثًا عن النور, في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى ونورًا, وفي ليلة القدر التي (هي في ذهنه غرَّة بيضاء وسط سواد الليالي). فكم من مرة (رفع فيها بصره إلى السماء فبهره من النجوم جمال لا يراها تنطق به بقية العام). وفي الساعة المعلومة من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر تشرق أنوار الإيمان داخل إسماعيل الذي تكتمل تحولاته بالإيجاب, وينجو من مخاطر (بلاد برة). لكن بعد أن تزود منها بما ينفع به شعبه الذي عاد إليه الإيمان به, مع النور المنبثق من جديد, فيرى العمق التاريخي لهذا الشعب, ابتداءً من (ابن البلد) الذي (يمر أمامه كأنه خارج صفحات الجبرتي). وانتهاء بالجموع التي ارتدت إلى الطفولة, ولو وجدت من يقودها لقفزت إلى الرجولة من جديد في خطوة واحدة, فالطريق ممدود, والمجد قديم, والذكريات باقية, والعمق التاريخي يجعل الأرض صلبة تحت الواقف عليها, المتطلع إلى الأمام فيها وبها.

الروائي والراوي الشعبي

          والراوي هو الذي يصوغ التشبيه والسؤال وأساليب التعجب والاستفهام والاعتراض, وذلك ليشعرنا بحضوره كما يشعرنا الراوي الشعبي بحضوره بواسطة أدائه الدرامي الذي يجعلنا نرى الأشياء بناظريه, والأبطال من خلال وعيه, كما لو كنا نرى موضوعًا من وراء زجاج ملون, فنلتفت إلى الزجاج وإلى ما وراءه في الوقت نفسه, مدركين تأثير الألوان على الموضوع المدرك. ولكن رغم وجود مسافة بين الراوي الذي يحكي والبطل الذي يحكى عنه بوصفه تمثيلاً, حيث يتأكد ازدواج المعنى, فإن هذه  المسافة ليست بعيدة تمامًا, فالراوي ليس غريبًا على البطل من حيث صلة الدم, فالدكتور إسماعيل هو عم الراوي الذي لا نعرف اسمه, لكننا نعرف أنه ابن أحد الولدين اللذين أنجبهما الشيخ رجب عبدالله قبل إسماعيل, أولهما اشتغل في التجارة مع أبيه, والثاني دخل الأزهر وتركه ليعود إلى البلد فقيهًا ومأذونًا. وأغلب الظن أن الراوي هو ابن الأخ الأكبر, وكانت له دالة على عمه الذي حكى له عن بعض أسراره, وخضع مثله - خارج دائرة السفر - للتنشئة الاجتماعية والثقافية والروحية في الدائرة المشمولة ببركة السيدة زينب. ولذلك, فهو ليس غريبًا تمامًا عن الموضوع, ولكن صلته به لا تدني به إلى حال من الاتحاد مع شخصية إسماعيل بل يظل غيرها, ربما بوصفه الجيل الأحدث, وربما بوصفه الصوت الذي يزعم الحياد وهو يقص علينا أمثولة د.إسماعيل. وأخيرًا, بوصفه المتأمل الذي لا يخلو تأمله من السخرية المقترنة بالمفارقات السردية, أو استخدام المفردات (العامية) في مواقع محددة, غير بعيدة تمامًا عن أهداف السخرية, حتى لو كانت على سبيل الحتم.

          ونحن نسمع آراء الراوي الذي يلفتنا إلى حضوره المستقل في حالات كثيرة, منها مفتتح الرواية حين يحكي عن تعلق الأسرة بأصغر أبنائها الذي برع في التعليم, فترعاه رعاية خاصة يراها الراوي (تعلق مسلوب الحرية والإرادة). يعني بذلك التعلق الذي يقترن فيه الواجب بالتضحية, والحب بالجمال الداخلي الذي ينعكس على الأوجه, فيبعث السؤال عن مصدره. وما من مرة يتمثل فيها الراوي هذه الأيام البعيدة - وتلك علامة تدل على عمره الزمني وقت الحكي - إلا وخفق قلبه بذكراها (ويبدو لي وجه جدي الشيخ رجب وحواليه هالة من وضاءة ونور. أما جدتي - الست عديلة, بسذاجتها وطيبتها - فمن السخف أن يقال إنها من البشر, وإلا فكيف تكون الملائكة. ما أبشع الدنيا لو خلت من مثل تسليمها وإيمانها).

          والتعليق الأخير للراوي هو نوع آخر من الاستباق, كما هو علامة على معتقداته التي تغدو سيرة د.إسماعيل تمثيلاً على أهمية الإيمان بها.

          ولا يتوقف الراوي - بعد ذلك - عن لفت انتباهنا إلى حضوره المستقل, خصوصا في المواقف الدالة, ومنها وصفه خال إسماعيل حين سفره, وكيف أقسم له عمه إسماعيل - فيما بعد - أنه كان يحمل في أمتعته قبقابًا. وأضيف إلى ذلك تعليقه على تحول إسماعيل من حب ماري إلى حب غيرها دون شعور بالخسارة, فهو تعليق الحائر المندهش من انقلاب العاطفة.

          وقس على ذلك ما ينقله عن عمه الذي وصفه له كيف تجاور فرحه بالعودة إلى أبيه وأمه مع نفوره من الدار التي رآها قبيحة غير صحيّة. لكن التعليق الذي يلفت الانتباه حقًا, خصوصًا لما ينطوي عليه من سخرية مراوغة, يقابلنا في الفصل الأخير الذي يصف فيه الراوي كيف افتتح اسماعيل -بعد أن عاد إليه نور الإيمان - عيادة في حي البغالة بجوار التلال, في منزل يصلح لكل شيء إلا استقبال مرضى العيون. الزيارة بقرش واحد لا يزيد. كل الزبائن حفاة وحافيات, جاءوا بهدايا من البيض والعسل والبط والدجاج. وتزوج إسماعيل فاطمة, وأنجبا خمسة بنين وست بنات كأنه لم يسمع عن تحديد النسل. وكان في آخر أيامه - كما يقول ابن أخيه - ضخم الجثة, أكرش, أكولاً نهمًا, ملابسه مهملة, تتبعثر على أكمامه وبنطلونه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية, وأصيب بالربو فاحتقن وجهه, وتندّى العرق على جبينه, وانقلب تنفسه إلى نوع من الموسيقى. ويضيف الراوي إلى الصفات السابقة محبة النساء التي تعني - فيما تعني - علاقات سرية متغيرة بمعنى من المعاني. علاقات اغتفرها له أهل الحي الذين أحبوه فدعوا له بالمغفرة, وكتموا أمره من فرط إعزازهم له, ولعلهم رأوا ما رآه ابن الأخ - على سبيل التخمين - أن حب عمه للنساء مظهر من مظاهر تفانيه وحبه للناس جميعًا. ولذلك فجملة (رحمه الله) التي يختتم بها الراوي الرواية, تحمل من علامات الإعزاز المضمر ما تحمله من علامات الملامة غير المنطوقة. وتلك ملاحظة تلفت انتباهنا إلى أن الأوصاف التي يصف بها الراوي - ابن الأخ - عمه د.إسماعيل  مشحونة بما لا يخطئ القارئ ما فيها من سخرية, فتبدو كما لو كانت احتجاجًا مضمرًا, أو ماكرًا, على نهاية د.إسماعيل.

العلم والدروشة

          هل يريد الراوي بهذه الخاتمة للرواية أن يؤكد سخريته من عمه الذي انتهى بصيغة العلم والإيمان إلى صيغة تجمع القليل من العلم بالكثير من (الدروشة), وأصبح نموذجًا يبعث على الضحك بما انتهى إليه, وبما أنجب من أطفال, وصل عددهم إلى أحد عشر طفلاً?! الأمر ممكن, ومن الممكن أيضًا أن يكون الراوي - وهو من جيل جديد - يريد أن يوصل إلينا رسالة مغايرة لرسالة عمه, ولكن عن طريق التمثيل بعمه. أقصد إلى رسالة مؤداها أن الاتّكال على الله مهم, وإلقاء العنان للحياة التي تمضي ببركة (أم هاشم) لا بأس به, لكن على ألا ينتهي الإنسان على هذا النحو. فما فائدة العلم إذا لم ينفع صاحبه, ويصون عليه صحته في الوقت الذي يصون صحة الآخرين? وما قيمة الابتسامة المراوغة في العينين اللتين يكاد يقفز منهما شيطان لعوب, كلها حب وفهم, وفيها خبث وطيبة, وتسامح وإعزاز, كأنها تقول لك قبل كل شيء: (ليس كل ما في الوجود أنا وأنت, هناك جمال وأسرار ومتعة وبهاء. السعيد من أحسها, فعليك بها), ولكن هل يعني الجمال القذارة, وهل يعني العلم وضع عيادة في منزل يصلح لأي شيء إلا أن يكون عيادة?! وهل أسرار المتعة والبهاء قرينة التطوّح بلا وعي, والتعلق بأنفاس أمثال سيدي العتريس, قرينة النور الذي يزيل الغشاوة عن العيون?!

          الحق أن الخاتمة تدفعنا إلى أن نرى (قنديل أم هاشم) من منظور جديد, كما أن تأمل الحضور المستقل للراوي من حيث هو تمثيل مواز لجيل جديد في الأسرة نفسها يضفي ضوءًا موازيًا. وإذا كان د.إسماعيل - حتى بعد ما انتهى إليه - يمثل المسافة الفاصلة بين الجد الأكبر الذي كان يدفع أولاده إلى تقبيل عتبة المقام وزمنه المغاير الذي أصبح تمثيلاً له, في مدى الثنائية المتجاورة للعمل والإيمان, فإن ابن الأخ الراوي الذي ينتسب إلى جيل جديد يدفعنا إلى أن نرى الجيل السابق بعين التأمل الذي لا يخلو نقدها من التفهم, ولا يخلو تفهمها من السخرية التي تنطوي على محبة, وذلك في المفارقة التي تدفعنا بإدراكنا لمغزاها الساخر إلى ألا نكون مثل د.إسماعيل في تفسيره العملي للعلاقة بين العلم والإيمان, وأن نخطّ لأنفسنا طريقًا مغايرًا, لا نتخلى فيه عن صيغة العلم والإيمان, ولكن بما يحيل المجاورة بين الطرفين - في الصيغة - إلى تفاعل إيجابي, تفاعل لا ينتهي معه الإيمان إلى دروشة واتكال, ولا ينقلب العلم إلى نزعة مادية آلية تخلو من القيم الإنسانية التي تنطوي على معان روحية ينتشي بها الوجود.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات