الغرفة المقابلة

 الغرفة المقابلة
        

          قبل أن تأتي الرياح وتجعّدها, وقبل أن يأتي المطر ويمحوها, قد يجد أحدهم هذه الرسالة التي أرميها من النافذة, مثل عصفور تحرّر من قيده. وأكون بذلك قد بُحت بمغامرتي. أنا لا أخدع نفسي: فأنا أعرف أن مغامرتي لا تُصدّق. وأنا أفترض حتى أنها عندما تُعرف, سيكون هناك من يشكّ في وجودي الفعليّ الملموس. لكنني أريد أن أقول للإنسان الشريف الذي يتطلّب عقلُه البراهين ما يلي: إذا كنت لا تخشى الحقائق غير المعقولة, فاصعد إلى الطابق السابع, الرقم ثمانية, في شارع (الجنة), وادفع الباب. أنا بانتظارك. ولكن في البداية, اسمع ما يلي:

          كنت أقطن في المبنى المقابل, منذ سنة, منذ يوم, منذ دهر. لا أعرف. أذكر أنه في ليلة صيف شديدة الحرّ, كنت أحلم بالنوم على الشرفة لأنعم بالنسيم العليل, عندما لاحظت نافذة مفتوحة تكشف عن غرفة يضيئها نورٌ دافئ قويّ, من الناحية الأخرى للشارع الضيق. فاعترتني الدهشة: عادة, خلف هذه الجدران, لا يظهر بين ستارين لا ينطبقان تمامًا سوى زوايا تالفة من شقّة متعبة, وصالات طعام فقدت رونقها, ومطابخ ضيقة تعمل فيها بفتور نساء قبيحات. بيد أنه, على الواجهة الرمادية, كانت الشقة المقابلة تنمّ عن ثراء غريب وخافت. إذ كانت تغطي جدرانها مكتبةٌ ذاتُ أبوابٍ زجاجية ولوحاتٌ تبدو قديمة. تحت السقف المزيّن بزخارف ناتئة تخرج على المألوف, كان هناك مصباحٌ عالٍ مصنوع من البرونز, يغطّيه قماشٌ بني اللون, وُضع على مكتبٍ ضخم وقديم مزدحم بأغراض غريبة, وكان ينير رأس عجوزٍ يبدو وكأنه يكتب بغضبٍ بين سورين من الكتب المكدّسة. وأظنني بدأت أحسد هذا العجوز الباحث في مخبئه المزخرف. وحين رفع رأسه ناظرًا إليّ بعينٍ ثاقبةٍ من تحت نظّارته ذات الإطار الحديدي, تبسّمتُ له. ثمّ, إذ خشيت أن أبدو قليل التحفّظ, أسدلت الستائر وخلدت إلى النوم. فرأيت كابوسًا قام العجوز الغريب فيه بدورٍ جدّ مخيف.

          في صباح اليوم التالي, راقبت من جديد النافذة عينها من الناحية الأخرى من الشارع. كانت مغلقة. ولم يطل انتظاري إذ سرعان ما فتحتها على مصراعيها امرأة عجوز ذات وجه منتفخ. تملّكني قلق قصير وشعرت فجأة بقلبي يخرج من جوفي. لم تكن هذه الغرفة التي تسبح في الشمس تلك الغرفة التي رأيتها وهي بارزة في وسط الليل تحت نور المصباح الساطع. فهي الآن ضيقة, جدرانها مطلية, لا أثاث فيها سوى كرسيّ وسريرٍ موضّب. في إحدى الزوايا, وراء ستار من ورق مطلي بألوان فاقعة, نلمح بالكاد مغسلة ليس إلا. تفحّصت الواجهة, كانت هناك نافذتان تبرزان للعيان مباشرة تجاه شرفتي. كانت إحداها تنير بيت الدرج, أما الأخرى فهي من دون ريب تلك التي لاحظتها البارحة. لذا لم يكن الخطأ واردًا. وعليه, قرّرت أنني وقعت ضحية بعض الهلوسات مما عكّر مزاجي طوال ذلك اليوم.

          ولحسن حظي, أجبرني عملٌ طارئ على إقصاء الانزعاج الذي راود أعماق نفسي. لكن ما إن عاد الليل وأردت الخلود للنوم, لم أستطع منع نفسي من إلقاء نظرة على الناحية الأخرى من الشارع. لم يكن يجدر بي فعل ذلك. على الجدار المقابل, كان العجوز يجلس, بالقرب من المصباح البرونزي المُضاء, في ركنه الوثير المفروش بالأغراض المثيرة للفضول, وبالكتب التي رثّ جلدها. لم يكن يكتب. كان يشبك يديه على الطاولة وكأنه ينتظرني. ما إن ظهرت على شرفتي, حتى أشار إليّ, الغريب إنني لم أتفاجأ, بل ألقيت عليه التحية. عندها, سمعت ضحكته الحادة وصوته الدافئ يناديانني في وسط تلك الليلة الهادئة:

          - تعال, هيا تعال! إلى الطابق السابع, الباب المقابل!

          لم أتردد لحظة واحدة في قبول دعوته. وعلى الرغم من أنني لا أذكر أنني غادرت شقتي وصعدت سلالم بنايته, فقد فعلتها دون أن آخذ وقتي لأرتدي ثيابًا لائقة. فوجدت نفسي في ثياب النوم, واقفًا أمام بابه المفتوح قليلاً, حيث استقبلني صوتُه المرتعش:

          - ادخل, ادخل يا سيدي العزيز. أهلاً وسهلاً بك!

          أطعتُ, فاجتاحني بنعومةٍ عطرُ عليّة مؤثر بشكل غريب, كما لو كنت تسلّلتُ إلى الذاكرة الهادئة لمنزل قديم جدا, خارج عواصف هذا العالم. نظر الرجل المتكئ على مكتبه إليّ وأنا أتقدم نحوه. مدّ يده وهو يسلّم علي بحرارة. كان قصير القامة, مقوّس الظهر, عجوزًا أكثر بكثير مما تخيلته. لكنه كان قويّ البنية, دائم الابتسامة. ولما كنت أشعر بالخجل من ثيابي المضحكة عمومًا, تمتمت بعض الأعذار التي لم يُعرها أيّ انتباه. أجلسني على كنبة واسعة, وقال لي بنبرة يعلوها الاهتمام البالغ:

          - تشكّل شرفتك نقطة للمراقبة ممتازة يا سيدي. لعلّ سؤالي سيبدو لك سخيفًا. لكن قل لي, هل سبق لك ورأيت نافذة هذه الغرفة مفتوحة في وضح النار?

          لم أستطع إلا أن أشاركه أوهامي وحيرتي. أنصت الرجل إليّ بعاطفة كبيرة ثم تابع بصوتٍ محموم:

          - لم تقع ضحية أيّ وهم. هل تعرف ما يحصل لي في كلّ مرة يبزغ فيها الفجر? أنام. ثم أستيقظ عند العصر وأنا أمام مكتبي. غريب, أليس كذلك? قريبًا ستختبر ذلك, والحمد لله ستختبره. منذ عام, أو منذ قرن, ما عدت أعرف, كنت أسكن في شقتك. وذات يوم, قمت على غرارك بالمراقبة عينها: غرفة الخادمة في الصباح, والمكتبة في الليل. لن يجدي نفعًا أن أشرح لك ما شعرتُ به وما قمت به, بما أنك حذوت حذوي. أما سلفي في هذا المكان, فكان عجوزًا سيئ الخلق, تخلّى عني دون أن يُطمئنني. بيد أنني لن أكون بمثل هذه القساوة يا سيدي العزيز.  بالمناسبة, ألا تزال الخادمة الجميلة عينها تفتح النافذة في صباح كلّ يوم?

          خلت العجوز مخادعًا, لاحظ الأمر على الفور, فقال لي بهدوء:

          - عند بزوغ الفجر أكون قد غادرت, ولا أدري ما ستكون وجهتي, أنت ستحلّ مكاني, ذلك هو القانون السائد هنا. لا تضيّع وقتك وأنت تجرّب سبيلاً للهروب. في كل مرة تحاول فيها فتح الباب ستنام لا محال. ويتعين عليك في كل ليلة أن تنسخ الكتب المكدّسة على الجدران على أوراق لا تنفكّ تتجدد. لا أدري مَن يبدلها. ستجدها في كل مساء على مكتبك مكان العمل الذي أتممته البارحة والذي يكون قد اختفى. أعلم أنّ ذلك منافٍ للعقل. أضف إلى ذلك أن هذه الكتب عارية من الاهتمام. فهي مجرّد معاجم وقواميس.

          غرق العجوز في كنبته في تأمل عميق ثم قال:

          - لقد فكرت مطوّلاً في القدر الذي كُتب لنا. برأيي تشكّل هذه الغرفة صلة الوصل بين عالمين, نوعًا من شبّاك إذا أردت. أجل, أظننا نقوم بالدور المتواضع للموظفين المخبرين لمصلحة مَن يعيشون في عالمٍ آخر, لابدّ من وجود غيرنا, الآلاف غيرنا, في كلّ مكان تقريبًا.

          نهضت وقد عزمت على الهرب. لا أذكر أنني وصلت إلى الباب. استيقظت وأنا جالس أمام المكتب القديم. وسمعت صوتًا غريبًا يقول من ورائي:

          - خيرٌ لك أن تعمل بجدية. في كل مرة تحاول فيها أن تُضرب عن العمل سيصيبك صداع أليم. عمت مساءً يا سيدي.

          نظرت خلفي. كنت لوحدي. ولم أكف بتاتًا حتى يومنا هذا عن البقاء وحيدًا, وعن العمل. أما شقتي التي تقع في الناحية المقابلة من الشارع, فيسكنها الآن زوجان شابان لا يهتمان كثيرًا بالنظر عبر النافذة.

          إن كنتم لا تصدقون قصتي, إن كنتم تشكّون في وجودي الفعلي, إن أردتم أخيرًا البراهين, لا يسعني إلا أن أقول لكم: اصعدوا إلى الطابق السابع, الرقم ثمانية, في شارع (الجنّة), وادفعوا الباب.

إنني بانتظاركم.

 

هنري جوجو   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات