السياحة في طائرة فضائية أصبح ممكنًا!

السياحة في طائرة فضائية أصبح ممكنًا!
        

          في 27 مارس 2004 نجحت عملية دفع نموذج لطائرة أمريكية جديدة, بلغت سرعتها - على ارتفاع شاهق - سبعة أمثال سرعة الصوت, الأمر الذي هزّ الأوساط المعنية بالطيران والسياحة, لأن هذا يحقق حلمًا استمر قرابة نصف قرن.

          هناك قول مأثور يردده كثيرون هو (أحلام اليوم هي حقائق الغد), لكن الحلم الذي تحقق أخيرًا على ارتفاع يعتبر فوق الغلاف الجوي وعلى مشارف الفضاء, سوف يغيّر كثيرًا من مظاهر الحضارة الإنسانية, فمنذ أكثر من أربعة عقود, والحديث عن السياحة في الفضاء, يتردد في وسائل الإعلام, ويقابله كثير من الناس بقدر من التهوين, على أنه من قبيل الترف العلمي, أو على أنه أمل بعيد المنال.

          لكن بعد أن تحقق الطيران على ارتفاع فضائي بطائرة بلغت سرعتها (7) ماخ أي سبعة أمثال سرعة الصوت, فإن الغد القريب سوف يشهد تطورات كثيرة, لأن تقنيات جديدة قلبت الأمور رأساً على عقب.

طريق التحولات

          على مدار التاريخ تتوالى الإنجازات الحضارية في حلقات, واعتلاء صفحة الجو بطائرة ذات محرك كان منذ قرن في قرية ساحلية في ولاية كارولينا الشمالية الأمريكية, يوم 17 ديسمبر 1903.

          كان المحرك المستخدم وقتئذ يعمل بحرق الوقود, ويعرف باسم المحرك المكبسي. لكن بعد ربع قرن بدأت حلقة تحوّل مصيري بفكرة اختمرت في ذهن الطيار البريطاني (فرانك ويتل) عن المحرك النفاث عام 1930, ونجحت أولى تجاربه على الأرض عام 1939, وبقي أمره سرًا عسكريًا حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها, ثم تحقق وضعه على طائرة أمريكية عام 1947, وبه تحوّلت الطائرات المروحية إلى نفاثات, وأمكن بها اختراق (حاجز الصوت).

          وبسبب هذا التحول تغيرت تصميمات الطائرات في أشكالها وأجهزتها وأجنحتها, ثم دخلت على المحركات النفاثة تعديلات وإضافات لزيادة السرعة, ونجحت على مضمار سباق السرعة, كثير من الطائرات العسكرية في تجاوز سرعة الصوت, والطيران بسرعات فوق صوتية, حتى توقف التاريخ في أوائل الستينيات من القرن الماضي, أمام ابتكار أول طائرة ركاب مدنية/سوفييتية نفاثة (توبولوف - 154) تطير بسرعة (2ر2) ماخ. وبعدها ظهرت أول طائرة ركاب أنجلو - فرنسية (الكونكورد) التي يحاكي هيكلها المدبب شكل المسلات الفرعونية, لتطير على السرعة نفسها, التي استقر البحث العلمي على أنها السرعة الآمنة لصحة الركاب. وأصبحت الكونكورد طائرة رجال الأعمال المفضلة, لخفضها زمن الرحلة من أوربا إلى أمريكا عبر المحيط الأطلسي إلى أربع ساعات بدلاً من ثمان. وقد أنعمت ملكة بريطانيا على صاحب فكرة المحرك النفاث بلقب (سير) وظل سيد المحركات للطائرات السريعة ردحًا طويلاً, كما تعددت صوره بعد تهجينه بالمحرك المروحي ليظهر المحرك النفاث - المروحي, والنفاث - التوربيني.

          غير أن الإنجاز الذي تحقق يوم 27 مارس 2004, كان بداية لعصر الطيران (فائق السرعة). وفي ركابه أتى ما سيجعل السياحة في الفضاء حقيقة لا تهويمات أحلام خلال أعوام قليلة.

عناصر التجديد

          التجربة المعنية تمت فوق صحراء (موهافي) قبالة سواحل ولاية كاليفورنيا المطلة على المحيط الهادي, وكانت لدفع نموذج لطائرة غير مأهولة, لها محرك يعمل بتقنية جديدة تتمثل في نوع الوقود وسرعة تدفق الهواء خلاله, فضلا عن أن طريقة دفع النموذج في أعالي الغلاف الجوي, والصعود به إلى مشارف الفضاء, كانت طريقة مبتكرة, ومتعددة المراحل, فالوقود لم يكن يمت إلى البترول بصلة, بل هو غاز الهيدروجين المسال تحت ضغط مرتفع, ويسمتد الأوكسجين اللازم لإتمام الاحتراق من الهواء نفسه, أما المحرك, فقد استحدثت فيه سرعة تدفق عالية جدًا للهواء, جعلته نوعًا جديدًا من المحركات النفاثة الذي أطلق عليه (المحرك النفاث التضاغطي).

          لكن قمة التجديد تمثلت في طريقة دفع نموذج الطائرة من الأرض لتكون بديلاً عن الصواريخ, فقد استخدمت قاذفة قنابل ثقيلة من طراز (ب -52) وعلق النموذج في بطنها, ولذا أطلق عليها الطائرة الأم. وصعدت به حتى ارتفاع (12) كيلومترًا, ثم تولى مواصلة دفعه, بعد ذلك, صاروخ من طراز (بيجاسوس) كان مثبتًا في مؤخرته, ليعزز عملية التسلق ليصل إلى ارتفاع على مشارف الفضاء قدره (30) كيلومترًا. وبعده بدأ (المحرك الهيدروجيني) في الأداء لتصل سرعة النموذج خلال (11) ثانية إلى (8000) كيلومتر في الساعة, وهي تفوق سبعة أمثال سرعة الصوت بقليل. ثم سقط النموذج بعد نفاد وقوده في المحيط.

          واهتزت أوساط المراقبين, لأن التجربة حققت رقمًا قياسيًا غير مسبوق فيما وصف بأنه بداية لعصر الطيران فائق السرعة. وهو إنجاز ستكون له عواقب كثيرة في عالمي الطيران والسياحة. ووصف بأنه لا يقل أهمية عن دوران (جاجارين) حول الكرة الأرضية منذ (44) سنة, ويمكن القول إن نجاح التجربة أسفر عن تحقيق أحلام كانت تراود المختصين منذ سنوات عدة, أولها الصعود بطائرة - وليس بسفينة فضاء - إلى ارتفاع يعلو حافة الغلاف الجوي ويعد على مشارف الفضاء. وثانيها نجاح (المحرك الهيدروجيني) كبديل لحرق البترول ليكون وقود المستقبل لا في الطائرات وحدها, بل في السيارات أيضا. وثالثها تجاوز السرعات فوق الصوتية المستخدمة في الطائرات المدنية وهي (2ر2) ماخ, أو في الطائرات العسكرية والتي لم تتجاوز (2ر3) ماخ في طائرة الاستطلاع الاستراتيجي الأمريكية (SR71) التي أحيلت إلى التقاعد في التسعينيات.

          ومحصلة هذه النجاحات تعني بداية عصر الطيران فائق السرعة, الذي سيجر في أذياله إشراق عصر (السياحة في الفضاء) بطائرات غير عسكرية يستقلها ركاب ليسوا من رواد الفضاء المحترفين.

في شرنقة الأحلام

          على نهج السينمائيين, يجب أن نعود بأبصارنا إلى الخلف لندرك ما كان في الماضي لنعرف قيمة ما سيكون في المستقبل, فحرق الهيدروجين في الطائرات كان فكرة بزغت في ذهن المهندس البريطاني الشاب (آلان بوند) عام 1982, توصل إليها بمعادلة علمية يستخلص بمقتضاها الأوكسجين اللازم لإتمام الاحتراق في المحرك, والهيدروجين من السهل حمله مضغوطًا من الأرض, أما الأوكسجين فاستخلاصه من الهواء في طبقات الفضاء القريبة من الغلاف الجوي يعتبر مشكلة نظرًا لضآلة نسبته فيه. وعلى أساس ما توصل إليه (آلان بوند) صمم محركا لطائرة نموذجية بريطانية حملت اسم (هوتول), وتبنت شركة (رولز رويس) البريطانية الشهيرة الفكرة, وصنعت نموذجًا للطائرة عام 1984 على أمل أن مشروع هوتول سيحقق آمال الطائرة الفضائية. وقد حاولت وكالة الفضاء الأوربية (ايسا) المشاركة في تبني المشروع, لكن البريطانيين لم يرغبوا في الإفصاح عن سر المحرك الهيدروجيني. وتوقف المشروع الذي كان سيجمع بين مزايا مكوك الفضاء ومرونة طائرات نقل الركاب, حيث كان مقدرًا أن تصعد (هوتول) حتى ارتفاع (25) كيلومترًا, وتصل سرعتها إلى (5) ماخ عندما تظهر إلى الوجود عام 1994.

          والحقيقة أن فكرة المحرك الهيدروجيني كانت فكرة ذكية, واحتفاظ بريطانيا بسرّه, حال دون ظهور الطائرة الفضائية عقدين كاملين, ولذلك انصرف التفكير إلى مواصلة التجارب التي كانت قد بدأت منذ سنوات عدة على المحرك الصاروخي في دول عدة منها الاتحاد السوفييتي السابق وأمريكا واليابان. ومن أنشط المحاولات المبكرة في أمريكا, كان مشروع الطائرة الصاروخية (اكس - 15) التي بدأت تجاربها عام 1960, وكان يقودها طياران.

          وجدير بالذكر أن أحدهما كان (نيل أرمسترونج) الذي أصبح فيما بعد أول رائد فضاء يخطو فوق القمر. لكن محرك (إكس - 15) لم ينجح في تجاوز سرعة (3) ماخ والتسلق حتى ارتفاع (100) كيلومتر, في رحلة لم تدم غير (30) دقيقة, تعرض خلالها الطياران لانعدام الوزن مدة دقيقتين.

          وبعد أن انبهر العالم بتكرار رحلات مكوك الفضاء بفواصل زمنية قصيرة بدءًا من عام 1981, أضاف الرئيس الأمريكي ريجان في عام 1986 إلى هذا الانبهار تفاخر أمريكا بإحياء فكرة الطائرة الفضائية. بما أسماه (إكسبريس الشرق) تشبهًا باسم القطار الذي كان يقطع رحلته عبر ثلاث قارات بدءًا من اسطنبول ونهاية بلندن.

          وفي إطار خطة قومية أمريكية تضامنت (200) شركة و(50) جامعة مع البنتاجون لوضع مشروع إكسبريس الشرق موضع التنفيذ على أمل الانتهاء منه قبل عام 1994, واتجه التركيز على محركات ذات نوعية جديدة, يمكن أن تحقق الطيران بسرعة أكبر من (3) ماخ, وانعقد الأمل على (المحرك النبضي) سكرامجيت, غير أن المصاعب لم تكن بسيطة لأنه بالإضافة إلى تصميم المحرك. كان من اللازم استحداث مواد وسبائك بديلة لتستطيع تحمّل درجات الحرارة العالية في الغلاف الجوي. ودرجات الحرارة المنخفضة في الفضاء, بالإضافة إلى الإجهادات الكبيرة نتيجة السرعات العالية. وفي عام 1989 أنتج نموذج للطائرة الفضائية حمل الرقم (إكس - 30) وتولت وكالة ناسا المشروع برمته لتشعب مسئولياته, ثم صنع نموذج آخر تحت رقم (إكس - 33) ثم توقف لصعوبات فنية.

          لكن حمى المنافسة بين الدول والشركات الكبرى لم تتوقف, لأن السياحة في الفضاء تبشر بسوق واعدة يمكن أن تدر أرباحًا وفيرة من المغامرين والمولعين بسباق السرعة, لذلك وضعت شركة (آشفورد بريستول) البريطانية تصميمًا لطائرة فضائية تحت اسم (أسندر). لكنه لم يتعد مرحلة المخططات, كما أعلنت شركة (ليسون - تونج) في هونولولو. عزمها إقامة منتجع سياحي دوار على مدار فضائي منخفض يتسع لمائة راكب. ولجذب الزبائن أعلنت أنه سوف يمكن للراغبين السباحة في الفضاء خارجه.

          كما سوقت شركة (ديملر كريزلر) لما أطلقوا عليه اسم الفقاعة الفضائية لتكون شبيهة بمكوك الفضاء في تكرار رحلاته, وتوقعوا خروج الفقاعة إلى النور بعد (20) عامًا.

          أما وكالة (ناسا) فقد تبنت مشروع إنتاج طائرة فضائية تحت اسم (فنشر ستار), أي مغامر بين النجوم, لتعمل قرب عام 2005 في نقل الحمولات, ثم لنقل الركاب على مدارات فضائية منخفضة بعد ذلك بأعوام عدة.

سياح الفضاء نجوم الشهرة

          هكذا أفضت أفكار الطائرة الفضائية إلى انتعاش مشاريع السياحة في الفضاء, وأصبحت ذريعة لحجز التذاكر مقدمًا لمن يريدون الاستمتاع بالنفاذ من الغلاف الجوي إلى ما فوقه, والتحرر مما يعيشه سكان الكرة الأرضية كأسرى للجاذبية, ورؤية حلكة الظلام في أعماق الفضاء, النجوم التي تتلألأ وتظهر وسط تيه الظلام كبقع مضيئة مختلفة الألوان والأحجام.

          وأصبح الحديث عن السياحة في الفضاء مادة مستطابة لوسائل الإعلام, بالرغم من أن الطائرة الفضائية لم تظهر إلى الوجود بعد, وشطح خيال البعض إلى التشويق بإمكان الخروج من الطائرة السياحية للسباحة خارجها. على غرار ما يفعل رواد الفضاء خارج السفن فوق المقاعد النفاثة. وتصاعدت نغمات دق طبول الإغراء, بعناوين جذابة, على غرار (فندق سبع نجوم يطوف بك حول الأرض) و(اقض إجازتك معنا في الفضاء), و(من نافذة الطائرة يمكنك مشاهدة نصف الكرة الأرضية).

          ولا يغيب عن البال أن هذه الدعايات كانت تستند إلى حدث مهم تحقق عام 1998, بإقدام رائد الفضاء الأمريكي العجوز الذي يحمل لقب سيناتور (جون جلين) على المشاركة في رحلة مكوك الفضاء (ديسكوفري), بالرغم من أن عمره تجاوز السابعة والسبعين, الأمر الذي كان له أثره في التقليل من التخوف من رحلات الفضاء, وإن كانت شروط اللياقة الصحية والنفسية أمورًا لازمة. وقد شهد عام 2001 تطورًا ملموسًا في سياحة الفضاء, وإن كان مغايرًا لما دقت له طبول الإعلام, ولكنه يعتبر تمهيدًا له. فقد دخل رجل الأعمال المليونير الأمريكي (دنيس تيتو) التاريخ, بكونه سائح الفضاء الأول بالرغم من أنه كان يبلغ من العمر (60) عامًا إذ حملته سفينة فضاء روسية من طراز (سويوز) إلى المحطة الفضائية الدولية, وبقي فيها ثمانية أيام. بعد أن دفع (20) مليون دولار للسلطات الروسية, التي دربته وجهزته للقيام بهذه المغامرة غير المسبوقة, والتي لم تشجعها السلطات الأمريكية وأبدت معارضة فاترة إزاءها.

          وبعد عام كرر سائح آخر المغامرة نفسها, وهو الشاب الجنوب إفريقي (مارك شاتلوورث) البالغ (28) عامًا, وبقي في المحطة الدولية عشرة أيام, شارك فيها الرائدين الروسيين الموجودين بها بعض المهام الخفيفة.

          ودفع رجل الأعمال (جريجوري أولسن) مبلغًا مماثلاً لحجز دوره ليكون سائح الفضاء الثالث في أبريل 2005, للبقاء في المحطة الدولية ثمانية أيام, والحقيقة أن هذا التحول بإقدام بعض المواطنين القادرين على دفع بضعة ملايين, أمر يعد من قبيل المغامرة, ولكن السياحة الفضائية المرتقبة - بعد سنوات قليلة - سوف يحققها مئات من ركاب الطائرات التي يدفعها محرك يعمل وفق إنجاز 27 مارس 2004 الذي أشرنا إليه.

أول التحديات مسابقة

          بعيدًا عن المغامرات وعناوين الإعلام الخلاّبة, مازالت أمام العلماء مصاعب لابد من تذليلها قبل أن تقل طائرة فضائية لفيفًا من الركاب, فلابد قبل ذلك من تطويع القدرات الصحية والنفسية لكل منهم, وتحديد كيف ستكون ملابسهم وأنواع طعامهم وحركاتهم أثناء الرحلة, ولاشك أن الخبرة المكتسبة من رحلات مكوك الفضاء ستكون في خدمة الحلول لهذه المصاعب.

          لكن لم يمض على إنجاز 27 مارس 2004 غير أربعة أيام. حتى أعطت سلطات الطيران الفيدرالية الأمريكية ترخيصا لشركة خاصة للقيام برحلات بطائرة تحمل اسم (Space Ship-1), وذلك للاشتراك في مسابقة سبق الإعلان عنها. وكانت المسابقة تحدد جائزة قدرها عشرة ملايين دولار للفريق الأول, الذي يتمكن من حمل ثلاثة أشخاص إلى ارتفاع (100) كيلومتر في الفضاء. غير أن الشركة الخاصة دفعت في أول أبريل 2004 بطائرة فضائية إلى ارتفاع (32) كيلومترًا في رحلة تجريبية, على أمل معاودة الكرة لبلوغ ارتفاع أكبر فيما بعد. وتبين وجود فرق عدة تستعد لخوض المسابقة منها فريق أمريكي, وفريقان كنديان, ورابع  بريطاني, ولاشك أن هذه المسابقة قد مهّدت طريقًا أمام صناعة السياحة في الفضاء, وبعد سنوات قليلة, ربما تشهد الأجيال القادمة وجود فنادق على القمر, ورحلات فوق سطحه, قبل أن يصل رائد فضاء إلى المريخ.

 

سعد شعبان   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رائد الفضاء الأمريكي جون جلين (77 عاما)





 





تصميمات مختلفة للطائرة الفضائية





طائرة ركاب فضائية أعلن أنها ستقلع من فوق الماء





طائرة الاستطلاع الاستراتيجي (اس.ر - 71)





الطائرة التجريبية (إكس - 30)