ما بعد زويل.. إطلالة على عالم (الأتوثانية)

ما بعد زويل.. إطلالة على عالم (الأتوثانية)
        

          عندما استطاع العالم العربي الفذ أحمد زويل, مع فريقه البحثي, أن يصل إلى رصد تفاعلات كيميائية تحدث في واحد على مليون من بليون من الثانية, وهو ما سُمِّي بالفيمتو ثانية, اهتز المجتمع العلمي, واعتبر إنجاز العالم العربي فتحًا جديدًا استحق عنه جائزة نوبل بجدارة. لكن مسيرة العلم لا تتوقف, وثمة حديث الآن عن (الأتو ثانية), وهي تساوي جزءًا على بليون من بليون من الثانية!

          يعتمد البشر في حياتهم بالضرورة على مقاييس زمنية متعددة ومتباينة في الوقت نفسه, على الرغم من أن هذه الحقيقة نادرًا ما ينتبه إليها الناس. فضربات قلب الإنسان تحدث عادة مرة واحدة كل ثانية في المتوسط. ولا تستطيع عين الإنسان أن تلاحظ حدثًا ما في أقل من واحد من مائة من الثانية, ولكن ثمة مقاييس زمنية أقصر من ذلك بكثير. فالتفاعلات الكيميائية - على سبيل المثال - بين جزيئات المادة تقدّر بالفيمتو ثانية أي بواحد على مليون من بليون من الثانية! وقد حصل عالمنا الكبير د.أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء عن أبحاثه في مجال الفيمتو ثانية. ولكن العلماء يجرون أبحاثهم في الوقت الحاضر على زمن يقل عن الفيمتو ثانية بألف مرة.. إنه (الأتو ثانية), فأي العجائب يمكن أن يكشف عنها هذا الزمن بالغ الضآلة والذي يصل إلى واحد على بليون من بليون من الثانية! (البليون = ألف مليون).

قفزة كُبرى تمهيدية

          لقد تأكد العلماء أنه كلما صغرت الفترة الزمنية, زادت صعوبة متابعة الأحداث. وقد أدى اكتشاف الليزر في الستينيات من القرن العشرين, إلى دفع العلماء خطوات للأمام في ملاحقتهم لتلك الأحداث. وأكثر أنواع الليزر شيوعًا تعمل بإثارة ذرّات لغاز خامل مثل النيون (وهناك ليزرات أخرى تعمل بأجسام صلبة مثل الياقوت الصناعي أو حتى بصبغات عضوية), وعندما تحدث حالة (استرخاء) لتلك الذرات وتعود إلكتروناتها إلى مواضعها الأصليّة, يتوهّج الغاز بطول موجيّ مميز للضوء سواء كان مرئيًا أو موجات دقيقة أو أحمر أو أزرق.

          ويتوقف هذا على الذرّة المثارة. ويدفع الليزر موجات الضوء إلى الانطلاق بشكل متوافق ومنسق مع تركيز الوهج في شكل حزمة كثيفة من الضوء, تتسم بالنقاء والتماسك.

          وفي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين, وصلت نبضة الليزر في القصر إلى 6 فيمتو ثانية, وبينما كان الباحثون قديمًا يضطرون إلى ملاحظة الصور التي تُلتقط قبل التفاعلات الكيميائية وبعدها, يمكنهم الآن رصد صور بطيئة لعملية التفاعل ذاتها.

          ومنذ ذلك الوقت بدأ العلم الجديد المسمى (كيمياء الفيمتو) يركّز على كيفية حدوث التمثيل الضوئي في النباتات وغير ذلك من التفاعلات الكيميائية الجزئيّة. وفي عام 1999, حصل العالم العربي د.أحمد زويل من جامعة (كالتك) بالولايات المتحدة على جائزة نوبل في الكيمياء, بعد نجاحه في إجراء سلسلة من التجارب الرائعة التي أوضحت كيف يتم تحطيم الروابط الكيميائية ثم إعادة تكوينها خلال فترة زمنية تتراوح بين 100 - 200 فيمتو ثانية.

          ونبضة الفيمتو ثانية مفيدة للغاية في حفر ثقوب بالغة الدّقة, ولأن طاقتها تتبدد بسرعة, فليس هناك وقت كاف للمادة المحيطة لكي تسخن وبالتالي يقل الاضطراب وتزداد الفاعلية. وتستخدم حاليا نبضات الفيمتو ثانية لحفر مسالك دقيقة للغاية داخل ألواح زجاجية خاصة, وهو تطور يمكن أن يُحدث ثورة في مجاليّ تخزين البيانات والاتصالات السلكية واللاسلكية.

          ويعكف الآن الباحثون في استخدامات الفيمتو ثانية, على تطوير وسيلة جديدة لإجراء جراحات في العيون بأشعة الليزر, تؤثر مباشرة في القرنيّة دون أن تتلف النسيج الذي فوقها.

          وأخيرا تم استخدام تقنية الفيمتو ثانية لتفسير الكفاءة الرائعة التي تتم بها بعض تفاعلات التمثيل الضوئي في النبات. إن الوحدة الجوهرية في تجميع البروتينات التي تتحكم في عملية التمثيل الضوئي هي مجموعة من الجزيئات, تمثل قلب التفاعل, تحفّز التفاعلات التي تحول طاقة الشمس إلى طاقة كيميائية لازمة لإنشاء المادة العضوية وتحيط بهذه الوحدة شبكة من البروتينات, تتكون أساسًا من اليخضور (الكلوروفيل) وعندما تسقط أشعة الشمس على هذه البروتينات, تقوم بامتصاص فوتوناتها الضوئية, ثم توجه طاقتها تجاه مركز التفاعل.

          إن هذا التوجيه هو الذي يسحر عقول الكيميائيين. فالعملية تبدأ بامتصاص جزئي من اليخضور لفوتون ضوئي, وعندئذ يحصل على طاقة من الفوتون. بيد أن تلك الطاقة تتحول إلى جزيء يخضوري مجاور يمررها بدوره إلى جزيء يخضوري ثالث وهلم جرا. وبهذه الطريقة تقفز طاقة الفوتون ما بين جزيئات اليخضور حتى تصل إلى مركز التفاعل.

          وبينما تنتقل الطاقة خلال شبكة جزيئات اليخضور, فإنها تغيّر من طريقة امتصاصها وإطلاقها للضوء, ويسمح ذلك بالكشف عن الطاقة المتدفّقة. وقد تتبع العلماء حركة الطاقة تجاه مركز التفاعل, وأوضحوا أن (القفزات) بين الجزيئات حدثت في بضع مئات من الفيمتو ثانية, ولكن لم يكن بوسع هؤلاء العلماء الإمساك بالطاقة, وهي تتحرك من جزيء إلى آخر.

          وأدت السهولة والكفاءة التي تقوم المنظومات الدقيقة للتمثيل الضوئي بتوجيه الطاقة بها تجاه مركز التفاعل, إلى محاولة بعض الكيميائيين ابتكار مماثلات صناعية لها. ويأمل الباحثون في إمكان الاستفادة من الطاقة الكيميائية, التي تولّدها تلك المنظومات لحفز عملية تخليق جزيئات عضوية مفيدة مثل الوقود. وربما سوف تنقضي سنوات قبل أن ينجح العلماء في محاجاة ما صنعته الطبيعة في بلايين السنين, إلا أن الباحثين يعتقدون أنهم سوف يتمكنون في نهاية الأمر من صنع منظومات فعّالة, تكون بمنزلة بوابة للإكثار من إنتاج المحصولات الزراعية.

          وباختصار فإن الفيمتو ثانية تعتبر فترة زمنية رائعة بالنسبة للتعامل مع الذرّات والجزيئات الكاملة. أما بالنسبة للفيزيائي المهتم بالإلكترونات التي هي أصغر وأخف وأسرع بكثير من الأنوية الذرّية التي تدور حولها, فإن المقياس الزمني (الفيمتو ثانية) يعد بطيئًا جدا, ولذلك فهم مهتمون بالتقدم خطوة أخرى إلى الأمام في اتجاه (الأتو ثانية).

تقنيات.. الأتو ثانية

          لطالما ظن الفيزيائيون أن نبضة الضوء المرئي, التي تستمر لمدة فيمتو ثانية, تتكوّن في الواقع من عدة نبضات ضوئية تستمر عدة أتوات ثانية, تمامًا مثلما تتكوّن الجملة الموسيقية من الكثير من النغمات الإيقاعية المتتالية.

          وعلى الرغم من ثورة الاكتشافات العلمية التي تحققت بفضل تقنيات الفيمتو ثانية, فإن بعض جوانب الكيمياء مازالت عسيرة المنال. فمهما كانت نبضة الاستكشاف المستخدمة, فإن كاميرا الفيمتو ثانية لا تقدم لنا سوى القليل من المعلومات عن مواضع الإلكترونات داخل مداراتها حول أنوية الذرات.

          وطبقًا للنظريات التقليدية, فإن الإلكترون يدور حول نواة ذرة الهيدروجين في كسر من الفيمتو ثانية, وعلى ذلك فإننا نحتاج إلى نبضات لا تتعدى بضع مئات من الأتو ثانية, (وتكتب هكذا 10-18 من الثانية) - لتتبع كل إلكترون في الذرّة.

          وإذا أمكن توليد نبضات تستمر لعدة أتوات ثانية, فإن عددًا من الظواهر الجديدة سوف يتيسر اكتشافها, وأحد الأمثلة على ذلك: سلوك الإلكترونات في الجزيئات المثارة, فالجزيء يكون أكثر ميلاً للتفاعل الكيميائي عندما تكون أحد إلكتروناته في حالة إثارة. إلا أن الإلكترون قد يعود مرة أخرى إلى حالته الأصلية قبل حدوث التفاعل. ومن الممكن أن تساعد دراسة حركات الإلكترونات المثارة في تفسير سبب حدوث بعض التفاعلات الكيميائية بينما يفشل بعضها الآخر في تحقيق ذلك.

          الواقع أن أشعة الليزر تضيء لنا التفاعلات الكيميائية, حيث تمكنت تقنية جديدة من تقنيات الليزر من الكشف عن أول صورة مباشرة للتفاعل الكيميائي فائق السرعة على سطح المادة, وكيفية سلوك جزيئات الأوكسجين على سطح من البلاتين. ويعتقد فريق الباحثين الذين قاموا بهذه التجربة أن طريقتهم سوف تسمح للكيميائيين بإمعان النظر في نطاق واسع من التفاعلات السطحية والتي يلعب الكثير منها دورًا رئيسيًا في تأثير المواد الحفازة التي تقوم عند إضافتها بتعجيل التفاعلات الكيميائية أو إبطائها, ولكنها تظل كما هي عند انتهاء التفاعلات.

          إن كيمياء التفاعلات التي تحدث عند سطح المادة تعدّ من الوجهة التقنية بالغة الأهمية فعلى سبيل المثال, يوجد الكثير جدا من جزيئات الأوكسيجين على حبيبات البلاتين. وطبقا لما يراه الباحثون, فإن الخطوة التالية هي حفز التفاعل بين جزيئين مختلفين من الأوكسجين مما يؤدي إلى خلق ثاني أكسيد الكربون وكذلك أول أكسيد الكربون. إن تتبع ديناميكية مثل هذا التفاعل سوف يساعد على فهم كيفية السيطرة عليه, ومن ثم ابتكار مواد مفيدة وأجهزة متطورة.

          وأخيرا أعلن العلماء في (معهد التكنولوجيا) بفيينا بالنمسا, أنهم نجحوا لأول مرة في توليد ومضات أشعة سينية (أشعة إكس) منفصلة تستمر لمدة تقاس بالأتو ثانية. والومضات المعلن عنها - التي تستمر لنحو 650 أتو ثانية - (كامنة) في الأشعة السينية بالطيف الكهرومغناطيسي, أثمرت فيما بعد عن أخذ قياسات بالأتو ثانية لظاهرة فيزيائية معينة, هي انفصال إلكترون عن ذرة, إثر (ضربها) بفوتون (وحدة الضوء) من الأشعة السينية.

          ومن واقع تلك التجربة وما سبقها من تجارب قامت بها جماعات بحث أخرى, أصبحت (فيزياء الأتو) في طليعة المجالات الفيزيائية, التي تتعامل مع أصغر وحدات قياس للزمن. كما أن (كيمياء الأتو) صارت حديث ما بعد (كيمياء الفيمتو) التي ابتكرها عالمنا العربي الكبير د.أحمد زويل.

          ومثلما يمكن للمصباح الومضيّ بآلة التصوير أن يعطي لقطات ساكنة لقطرة ماء ساقطة, فإن نبضات الفيمتو ثانية يمكنها أن تسجل مراحل التفاعل الكيميائي فائقة السرعة بين الجزيئات بعضها البعض, أما نبضات الأتو ثانية فإنها ترصد الحركات الأكثر سرعة للإلكترونات داخل الذرة, وفور إمساك الفيزيائيين لنبضة أتو ثانية, تأكدوا من فائدتها لهم. وصوّب العلماء نبضة أتو ثانية إلى ذرات غاز الكربتون, فأثارت نبضة الأتو ثانية ذرّات الكربتون وانتزعت منها إلكتروناتها. ثم تمكن العلماء من الحصول على قياس دقيق للغاية, في حدود بضعة أتوات ثانية, للمدة التي يحتاج إليها الإلكترون لكي يضمحل وهو تحوّل يقترن بانبعاث طاقة, ولم يكن ممكنا أبدا من قبل دراسة الخصائص الديناميكية (القوى المحركة) للإلكترونات من خلال مقياس زمني بالغ الضآلة إلى هذا الحد

          وحوّلت تلك التجربة عالم الفيزياء إلى خلية نحل, إذ أصبحت الإلكترونات الآن مجالا للبحث والاستكشاف للأسرار الغامضة للمادة, لقد بدأ عصر (فيزياء الأتو ثانية ليس فقط في تتبع تلك العمليات, ولكن أيضًا في السيطرة على (استرخاء) الذرة بعد (إثارتها) (أي زيادة طاقتها نتيجة لامتصاصها فوتونات أو نتيجة لحدوث تصادم بها), وهذا مثير جدًا, فعلى سبيل المثال فبالسيطرة على الطريقة التي تُطلق بها الذرات أشعة إكس من خلال مقياس الأتو ثانية يمكن تصميم جهاز ليزر يستخدم أشعة إكس, وهو حلم طالما راود مخيلة الفيزيائيين.

          كما أن صناعة أشباه الموصلات والترانزستورات والمعدات الإلكترونية الأخرى مثل رقائق الكمبيوترات التي نحتاج دائما إلى زيادة سرعتها, سوف تستفيد بالطبع من مقياس الأتو ثانية فائق الصغر. كما سوف تتيح تطبيقات كيمياء الأتو اكتشافات مذهلة في المجالات الطبية والمواد الوراثية (دنا ورنا) والأحماض الأمينية والهندسة الوراثية وابتكار أدوية جديدة أكثر فاعلية, بعد دراسة دقيقية لتفاعلاتها مع الخلايا بوساطة تقنيات الأتو ثانية.

توليد نبضة الأتو ثانية

          لكي يتمكن الباحثون من تحقيق توليد نبضة الأتو ثانية, ذلك الإنجاز العلمي الرائع فقد جهزوا أولاً نبضة قوية - بكاميرا الفيمتو ثانية - تستمر لعدد من الفيمتو ثانية ثم وجهوها إلى غاز النيون, وأدى التفاعل بين غاز النيون ونبضة الفيمتو ثانية إلى إنشاء نبضة تستمر لعدة أتوات ثانية في نطاق الأشعة السينية.

          وطبقا لإحدى الصور التي تم التقاطها, فإن نبضة الفيمتو ثانية (قذفت) بالإلكترونات خارج ذرات النيون, ونشأ عن التذبذبات الناتجة عن الإلكترونات - في وسط شعاع ضوء الفيمتو ثانية - نبضة من الأشعة السينية ذات أمد أقصر من الفيمتو ثانية.. هي الأتو ثانية.

          كما يمكن تصوير العمليات التي تتم في حدود نطاق الذرّة, عن طريق إطلاق نبضات ليزر فائقة السرعة, بالطريقة نفسها التي يتم بها (تجميد) صورة الرصاصة المنطلقة من المسدس, بوساطة آلة تصوير سريعة حركة المصراع, في هذه التجربة تمت إثارة ذرّة كربتون بواسطة نبضات سريعة من الأشعة السينية بغرض خلق (ثغرة) في الغلاف الداخلي لها.

          ويمكن تتبع إعادة تنظيم الإلكترونات في الذرة المثارة, عن طريق إطلاق شعاع ليزر متزامن وهكذا يتم رصد سلوك الإلكترونات صعودا وهبوطًا.

          وفي تجربة أخرى استخدم العلماء مرشّحًا ضوئيًا خاصًا لأشعة الليزر, واستعدوا تماما لاصطياد الأتو ثانية, ووجدوا أن ومضات الليزر فائقة القصر (التي تستمر لمدة 7 فيمتو ثانية) أدت إلى نزع الإلكترونات من أنوية ذرّات النيون وتحريرها منها تماما. ثم قامت نبضة الليزر بحمل تلك الإلكترونات, وعلى الفور جعلتها تصطدم بعنف بنواة النيون. وكان التأثير الحادث يشبه إلى حد كبير إطلاق رصاصة على ناقوس معدني. لقد أنتج الاصطدام طنينًا (نغمة نقية ذات تردد معين) متوافقا عالي التردد من الأشعة السينية. ثم قام الفيزيائيون بترشيح الضوء التوافقي في مرشّح لا يسمح إلا بمرور دفقات مختارة من الأشعة السينية, تشمل تلك التي تبلغ طولها 650 أتو ثانية فقط.

          لكن الضوء المرئي ليس هو النوع الوحيد من نبضات الاستكشاف التي يمكن استخدامها, إذ إن الضوء لا يُعطي غير معلومات محدودة عن تركيب أي مادة, ولذلك يستخدم الباحثون دفقات من الأشعة السينية. وعادة تحمل الأشعة السينية طاقة كبيرة لإثارة المواد المراد دراستها, كما أنه يمكنها المرور خلال الفراغات بين أنوية الذرّات ولأن الطول الموجي للأشعة السينية, مماثل لحجم تلك الفراغات فإن الموجات يتم حيودها (أي تغيير اتجاهها) ويؤدي هذا إلى حدوث أنماط من التداخل تتمثل في التقاء موجتين متساويتين في الطول مما يؤدي إلى اشتداد الحركة الموجية, وبدراستها يمكن تحديد تركيب الجزيئات المعينة.

          إن (مشاهدة) التفاعلات الكيميائية بهذه الدقة البالغة, تمكّن العلماء من رصد تأثير هذه التفاعلات وبالتالي التحكم في نواتجها الضارة التي قد تؤدي إلى تلوث البيئة.

          طبقًا للكتب الدراسية فإن التفاعلات الكيميائية عملية بسيطة, فلو أحضرت بعض المواد التي تتفاعل مع بعضها البعض, وخلطتها معًا وزودتها بالطاقة, إذا لزم الأمر, وفجأة تتكون لديك نواتج التفاعل. لكن عندما نهتم بتفاصيل قلب عملية التفاعل واللحظات الخاطفة التي تتحول فيها جزيئات المواد المتفاعلة إلى نواتج التفاعل, فإن الكتب الدراسية تكون غامضة إلى حد ما.

          ولكن عندما استنبط الكيميائيون تقنيات للنظر داخل قلب التفاعلات الكيميائية, فإنهم ابتكروا عالمًا جديدًا للدراسة. لقد نجح الباحثون لأول مرة في توليد نبضات من الأشعة السينية فائقة القصر, بحيث ترصد السلوك (الزئبقي - أي الصاعد الهابط - للإلكترونات داخل الذرّة.

          وباستخدام تلك النبضات كمصابيح ومّاضة, يستمر كل منها لنحو واحد من بليون من بليون من الثانية الواحدة (أتو ثانية), تمكن الباحثون من تتبع (وثبات) الإلكترونات في الغاز بين مستويات مختلفة للطاقة.

          ويدرك العلماء أن كل قدم تقني آخر, يؤدي إلى نبضات أصغر من الأتو ثانية, سوف يثمر في النهاية تطورًا علميًا هائلاً, وهذه بالضبط الخطوة التالية. وفي يوم ما - لعله ليس بعيدًا جدًا في المستقبل - حتى الأتو ثانية بالغة السرعة, سوف تقتصر على تحقيق بعض الأهداف المرجوة, وسوف تبدو الإلكترونات (بطيئة وكسولة)! وكلما تمكن العلماء من سبر غور كيانات أصغر وأصغر من المادة, الكواركات - على سبيل المثال - التي تكون بروتونات ونيترونات نواة الذرة, فإن العمليات الفيزيائية تصبح أسرع بكثير, ومن ثم فإن المقياس الزمني سيكون على الأرجح - في نطاق الزيبتو ثانية أي واحد من ألف بليون من بليون من الثانية ويكب (10-21)! وهناك جهاز ليزر يتم تصميمه في الوقت الحالي أطلق عليه (ليزترون) ليستخدم في إصدار (الزيبتو ثانية).

          وربما تتساءل: هل الزيبتو ثانية هو آخر المطاف في الإبحار في دياجير الزمن البالغ الضآلة? لن يتوقف العلم عند حدود معينة, بل سوف يتجاوزها إلى ما يفوق خيالنا العلمي. وسيكون الزمن المتناهي الصغر في بؤرة الأبحاث العلمية المستقبلية, وسيحصل الباحثون في هذا المجال على المزيد من جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء, وأتمنى أن يكون بينهم علماء عرب.

 

رءوف وصفي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أحد الأبحاث التي يجريها العلماء في مجال فيزياء وكيمياء الأتو





الذرة والنواة والكواركات.. والأبحاث المستقبلية في مجال الوحدات الزمنية المتناهية الصغر





نواة الذرة والإلكترونات ودراستها بوساطة تقنية الأتوثانية





أول صورة مباشرة لسلوك الإلكترونات داخل الذرة





ديناميكية الإلكترونات داخل الذرة.. والكشف عنها بوساطة تقنية الأتوثانية





نبضة الأتوثانية أثناء إحدى التجارب على غاز الكربتون