من تاريخ الفن العربي.. ذاكرة ازدهار الصورة

من تاريخ الفن العربي.. ذاكرة ازدهار الصورة
        

          لا يمكن عزل السيّاق العضوي الراهن للصورة المرسومة عن ذاكرتها الثقافية. فالعرب المسلمون يتعاملون مع فراغها على أساس أنه ورقة أو جدار أو مرآة, تقتصر على بعدين, وهذه هي الفلسفة التشكيلية التي ترسّخت تقاليد صناعتها خلال أربعة عشر قرنًا من أجيال المصوّرين.

          كيف يمكن كشف الخصائص الثقافية المتراكمة في هذه الذاكرة دون أن نكشف حجاب غشاوة الالتباس والشبهات التي زرعتها بعض الأفكار الأصولية في اللاوعي العام? وكان أكثر المؤرخين العرب هيأوا لهذا الالتباس بترسيخهم وتكرارهم لفكرة أن تاريخ الصورة ابتدأ من (نهضة) بداية القرن العشرين (أو منتصفه), متستّرين على خصوبة ذاكرتها, وكأن الفن التشكيلي هبط بمظلّة (فن الحامل) (اللوحة) من كوكب آخر. علمًا بأن تاريخ فن أي شعب لا يرتبط بالأداة, وإنما بالأبعاد الروحية المتراكمة فيها.

          يعود هذا الازدهار إلى ما هو أبعد من تاريخ التصوير الإسلامي, يصل حتى الأختام الدلمونية والألواح المنحوتة لسومر وأكاد وبابل وآشور وآرام وكنعان وتدمر والأنباط ومصر و(فريسكاتها) العريقة على غرار دورا أوروبوس. يفور هذا التصوير خاصة في الفن المسيحي العربي: النّسطوري - اليعقوبي - السورياني - الملكي - القبطي, والذي خرج من رحم تقاليد أيقوناته الفن العربي الإسلامي (ناهيك من التأثير الصيني).

          تبدأ حكاية الصورة والتصوير العربي الإسلامي, منتصف القرن الثامن للميلاد وبالذات في عام 751م وترجع إلى مجموعة فناني (أسرى سمرقند) الذين حجزهم القائد زياد بن صالح بعد معركة تاليس, واستقبال اختراع الورق الصيني وانتشاره مثل اللهيب, ليؤسس المكتبات ودور الحكمة والعلم منذ عهد هارون الرشيد ووزيره البرمكي ثم في عهد المأمون, وأصبح (حي الوراقين) أساسيا في خطط المدينة الإسلامية, وبدأت حركة الكتاب وفن النسخ بديلاً عن الرق والبردي. وأصبح الورق مدادًا للمعرفة والصناعة الذوقية النخبوية منها, والشعبيّة التي أسست لخصائص (الصورة التنزيهية).

          ابتدأ الرسم والتلوين من (التحليات القرآنية) المهاجرة إلى الهوامش ثم أصبحت هذه اللعبة الفراغية تقليدًا في رسم المنمنمات, التي عانقت شتى المعارف والآداب والعلوم, ابتداء من رسوم (كليلة ودمنة) وانتهاء بتصاوير المقامات والأغاني والكواكب الثابتة وعلم الحيل والميكانيك وغيرها, وعرفنا أسماء لفنانين كبار من مثال الواسطي, وبهزاد ومير علي وعثمان. كان آخرهم الجزائري محمد راسم في نهاية القرن التاسع عشر. تطورت صناعة الورق مع تطور الطرز والأقلام ومدارس النسخ والمحترفات الزاهية. وقد عرفنا العديد من الصناعات التصويرية الرديفة, ابتداء من فن الأيقونة المسيحي العربي, وانتهاء بالتصوير الجداري والزجاج المعشّق والفسيفساء والأقمشة والحرائر والتصوير على الخزائن وخشب العجمي ونحت البرونزيات (خاصة المجنحات) عى غرار (بحيرة الأسود) في الحمراء, ثم الحفر الفاطمي على العاج الذي عرف بموضوعات الطرب والموسيقى وجلسات الأنس. ثم هناك التصوير الشعبي الموسمي كالذي اختص بطقوس شعائر الحج. وانتشرت في الأحياء الحضرية خيام خيال الظل وعروضه مزدهرًا منذ بابات ابن دانيال في القاهرة (في القرن الثاني عشر). يكفي أن نراجع مذكرات فخري البارودي (المكتوبة في منتصف القرن العشرين) حتى ندرك مدى شيوع عروض عرائس خيال الظل في شتى الأحياء والمقاهي والمناسبات الاجتماعية, فقد ظل يعمل في جزيرة أرواد حتى عام 1962م. إذا أضفنا إليه جلسات الحكواتي في المقاهي العامة تبين لنا اندماج خيال الملاحم الشعبية في الصورة والتصوير والمحفورات الشعبية وصندوق الدنيا (العجائب) الذي استشرف عروض السينما, ناهيك من ذخائر ودكاكين مصوّري الزجاج من الخلف (المثبت) ما بين آخر فرسانه في دمشق أبوصبحي التيناوي وآخرهم في تونس الفرنيتي.

          غربت تحت ضغط الاستعمار الثقافي أغلب صناعات الصورة هذه, ولم يبق منها إلا موجات التصوير الشعبي العصامي, بين هؤلاء درر أصيلة لا تقل أهمية عن ذاكرة ازدهار هذه الصناعات النخبوية, من مثال: باية محيي الدين (الجزائر), وأحمد الحجري (تونس), عباس صلادي (المغرب), خليل زغيب (لبنان), فخر النسا (عمان). سجاد الحرانيه, ويصا واصف (مصر), شلبية إبراهيم (سورية).

إقصاء الذاكرة

          تحاول بعض الآراء المحافظة مسخ هذا التراكم بإدخاله في متاهة الحلال والحرام. يمثل الجدل الشرعي هذا جزءًا من الحركة المناهضة للتجسيد التصويري, نجده صريحًا في التوراة, ومثله ثورتان من (الأيقونوكلازم) لدى المسيحية الشرقية (القرنان الخامس والثامن للميلاد), واعتبر دومًا جزءًا من ظاهرة النقاهة من الوثنية, لاشك في أن دعوى التحريم تلتقي مع الاستعمار الثقافي الذي فرغ متاحفنا من هذه الذاكرة (ما خلا القليل في دار الكتب المصرية ودار الآثار الكويتية), دمرها هولاكو عام 1258م وحمل من بغداد أربعمائة ألف مجلد. بقي اليوم خمسة ملايين مخطوط بعضها مصوّر, كلها متداعية في طريقها إلى الاندثار, والمزادات العامة.

          من الواجب عدم خشية الفنانين من الخوض في هذا الموضوع على حساسيته لأنه يمسّ ذاكرة مهنتهم. دعونا نبسّط هذا الجدل ولو لمرة حتى لا نتوه في غيبيات لا طائل منها.

          فتاريخ ازدهار الصورة والتصوير في واد, والجدل حول مصداقيتها العرفانية في وادٍ آخر, وهو ما سأحاول تلخيصه كما يلي: (يؤكد الأزرقي أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل الكعبة بعد فتح مكة. قال لشيبة بن عثمان: يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي, ثم رفع يده عن صورة عيسى بن مريم وأمه . وظلت صور الكعبة هذه حتى عهد عبدالله بن الزبير.

          (يذكر الطبري أن سعد بن أبي وقاص عندما دخل المدائن (بعد موقعة القادسية), نزل (القصر الأبيض), واتخذ الإيوان مصلّى, وكانت فيه تماثيل جصّية لم يحولها, يقول: وظلت هذه (التصاوير) (يعني التماثيل) قرنين حتى وصفها البحتري, مستخدمًا عبارة الصورة بدل التمثال, (فإذا ما رأيت صورة أنطاكية ارتقت بين روم وفرس), هو ما يذكّر بأن المسلمين لم يدمّروا تماثيل أي حضارة وثنية (على عكس طريقة طالبان مع تمثالي بوذا).

          (يروى أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وضعت في بيتها سترًا عليها تصاوير فقال الرسول: أميطي عني, فإنه لاتزال تصاويره تعرض لي في صلاتي . وتقول عائشة إن الرسول صلى الله عليه وسلم نزع الستر فقطعته وسادتين كان يرتفق عليهما . هناك إذن فرق بين ما يلهي عن الصلاة (من مثال وقوف طفل أو وضع إناء زهور أمام المصلين) وما يلهي عن العبادة, وهكذا نجد جدران المسجد خالية من صور الأحياء, ابتدأت هذه العادة منذ عهد الوليد عند بناء فسيفساء الجامع الأموي في دمشق, لكن هذا لم يمنع من إنجاز الفريسكات الجدارية في قصور الاستراحات الأموية وتزيين أفاريزها بالتماثيل على غرار قصر الحيرة الغربي, وقد خلف لنا أحدها تمثالاً حجريًا للخليفة هشام نفسه (بداية القرن الثامن الميلادي).

          إذا عدنا إلى علاقة عائشة المنزلية بالرسول وجدناه مداعبًا لعرائسها ودماها ولعبها, هي القرينة التي أجاز على أساسها فقهاء المالكية النحت مع التصوير.

          أما اعتبار الفنون الجميلة ملهاة عن العبادة, فهي نظرة تعصّبية معادية للفنون, مناقضة لـ(الوسطية) في الإسلام التي تقول: (ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا), وتخالف حتى القرآن الذي يقول: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة  و وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها  . يؤكد البسطامي حول الإنشاد الصوفي. (مَن لا يتحسس الموسيقى لا يملك أذنًا, ومن لا يملك أذنًا لا يملك قلبه الإيمان). ومهما يكن من أمر فإن عرائس عائشة تذكر بأجيال من صناعة عرائس (خيال الظل) وفن القص الذي لم يتعرض مرة للشبهات التحريمية بل كان أداة تقويم الحاكم.

          هناك حوار بين الصحابي أبي طلحة الأنصاري وسهيل بن حنيف يشير فيه إلى عدم تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم للصور في الأقمشة إلا إذا كانت للشرك, في الوقت الذي كان عمر بن الخطاب (رواية البخاري) يمتنع عن دخول الكنائس لسبب ما تحويه من التماثيل والصور المعبودة.

          استمر هذا التكريم الذوقي للصناعة الفنية في التجليات الشوقيّة الصوفية حتى أن جلال الدين الرومي كان على قناعة بأن موسيقاه كانت تردد أنسامًا لحنية لطيفة من أشجار الجنة التي تصدر أجراسها أصواتًا غبطوية وجدية انتشائية. نعثر على إشارة نظيرة في (طبقات السلّمي) حينما أخذت أحد المنشدين غيبوبة لحنية, فلما أيقظه صحبه قال لهم عاتبًا: (كنت في الجنة وما تدرون).

          لا تسمح النّصوص القرآنية بأي التباس لأن التحريم يقتصر صراحة على الصناعة الوثنية: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون , أو ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين. إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون  . ثم في معرض تعداد نعم الله على سليمان, إذ سخر له الريح وأتاح له عينا تفيض بالنحاس المذاب وسخر له الجن تصنع له محاريب وتماثيل من زجاج ونحاس ورخام.

          ذهب القرطبي (متوفى 1273م) في (الجامع لأحكام القرآن) أنها تصوّر الأحياء والأنبياء والعلماء. وكذلك: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان  . يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس  وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذني . هو ما جعل أيضًا فقهاء المالكية يبررون جواز التصوير والنحت, مثل (المفسّر النحاس -950م). والمفسر الأندلسي مكي بن حموش (متوفى 1045م) في كتابه: (الهداية إلى بلوغ النهاية) وهو سبعون جزءًا في معاني القرآن, يجيز التصوير صراحة. من المثير أن الإمام القرافي (مالكي متوفى عام 1285م) كان فقيهًا مجتهدًا وممارسًا لصناعة الفن, يجيز تصوير الإنسان والحيوان في كتابه (الأحكام) (تحقيق الشيخ عبدالفتاح أبو غده - حلب - 1967م). راجع ص53 وص15, بعكس الإمام النووي الشافعي (متوفى 1333م مصر) فقد تمسّك بظاهر بعض الأحاديث, وحرّم الصورة سواء كانت بظل أو دون ظل (المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج). هو عكس ما يراد بالحديث: (إن الله جميل يحب الجمال) (رواه ابن عربي).

          ولاشك بأن إفتاء الشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية) قبل وفاته عام  1905, كان بمنزلة الحكم الفصل, فقد اعتبر الإسلام مباركًا للفن التشكيلي وأنه: (ليس هناك ما يمنع المسلمين من الجمع بين عقيدة التوحيد ورسم صور الإنسان والحيوان) ص 205-206 (الأعمال الكاملة - الجزء الثاني - د.محمد عمارة). ويقول إنه لا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم بحسّه الذوقي الرفيع أن يحرّض على كراهية الفنون والله يخاطبه: ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك . يتابع تلميذه د. محمد عمارة في كتابه (الإسلام وقضايا العصر) ص43: (قضية الفن التشكيلي) (....) واحدة من القضايا التي اتفق فيها المعادون (...) للحضارة العربية الإسلامية مع قطاع كبير من الفقهاء وأنصاف المثقفين (...) من الذين وقفوا عند ظاهر النّصوص, والمدلول الحرفي والجامد للمأثورات). ويرى بأن القرآن أناط تصوير الأحياء (بالمقاصد والغايات والنتائج), فإن كانت للشرك حرّمها وإن كانت للحسّ الجمالي باتت مرغوبة. ثم يسوق ملاحظة مهمة مرت معنا أمثلتها, من أن اللغة لعبت دورًا ملتبسًا, لأن الصور في الأحاديث النبوية يراد بها (الصنم والوثن المعبود). وهاك مثالان من هذه الأحاديث: الرجل الذي يدخل النار رجل قتل نبيًا أو قتله نبي أو يصوّر تماثيل . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: يجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد, ثم يطلع عليهم رب العالمين, ثم يقال أن تتبع كل أمة ما كانوا يعبدون فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب الصورة صوره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون . يبتدئ هذا الالتباس منذ عهد الصحابي عبدالله بن العباس عندما قصده مصوّر من العراق: قائلاً: (إني رجل أصوّر هذه الصور وأصنعها فأفتني بها), فأجابه: أنبئك بما سمعت عن رسول الله قال: كل مصوّر في النار, يجعل بكل صورة صورها نفسًا تعذبّه في جهنم  ثم أشار إليه إن كان لابد من أن يجعل الأحياء أقرب إلى النبات والشجر, (رواه ابن حنبل), هو الحديث المروي نفسه عن الرسول: من صوّر صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ . (رواه البخاري ومسلم وأبوداوود والترمذي والنسائي وابن حنبل).

          نقع في القرن السادس عشر الميلادي على إفتاء بالغ الأهمية قدمه إمبراطور الدولة المغولية علي أكبر خان, كان فقيهًا ورسام منمنمات قال: (لا يمكن أن يكون في التصوير أي درجة من درجات التقليد مع الطبيعة لأن المواد مختلفة).

          ثم إن التصوير من صفات الله الحسنى: كما هو قوله تعالى: وصوّركم فأحسن صوركم , و في أي صورة ما شاء ركّبك , وهو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء .

          ثم إن من أسمائه الحسنى أنه جميل, والحديث الشريف يقول: إن الله جميل يحب الجمال , رواه مسلم وابن ماجه وابن حنبل, ثم عبدالله بن مسعود. ورواية أخرى عن أبي سعيد: إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى نعمته على عبده . والنعمة هنا تدخل فيها موهبة الصناعة والإتقان. يقول الرسول: إني أرى الرجل فيعجبني فأقول هل له حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني . راجع مادة حرفة في (تاج العروس).

          ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تعليقًا على المجيدين لصناعة الطين في مسجد قباء بقوله: رحم الله امرأ أحسن صنعته , ويقصد ما قاله قبلا (أن الحنفي صاحب طين) مذكور في (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) نور الدين علي بن أحمد السمهوري. (دار الكتب العلمية - بيروت 1984 ج1 ص333-334).

          بقي أن نعرف أن تاريخ التصوير عمومًا لا يخلو من التزوير والضياع غير البريء, يتهم د.خالد الجادر ((المخطومات العراقية المرسومة في العصر العباسي:) - بغداد 1972 ص7) التاريخ الإسلامي المكتوب بالصمت, مستحضرًا مثالاً عما نقل عن المقريزي في الخطط ج2 ص318 من حديث لأحد المصورين عن معجم (طبقات المصورين) أو (ضوء النبراس وأنس الجلاس في معرفة المصورين (أو المزوقين) من الناس).

          نتساءل معه: أين هذا المعجم? ولمصلحة من ثقافيًا هذا الصمت المريب والإخفاء العجيب?

          يصف محمد ابن إياس في كتابه: (بدائع الزهور في وقائع الدهور) (طبعة دار الشعب مصر 1960م) رحيل صنّاع الفن عن القاهرة بعد مصرع طومان باي, حيث حملتهم مراكب السلطان سليم الأول (حوالي 1517م) إلى أسطنبول.

          ويتحدث كتاب الجبرتي (عجائب الآثار) عن المصورين واختصاصاتهم بالأحياء الآدمية وأنواع الحيوانات. من المعروف أن تيمورلنك أخذ معه من دمشق بين من أخذ الرسام أحمد بن عربش, والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.

الصورة التنزيهية

          يسمو بنا تحليل أكبرخان إلى أبعد من البحث عن براءة ذمّة شرعية للتصوير, نطل من خلال إفتائه على فلسفة الصورة التنزيهية غير التشبيهية - أي المنزّهة عن الوصف الواقعي - توصّل رسامو بلاطه في حينه لتسجيل مائتين وخمسين نوعًا من الطيور المنقولة على الطريقة الصينية عن الطبيعة, ولكن صيغتها الأسلوبية ستختلف جذريًا عن تضمينها في تآليف المنمنمات. تمامًا كما هو شطح أشكال الطيور العرفانية التي كانت ترسم مع نصوص ملحمة فريد الدين العطّار الصوفية المعروفة بعنوان: (منطق الطير) - منها الهدهد والطاووس, العنقاء (السيمورغ) والحمام, مثلها مثل طائر البراق المعراجي, لا يمكن أن تكون إلا كما هي عليه, ولكن حتميتها القلبية لا تتطابق مع الواقع المرئي.

          حين يشرح الإمام الغزالي لمريده (في كتاب (مشكاة الأنوار)) الفرق بين عين البصر وعين البصيرة (البصيرة القلبية) يتهم حاسّة العين بسهولة تعثّرها في الأوهام الظاهرية السبعة (ومنها أنها ترى البعيد صغيرًا والقريب كبيرًا). ندرك عندها أن الصورة في الفن الإسلامي وبمعزل عن التوجيه الشرعي تبحث عن الصورة التنزيهية البصيرية الكشفية أو الشطحية أو الحدسية, يشرح الغزالي ذوقيًا عقائد الفن الإسلامي في تنزيه المدلولات والمفاهيم والمعاني, وتطهير جسدها النوراني من مواصفات أصوله المادية وارتباطه بالجاذبية الأرضية ونواظم خط الأفق والمناظير ذات الظلال الهاربة باتجاهه, وبالإجمال فالصورة في هذا المقام تقتصر على المسطحات دون الأحجام وعلى بعدين وليس ثلاثة, بحيث يعوم الشكل (سواء أكان حيا أم نباتيا أم هندسيا) في فراغ فلكي. يقوم مبدأ سلم الكبر والصغر على أساس مفاهيمي أو معنوي رمزي, يتحمّل في تحليله تصوير الباطن والظاهر من خلال (المنظور المتوازي) الذي يكشف مقطع المشربيّة أو الفسقية وواجهاتهما الأمامية, أو من خلال منظور (عين الطائر) المتعدد الوجود في شتى أرجاء التكوين, وكأن عينه تحدّق في المشهد من مؤق القبة السماوية. تحمل الصورة منطق الورقة أو الصفحة, في حين تتوزّع المقامات اللونية وفق نوطة قلبية روحية لا علاقة لها بالواقع, فمجموعة الجمال في لوحة الواسطي (السائس) تصطبغ بشتى ألوان قوس قزح ما خلا اللون البني الوصفي. وهنا ندخل في أشد الأسرار الصناعية للصورة التنزيهية تعقيدًا, وهي التواصل بين الموسيقى والتصوير, وبالذات الموسيقى اللحنية الأفقية, والسطوح الكونية ذات البعدين. غالبًا ما كان رسامو المنمنمات يوزعون الألوان بالمقلوب حتى يتخلصوا من دلالات الأشكال ومعانيها المباشرة. فالرءوس والعمائم والأطباق تتحول إلى علامات موسيقية تصدح عقيرتها بالألوان المتزامنة.

          إن فلسفة التنزيه في الصورة تجعل من هيئة علي بن أبي طالب أو عنترة بن شداد لا يمكن أن تكون إلا كما هي عليه, متناغمة مع صورته في اللاشعور الجمعي, وإن كان لا يمكن تحقّقه في عالم الواقع, قد يلمّح له بسيفه ذي النورين, كما يلمح إلى النبيّ بنعليه, وإلى الكعبة بالمحراب أو للحج بالمحمل, إن صورة علي في هذا المقام أشد تنزيهًا من أي تعريقة نباتية علمية وهنا يحضر التناقض الثقافي التشكيلي بين شمال المتوسط وجنوبه, بحيث تقابل ثنائية: (تنزيهxتشبيه), ثنائية (تجريدxتمثيل).

          لذلك فإن عزل الحروف أو الرقش عن بقية الصورة يبدو ضربًا من الاستشراق أو التغريب, تتعايش كلها في ذاكرة الصورة في صيغة تنزيهية واحدة.

          لا ندري إذا ساعد صعود موجة (الحروفية) (أقصد الاستهلاكية خاصة الفرانكوفونية الوافدة من باريس وتونس والجزائر في العقدين الأخيرين). على إزاحة الصورة التصويرية عن جدار الذائقة العامة, فقد تزامن هذا الصعود مع صعود الرضا الأصولي على طمس الصورة مهما كان البديل, هو ما يثبته انحراف هذا الاتجاه عن المنطلقات العرفانية لمؤسسيه وروّاده في الستينيات: شاكر حسن والسليم, سمير صايغ وحماد وشبرين, وقد شرّدت بحوث الجيل التالي عن هيئة الحرف باتجاه بصري صوتي كما هو شأن يوسف أحمد ومهدي مطشّر, سعيد طه وعلي حسن, أحمد فؤاد سليم ولمخيس والقاسمي. المهم أنه ركب الموجة مستشرقو الحرف ومغربوه الذين يخطونه من الشمال إلى اليمين على الطريقة اللاتينية. وتحقق بذلك تغييب الصورة التصويرية أو التعبيرية التي ناضل من أجلها معلمو الخليج في منتصف القرن وما بعده, ابتداء من يوسف الناصر (البحرين) وانتهاء بصفية بن زقر (جدة) مرورًا بجاسم الزيني (قطر) وفتيح (اليمن) وأيوب (عمان) والريس (الإمارات) وسامي محمد (الكويت), وكان المشارقة سبقوهم بما يقرب من نصف قرن.

أصالة معاكسة

          يضع المستقيلون من جدل ذاكرة الصورة رءوسهم في الرمل, مدّعين أنهم يبحثون عن شكل عالمي يمثلّه وهم النموذج الغربي, ولكن هذا النموذج الفاقد للذاكرة غير موجود إلا في الخيال المراهق, فالتصوير القطلاني يرفض الانضواء تحت الخصائص الإسبانية, ولو كانت حساسية روما متطابقة مع باريس لما دعيت حلقة الثانية بـ(مدرسة باريس). كثيرًا ما نجد للاتجاه نفسه اسمين متباينين بسبب التباين الثقافي, على غرار تيار (الآربوقيرا) في إيطاليا واللاندآرت في أمريكا. كيف يمكن أن نخلط المدرسة الروسية في الموسيقى والتصوير (ما بين تشايكوفسكي وكاندينسكي), والمدرسة الهنجارية - المجرية -  (ما بين بارتوك وفازاريللي)? فاللاتينية عكس الجرمانية, والباسكية نقيض الغالية (في البلد نفسه فرنسا), ناهيك من تعددية الثقافة الأنجلوساكسونية والسلافية, لنتصوّر بعد ذلك المسافة التي تفصل التصوير الطاوي عن الآنكا والآزتيك, أو التي تفصل موسيقى شمال المتوسط (ديوان باخ) عن جنوبه (موسيقى المقام اللحنية).

          تعمّر الأصولية الأولى بداهاتها على مطلق التحريم (الفندلي) (للصورة) مستبدلة إياها بالفولكلور والتعاويذ والطربوش والبابوج والمناظر الأطلالية التي تستدر العواطف الرخيصة, ردة إلى عالم استشراقي عنصري ملفق يكذب تاريخ خصوبة الصورة ونخبويتها الذوقية والعرفانية, ويبحث غلاة الحداثة العولمية عن شكل ملفق آخر مطهر من (النوستالجيا) الذاكراتية, هو ما يتم تحت مسوغاته إخصاء وقطع سرة كل شكل أصيل ممتحن عبر أجيال. تتناقض دعوى الشكل دون ذاكرة مع فطرة العين والبصيرة, فالعين تسقط على المرئي أبعادها العاطفية الموشحة بالذكريات, لذا فهي ترى ما تحب أن تراه, حتى النقطة التي نطالعها في مجرات بطن السماء ليلاً, ما هي إلا ذاكرة ضوئية بثها أحد الكواكب, قد يكون قبل ملايين السنين, وقد تكون وصلت بصرنا بعد اندثاره. أما الفنّانون الذين يدعون أن أشكالهم مبتدعة من لاشيء, فهم يعيدون استهلاك خبرات الآخرين, أو يختلسون جاهزيتها في اللاوعي الجمعي بعد تهجينها ومسخها بحيث تبدو مثل مشية الغراب الذي يقلّد مشية الطاووس, فيفقد المهارتين معًا. تحضرني الصورة الساخرة التي ساقها مهندس العرب الأول حسن فتحي معلقًا على الأبراج الحداثية المستوردة إلى بلادنا دون حساب الشروط المناخية بأنها أشبه بـ(سوداني يرتدي ملابس لويس الرابع عشر). ولا حاجة بنا إلى التعرض لتجارب ادعائية تهجينية تصدمنا في المهرجانات التشكيلية العربية كل مرة.

          وبالعكس, فإن غلاة الأطلالية يتناسون أن إنجاب العمل الفني أشبه بالكينونة العضوية, لا يتم إلا في حاضنة التجربة الحيّة. وشبابية الولادة المتجددة, ضمن راهنية اللحظة الوجودية, هي التي لا تقبل صيرورتها, أي تكرار أو معاودة. فإذا كانت ذاكرة الصورة تمثل الشهادة المكانية (للثقافة) فإن جدتها وحداثتها تمثل الشهادة الزمانية للعصر.

          دعونا نراجع تأثيرات حادث انفجار (تشرنوبيل) في بداية الثمانينيات على التيارات المعاصرة, باعتباره مصابًا كونيًا عامًا غلّف كامل الكوكب بالإشعاع الذري, نعثر على حساسية جديدة في شعاعية اللون, وتسرّب تعابير جديدة نقدية: ابتداء من مصطلح (الإيكولوجية) و(الشامانية) (عبادة الطبيعة) وانتهاء بـ(الشعشعة). يكفي أن نتأمل تصوير غواتيلوب على مداخن الأبنية الحديثة أو أحواض مزروعات بيروجيرالدي حتى ندرك معنى شهادة المعاصر كضمير شمولي وليس عولميًا.علينا الاعتراف بأن حركة (الأصالة) في التصوير العربي المعاصر اليوم يطبق على نمائها فكا كمّاشة من الأصولية, والأصولية المعاكسة, تتمسك الأولى بالنكوص إلى الأطلالية الاستشراقية والتسويحية المتخلفة, وتسعى الثانية للخروج بأي ثمن من عباءة وأعباء ذاكرة الصورة. ألا يستلزم هذا الحال إعادة تقويم تجارب تصاوير تاريخنا النهضوي, وإعادة تأمل مواطن الأصالة فيها, ابتداء من راغب عياد وحامد ندا وجواد سليم وفاتح المدرس ويوسف جاها وأمين الباشا, وانتهاء بمحمد القاسمي وكركوتلي وعلي طالب وفتيح وآدم حنين وزيات وتحية حليم وشاديه عالم ورباب النمر وسعيد العدوي وصلادي, ويوسف الناصر وجاسم الزيني, ومئات آخرين يحتاجون إلى دراسة متأنية كما تحتاج ذاكرة الصورة وروافدها الصناعية التي مرت معنا بطريقة مبتسرة إلى مكتبات من الجهد والتحليل والتوثيق والطباعة والبحوث. علينا أن نبدأ في كل هذا من الصفر, لأنه مازال في مساحة الصفر.

 

أسعد عرابي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




منمنمة عربية في مخطوطة عن الفلك عام 1582م





رسوم كليلة ودمنة - القرن الثالث عشر - ابن المقفع





الحصان والسائس: مجموعة الأمير والأميرة - صدر الدين آغاخان للمصور ساولا - المرحلة المغولية - عام 1590م





إسكندر في رحلة بحرية - المدرسة الصفوية





مدرسة أكبر خان المغولية - طير عن الطبيعة عام 1560-1570م





مبحث في الحيوان (منافع الحيوان) ابن بختيشوع - صورة المؤلف مع الامير سعد الدين القرن الثالث عشر للميلاد