الواسطي - كلي.. حوار الشكل واللون

 الواسطي - كلي.. حوار الشكل واللون
        

          مع الواسطي لاينضب الحوار, فخياله الخصب وصياغة عناصر عمله المصوَّر, من استلهام تراثه فكرًا ولونًا, دلّ على عبقرية متجذّرة في التاريخ, وإشارات ومضت نستنير بها حتى يومنا هذا.

          صحيح أن مواضيع الواسطي مستوحاة من مقامات الحريري, ولكن طريقته في التعبير واستقلالية أسلوبه (نسبة إلى المنمنمات السائدة في عصره), هذا الأسلوب المتميّز بالعفوية والارتجالية المرتكزة على مخزون كثيف من الثقافة جعله ينوّع في توزيع عناصر لوحاته, في تآليف تُظهر مدى الغنى والجرأة في آن معا, وتخطّي المألوف آنذاك, ونحن نعلم ما تتمتع به منمنمة ذلك العصر من طرق تعبير منمقة ومدروسة ومتأنّية. هذه الصفات مجتمعة نحسها موجودة ولكنها بإمرة تلك التلقائية إلى حد العبثية, الفلسفية, لتأتي موافقة لشخصية أبي زيد بطل المنمنمات التي استطاع الواسطي إبرازها بفضل قدراته التشكيلية وموروثه الثقافي. هذه الحالة الفذة والنادرة, جعلته حيًا كي نستطيع اليوم التحاور معه بلغتنا, أو بلغته, فهي امتدت إلى عصرنا هذا وكأن لوحته جزءٌ من حركتنا الفنية الراهنة, إن من حيث المواضيع أو طرق التعبير.

          كي لا نسترسل كثيرا في الحديث عنه, لنرَ كيف يتحاور الواسطي مع كلي, ذلك الفنان المتميّز في فكره التشكيلي, والذي ترك بصماته على لوحات كثيرة على مدى أكثر من نصف قرن, هذا الفكر المرتكز على التحليل وإعادة التركيب المبني على أسس فلسفية تراكمية وكأن اللوحة هي الأداة المُثلى لنشر هذه التراكميات في حالات يتقاطع فيها المسرحي والموسيقي والشعري والمعماري والتلوين.

          هذه الحالة التحليلية التي انطلق منها بول كلي كانت واضحة ومفصّلة في الدروس المحضّرة لطلاب الباوهاوس التي جُمعت في كتب(1).

          بتحليله هذا وإعادة التركيب يرجع كلي إلى النقطة الأولى, محاولا بذلك الوصول إلى المركز الأعمق في التركيب الإنساني (الإبداع).

          ففي تقييمه للعمل الطلابي بتاريخ 27 نوفمبر 1923, لم يكن راضيا كل الرضا عن النتيجة, عندما وصفهم بأنهم حصلوا على شكل ما, ولكنهم لم يستطيعوا خلق هذا الشكل.

          وكان كلي يطلق اسم (construction interne) البناء أو التركيب الداخلي, نسبة إلى الحاجة الداخلية التي يُرجع إليها نجاح كل عمل فني كي يصل إلى الحالة الإبداعية.

          دون هذا الهدير الداخلي, يبقى العمل الفني في حالة من السلبية تُفقده ضرورته.

          تحليله كان بقصد العودة إلى أبجدية مستقلة تعيد صياغة العمل الفني مستقلا, ولكن في الوقت نفسه مرتبطا بباقي أبجديات التعبير الإنساني, أو بمعنى آخر, مُعيدا النظر بمفهوم الارتباط. فتبسيطه للعمل كان نتيجة تحليله وصولا إلى الحركة الداخلية الأولى: راصدًا الأسباب الأولى لحركة عناصر الطبيعة وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر. من هنا يأخذ الخط مفهوما فلسفيا في علاقته بالمساحة.

          وكذلك أراد بول كلي أن يصل إلى تحليل مماثل للذات الإنسانية, إن كان بواسطة الخط أو المساحة. وإن كان وجها أو مجموعة وجوه أشخاص. ولاتكاد معظم لوحات بول كلي تخلو من تعبير (وجهي) لكلٍ حالته الكونية. الوجه الساكن, الخائف, الجذل, اللامكترث... تعابير أتت بأقل شيء من الشرح وبأكثر ما أمكن من العمق.

          في وجه ساكن عند كلي نستطيع أن نقرأ هديرا من الاستفسارات الكونية المقلقة.

          الوجه الإنساني كان له حضور مميّز عند الواسطي. فأعماله قائمة على شرح مقامات, عناصرها الناس وتعابيرهم. محاولتنا للولوج أكثر في الحالات التعبيرية لهذين الفنانين تقتضي الوصول إلى الحالة الداخلية التي تفيض على العناصر, وتعطيها معاني الإبداع. كما أن تلاقي الواسطي - كلي كان حاصلا في المواضيع والحالات اللونية وبعض حالات التعبير حتى المُتخيَلة منها (سرياليتها).

الحالة اللونية (الحالة النفسية)

          ألوانهما ليست مستقاة من قاموس جاهز, يصنعان الألوان لتقول آراءهما. هذه الألوان, المفردات, تتشكل لتقول تأليفا, رؤويًا يرتكز على حالة حركية غنية. فلكل لوحة حركتها الخاصة التي تغرزك في تأملٍ يتخطى أن نقول فقط (هذا جميل), يتخطاه إلى معاني الحياة والموت, العبث والجد, التماسك والانفراط, البنيان والانفرادية.

          ففي لوحة الواسطي (قصر الملك), نستطيع أن نستشف الحالة العامة التي أوجبت هذه المجموعة اللونية القاتمة ذات التأليف المغلق من خلال المقامة التاسعة والثلاثين (العمانية), فهو يصوّر حالة معينة, يقول الحريري:... (حتى أفضينا إلى قصر مشيّد, له باب من حديد, دونه زمرة عبيد, فألقينا كلا منهم في جلد كسير وكرب أسير, فقلنا أيتها الغلمة لمَ هذه الغمّة? فلم يُجيبوا النداء ولا فاهوا بيضاء ولا سوداء...) فإذا نظرنا إلى لوحة الواسطي, نرى سبب قتامة الألوان وغياب الألوان الفاتحة والزاهية, ما عدا الجانب الأيمن حيث يوجد الحارث وأبو زيد, وسبب إضفاء هذه الألوان الفرحة عليهما لأنهما يمثلان فعلا حالة مغايرة لحالة الشبان الجالسين. يقول أبوزيد: (اسكن يا هذا واستبشر, وأبشر بالفرج وبشّر, فعندي عزيمة الطلق التي انتشر سمعها في الخلق). هذا الانغداق من لون وشكل نجد له مثيلا في لوحة لكلي: سطح دائريٌ مغلق قاتم, ومحاط بجهات أربع قاتمة بالرغم من وجود فسحتين من اللون الفاتح, ولكنها ضمن إطار الانغداق.

          فالحالة اللونية عند الفنانين هي قدرة تعبيرية داخلية تأخذك إلى مكان يستحثك للولوج إلى أبعد من اللون وحيثياته, إلى الأعماق وارتجاجاتها. وعندما تزهو الحالة الداخلية وتصبح جنائن, فسوف يكون للتنزه أمكنة وللراحة فسحتها البيضاء, وللأزرق مثلثه المنزوي, وللأصفر حشريته التي تقطع على الأزرق عزلته. ولا مبالاة الأبيض الذي يجعلك تستريح عنده من التنقل فتهدأ. أما الواسطي, فكانت نزهته واقعية, استفاض في تفصيل المهن وعلاقات الأشخاص الاجتماعية(2).

 

فاطمة الحاج   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من أعمال بول كلي: تحليل واعادة تركيب عبر فلسفة التراكم





الواسطي, قصر الملك, وجه 120





بول كلي, الملاك المسكين, 1939





بول كلي, العين, باستيل على خيش (1938)





الواسطي, المقامة الثالثة والعشرون





بول كلي, اخوة, 1939





الواسطي, مركب على الفرات





بول كلي, أسطورة الصيادين الثلاثة, 1938





بعض تفاصيل ومنمنمات الواسطي, يتردد صداها لدى بول كلي





بعض تفاصيل ومنمنمات الواسطي, يتردد صداها لدى بول كلي





بعض تفاصيل ومنمنمات الواسطي, يتردد صداها لدى بول كلي





الواسطي: قصر الملك, وبول كلي: تأليف مركزه أسود (1919) وثنائية مقاربة ومدهشة





الواسطي: قصر الملك, وبول كلي: تأليف مركزه أسود (1919) وثنائية مقاربة ومدهشة