هجرة النص بين أبي ريشة ونزار

   هجرة النص بين أبي ريشة ونزار
        

          طالعت في (العربي) العدد (550) سبتمبر 2004م ملف نزار قباني - عمر من الكلمات العِذاب - واستوقفتني الأبيات التي أوردتها الكاتبة سلمى الحفار الكزبري ص87 والتي مطلعها:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد


          مما جعلني أبحث في ذاكرتي عن أبيات جميلة قرأتها قديمًا للشاعر عمر أبي ريشة, وتحمل الموضوع والبناء أنفسهما, وعندما وجدت أبيات أبي ريشة, وجدت أنه كتبها عام 1953, على حين كتب نزار قصيدته (غرناطة) في الستينيات, وعلى وجه التحديد في الفترة من 1962 إلى 1966 وهي نتاج التجربة الإسبانية في مرحلة الانفعال القومي والتاريخي كما يسمّيها الشاعر في كتابه (قصتي مع الشعر).

          ولنبدأ بهذه الأبيات من قصيدة نزار (غرناطة) من ديوانه (الرسم بالكلمات) الصادر عام 1966. في هذه القصيدة يستيقظ الوجع التاريخي الأندلسي - على حد تعبير الشاعر - حيث يلتقي في القصيدة بالفتاه / التاريخ. وتتثاءب المرئيات لتفيق من سبات عميق استغرق سبعة قرون, وقد أتاح له المكان بسطوته التاريخية أن يتجول شعريًا في جنات العريف ومدخل الحمراء, وأن ينصت إلى الزقزقات والزركشات على السقوف بقول نزار:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهما تتوالد الأبعاد من أبعاد
هل أنت إسبانية? ساءلتها قالت وفي (غرناطة) ميلادي
غرناطة!! وصحت قرون سبعة في تينك العينين بعد رقاد
وأمية راياتها مرفوعة وجيادها موصولة بجياد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان (بلقيس) وجيد (سعاد)
ودمشق أين تكون? قلت ترينها في شعرك المنساب نهر سواد
في وجهك العربي والثغر الذي مازال مختزنا شموس بلادي
في طيب (جنات العريف) ومائها في الفل في الريحان في الكباد
سارت معي والشَّعر يلهث خلفها كسنابل تركت بغير حصاد
ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي وورائي التاريخ كوم رماد
الزخرفات أكاد أسمع نبضها والزركشات على السقوف تنادي
قالت هنا الحمراء زهو جدودنا فأقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها?! ومسحت جرحًا نازفًا وكتمت جرحًا آخرًا بفؤادي
ياليت وارثتي الجميلة أدركت أنَّ الذين عنتهمو أجدادي
عانقت فيها عندما ودّعتها رجلا يسمى (طارق بن زياد)


          هذه هي قصيدة (غرناطة) لنزار قباني, والتي نجد جذورها في شعر عمر أبي ريشة, ومن قصيدة له بعنوان (في طائرة) حيث يصوّر عمر أبوريشة قصيدته بالكلمات التالية:

          (كان في رحلة إلى الشيلي وكانت إلى جانبه حسناء اسبانيولية تحدّثه عن أمجاد أجدادها القدامى العرب دون أن تعرف جنسية مَن تحدث...).

وثبت تستقرب النجم مجالا وتهادت تسحب الذيل اختيالا
وحيالي غادة تلعب في شعرها المائج غنجًا ودلالا
طلعة ريا وشيء باهر أجمال? جل أن يُسمى جمالا
فتبسّمت لها فابتسمت وأجالت في ألحاظ كسالى
كل حرف زل عن مرشفها نثر الطيب يمينا وشمالا
قلت يا حسناء مَن أنت? ومن أي دوح أفرع الغصن وطالا
فرنت شامخة أحسبها فوق أنساب البرايا تتعالى
وأجابت أنا من أندلس جنة الدنيا سهولا وجبالا
وجدودي ألمح الدهر على ذكرهم يطوي جناحيه جلالا
بوركت صحراؤهم كم زخرت بالمروءات رياحًا ورمالا
حملوا الشرق سناء وسنى وتخطوا ملعب الغرب نضالا
فنما المجد على أثارهم وتحدى بعدما زالوا الزوالا
هؤلاء الصيد قومي فانتسب إن تجد أكرم من قومي رجالا
أطرق القلب وغامت أعيني برؤاها وتجاهلت السؤالا!!


          الجدير بالذكر أن كلا الشاعرين - أبي ريشة ونزار - لديهما الكثير من السمات المشتركة, وإن كان السبق فيها لأبي ريشة, فهو أكبر سنا من نزار وأسبق منه في قول الشعر - فهما من قطر عربي واحد - سورية - أجادا في الشعر وعملا في المجال الدبلوماسي.

          وُلد عمر أبو ريشة عام 1910م ودخل المجال الدبلوماسي سنة 1950 ثم عيّن وزيرًا مفوضًا لسورية في البرازيل ثم الأرجنتين ثم الهند. يقول عنه السفير والشاعر (بديع حقي) (إن عمر أبا ريشة الدبلوماسي لم يكن سفيرًا لبلده في دول شتى فحسب, بل كان سفيرًا للكلمة العربية الشاعرة الملهمة التي قدّر لها أن تمرع على شفتيه كما ولا أروع لتزهى به سورية معتزة بأن ممثلها في هذا البلد أو ذاك هو قمّة باذخة في الشعر العربي المعاصر).

          أما نزار قباني, فهو الأكثر شهرة بين شعراء العصر الحالي, ولد عام 1923 تأثر بالشاعر يحيى الغزال - الشاعر الأندلسي - في بداية حياته الشعرية ثم عدل عن هذا الطريق وأخذ طريقًا لم يسلكه شاعر من قبل أخرج به الشعر العربي من جل خصائصه وأكثر مقوماته.

          وبعد, إذا كنتم لا ترون معي أن النص السابق لعمر أبي ريشة قد هاجر موضوعًا ورؤية إلى نص نزار - وإن كان اختلاف المكانين في النصين لمصلحة (غرناطة) نزار قباني, حيث أتاح له المكان بسطوته التاريخية أن يتجوّل شعريًا في أرجائه إلاّ أن الطائرة كمكان لم تستطع أن تحد من شاعرية أبي ريشة في قصيدته تلك التي كتبها عام 1953م أي قبل قصيدة نزار بعشر سنوات.. فأرجو أن تعيدوا القراءة مرة أخرى.

صلاح عبدالستار الشهاوي
طنطا - مصر

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات