لكن (البقاء للأجمل)

لكن (البقاء للأجمل)
        

          في زمنٍ غدت فيه مظاهر القبح ليست خافية, وشرعة الغاب بين البشر متفشية, يهفو المرء عوضاً, أو قل إن شئت هروباً من ذلك, بإثراء وعيه الجمالي بترحال عبر الكون, ليستطيع تحمل وطأة هذا الواقع القبيح, بيد أن الوعي الجمالي يرتبط بالوعي الفكري ومحوره كيف تنظر للكون وللحياة والأحياء?, وكيف يمكن تفعيل الحواس لتتذوق الجمال?, وهذا هو المنطلق لإدراك الجمال الحقيقي.

          أقسام الجمال ثلاثة: مادية/ كونية ومعنوية/ نفسانية ومزيج بينهما, والسطور التالية ستشير للأول منها فقط  في محاولة لجذب الفكر والحواس لتذوق الجمال المادي/ الكوني في بعض حقائق الكون وأحيائه, يقول الرافعي في كتابه) من وحي القلم: (أحكم حكماء الدنيا لا يستطيع أن يتبين جزءاً صغيراً من الكون على حقيقته إذا كانت حواس الجسم غير مهيأة لذلك, ففهم جزء من الكون فهما صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه, فهو كله ذرة مكبرة إلى ما لا ينتهي ولا يحد).

          ولم تعترف النظرة القديمة للعلم ـ ومبناها مادي خالص ـ بعنصر الجمال كمبدأ من مبادئ العلوم, فهو ـ برأيها ـ لا يمكن قياسه أو وزنه أو اختباره, ولذا اعتبرته انعكاسا من المراقب للظاهرة وليس صفة من صفاتها الكامنة, يقول رواد هذه المدرسة أمثال: (ديكارت وسبينوزا ودارون وفرويد): (الجمال ليس صفة في الشيء المدروس, ولا يدل الجميل ولا المُبهج على أكثر من موقفنا العقلي أو الغريزي من الحكم على الشيء ذاته).

          ولكن ـ وبعد مباحثها في الفيزياء وعلم الدماغ والوراثة ـ رأت المدرسة الجديدة وروادها أمثال: (أينشتين وهايزنبيرج وبور وشرنجتون وأكلس وسبرى):(إن الجمال وسيلة هادية لاكتشاف الحقيقة العلمية ومقياس لها), فيقول الفيزيائي(لويس دوبرجلى):(كان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم), ويؤكد الفيزيائي (ريتشارد فينمان): (إن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها), بينما يعلن(أينشتين) أنه: (لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق وتناغم داخلي في الكون).

          وبحثاً عن هذا التناسق والتناغم الداخلي في الكون سعى علماء الفيزياء, منذ اسحق نيوتن(1642-1727م)  وحتى سبعينيات القرن الماضي,  ليكتشفوا ـ أخيراً ـ جمال (التوحد) الذي يشمل ظواهر الكون الأربع: الكهربائية والمغناطيسية والنووية والجاذبية, ومثلوا على ذلك: استقرار الأقمار الصناعية في مداراتها الثابتة حول الأرض إنما هو محصلة (تناسق بديع) بين قانون الجاذبية الأرضية وقانون القوة الطاردة المركزية.

          خلاصة القول: الجمال عنصرٌ أصيلٌ عند النظر للحياة والكون, فليس الأمر متوقفاً عند تلبية الضرورات من طعام وشراب وتناسل وركوب بل يُتجاوز ذلك بتلبية حاسة تذوق الجمال والحاجة إلى الزينة: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تُريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون . فالجمال قيمة معنوية مبثوثة في الكون, جماداته.. وأحيائه,  ففي الوجود الجامد الميت جمال كما الحال  في الوجود الحي, ولا ينبغي أن يُرى هذا الجمال المتغلغل فى الكون دون تذوقه, ورؤية مبدعه, ومن ثم حبه, إذ لا يُتصور محبة حقيقية إلا بعد معرفة وإدراك. ويبقى الترحال نشداناً للجمال وتذوقه كلما غدت مظاهر القبح بادية, وشرعة الغاب بين البشر متفشية.

د. ناصر أحمد سنة
جامعة القاهرة