حياة.. بين هجرات متعددة

حياة.. بين هجرات متعددة
        

          ألحّ علي أكثر من مرة بعض الأصدقاء أن أكتب مذكرات, أو ما يشبه المذكرات, أو أسجل فيها على الأقل أبرز المراحل, وأخطر المنعرجات, وما أكثرها, وكنت أقول دائما: كيف أستطيع أن أحشر هذه التجربة الطويلة - وقد شاءت الصدف أن تكون ثريّة ومتنوعّة - في صفحات معدودات, أو حتى بين دفتي كتاب. إن قصة حياتي طويلة, عريضة, ومليئة بالمغامرات والمنعرجات, ثم أتساءل: ما الجدوى من تسجيل هذه الذكريات, والخروج بها إلى الناس? ويأتي الجواب سريعا, مستغربا: كيف تقول هذا وأنت المؤرخ الذي أدرك سر كثير من الأحداث التاريخية, وما يكمن وراء قرارات مصيرية في حياة الدول والشعوب من خفايا بعد أن كشفت عنها مذكرات من عاشها عن كثب, أو أسهم في صنعها, وهنالك سبب ذاتي وراء التردد في تسجيل الذكريات, فالمرء لا يعترف بسهولة أنه قد آن الأوان لكتابة قصة الحياة قبل أن يعصف بها الزمن, وتصبح نسيا منسيا, ولعل الإدراك بأن الاطلاع على تجربة متنوعة وثرية قد يساعد الناس على فهم تجاربهم, بل قل على فهم تجارب الشعوب, وأعني بالخصوص قصص الحياة المتصلة بالشأن العام, وبنضال الناس والشعوب من أجل التحرر والتقدم.

          وقلت بعد تردد فلتكن التجربة الأولى وقفة في (مرفأ الذاكرة), مركّزا بالدرجة الأولى على علاقة القصة الشخصية ذات الطابع الذاتي بمنعرجات كبرى عاشها المجتمع العربي والدولي في النصف الثاني من القرن العشرين, ويبدأ الراوية في سرد القصة قائلا:

          حرمت ظروف الحرب العالمية الثانية الفتى من التعليم الحديث, فبدأ إعداده للالتحاق بالتعليم الزيتوني, وتمثل ذلك في حفظ القرآن الكريم, وفي التحلّق في مساجد القرية حول من تخرّج في الزيتونة وأصبح يعلم مبادئ اللغة العربيّة, وقليلا من فقه العبادات, ولم ير الفتى في المظاهر المادية للحداثة, وهو في التاسعة من عمره إلا المعارك الجوية بين الطائرات الألمانية, وطائرات الحلفاء, وكذلك المعارك البحرية بين الأسطول البريطاني, والأسطول الإيطالي الألماني على شواطئ قريته ذات الجذور البونيقيّة العريقة, وعرف في القرية مظهرين آخرين من مظاهر الحداثة: أولا المرأة الأوربية السافرة في الحي الإيطالي ذي الطابع المعماري الكولونيالي, وثانيا انبهاره بتلك الكلمات المرسومة بالحروف اللاتينية على سبورة دروس صيفيّة نظّمها تلامذة المعاهد الحديثة مساعدة منهم لأبناء جيلهم ممن حرمتهم الظروف من الجلوس على مقاعد الدراسة نفسها.

          وتبدأ الهجرة الأولى من القرية إلى العاصمة فيقيم في إحدى المدارس المخصصة لتلامذة الزيتونة في قلعة من قلاع الحركة الوطنية التونسية: الحلفاوين, ولم يقنع بأداء صلاة الفجر في الجامع الشهير بالحي: جامع صاحب الطابع, بل حرص أن يدلج إلى الجامع الأعظم: جامع الزيتونة ليتلو مع القراء ما قدر له أن يتلو معهم, معتبرا مدى حفظه الجيد للقرآن الكريم, ومع التدرّج في النظام الدراسي انتقل إلى قلب العاصمة, فأصبح يسكن بجوار قلعة أخرى من قلاع الحركة الوطنية: جامع الزيتونة, وما يحيط به من أسواق, ومؤسسات علمية. وسرعان ما اكتشف منبرا إصلاحيا رائدا من منابر الإصلاح في المجتمع العربي الإسلامي الحديث: منبر الجمعية الخلدونيّة فأصبح من رواد محاضرات المفكر الإسلامي المستنير محمد الفاضل بن عاشور, كما أصبح تلميذا بمدرسة الجمعية لتعلّم الحساب والعلوم الصحيحة.

جمر تحت الرماد

          إن جميع المؤشرات كانت تنذر في مطلع الخمسينيات بأن الجمر الكامن تحت الرماد ستنطلق شرارته, وأن الحركة الوطنية قد دخلت مرحلة حاسمة فوجد الفتى نفسه في سن مبكرة ملتحما بحركة طلابية ثائرة على النظام الزيتوني التقليدي, ومطالبة بإصلاحه فنظمت المظاهرات, واعتصم أنصارها بجامع الزيتونة مضربين عن الطعام, وتحول الإضراب إلى تظاهرة وطنية كبرى, وقد مهدت هذه الأحداث إلى اندلاع الانتفاضة الوطنية المسلحة في شهر يناير 1952, ووجد الفتى نفسه, يقود مع رفاقه مظاهرة انطلقت مساء يوم الخامس من ديسمبر, من السنة نفسها, من جامع الزيتونة نحو الإقامة الفرنسيّة العامة بالحي الأوربي, احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي الشهير فرحات حشاد, وقد اغتالته صباح اليوم نفسه منظمة غلاة الاستعماريين الفرنسيين (اليد الحمراء).

          وبعد سنوات قليلة من النضال الوطني والطلابي وجد الفتى نفسه بين ركاب الدرجة الثالثة على ظهر سفينة تمخر البحر في اتجاه ميناء مرسيليا وتبدأ مع ذلك الهجرة الأولى خارج الوطن, وقد كانت إلى بلد رأسمالي عريق من بلدان أوربا الغربيّة أو بلدان العالم الحر, كما كانت تسمى أيام الحرب الباردة. وكان الانبهار كبيرا, والصدمة الحضارية عنيفة, إذ انتقل الفتى بين عشيّة وضحاها من قلب مدينة عربيّة إسلاميّة بأسواقها التي هي امتداد لأسواق المدينة العربية في العصر الوسيط, وبمؤسساتها التعليميّة التقليديّة إلى مدينة النور: باريس, وسرعان مانسي المساجد وحلقات القراء فيها لتعوضها مقاهي الحي اللاتيني نهارا, ونوادي موسيقى الجاز بكهوف الحي الباريسي الشهير: سان جرمان, ولم يذهب به الانزلاق بعيدا فلم يهمل أمرين أساسيين: التردّد على مناهل المعرفة, والعمل السياسي.

ثائر تحت العمامة

          اكتشف الفتى الزيتوني في باريس أنه كان ثائرا تحت العمامة, لما انخرط في حركة النضال الوطني الطلابي في سن مبكرة, فشارك في المظاهرات من أجل تحديث التعليم الزيتوني, وضدّ النظام الاستعماري الفرنسي, إذ وجد نفسه شغوفا بحركات اليسار الفرنسي دون أن يدرك يومئذ الفروق بينها, وأن يعرف موقفها من حركات التحرّر الوطني, وبخاصة موقفها من الثورة الجزائرية, ومن القضيّة الفلسطينية, وشاءت الصدف أن يقترح عليه الانضمام إلى وفد طلابي لزيارة الاتحاد السوفييتي بدعوة من منظمة شباب الحزب الشيوعي السوفييتي (كومسومول) فركب القطار من باريس إلى موسكو, وكان ذلك غداة المؤتمر العشرين, وهو أشهر مؤتمرات الحزب طوال تاريخه المديد, إذ فيه قدّم خروتشوف تقريره السري الذي انتقد فيه ستالين, وقد هز البلاد هزّا, وكان السوفييت يتحدثون عنه همسا, ولم يشر إليه المسئولون الذين استقبلوا الوفد, وشعر بالتحول الذي أحدثه المؤتمر العشرون لما نزل في طريق العودة بالعاصمة البولندية: فرصوفيا, وشارك في مظاهرات العمال احتفاء بعودة كوملكا إلى السلطة, وقد تزعم الحركة التصحيحية واعتبرتها الستالينية مروقا وانحرافا, واتضح فيما بعد أن المقاومة السرية للنظام الشيوعي في البلد المجاور قد أقض مضاجع قادة الكرملين في مختلف المراحل.

          رجع الفتى منبهرا متحمسا للتجربة الاشتراكية السوفييتية, ولا غرابة في ذلك فقد كان مثل زملائه في الوفد محاطا بالمرافقين والمترجمين في جميع تحركاته, ولم ير إلا التظاهرات الباعثة على الإعجاب مثل الحفلات الموسيقية والمسرحية, وكل ما يتصل بالنشاط الشبابي والرياضي, وهي مجالات حظيت في بلدان أوربا الشرقية آنذاك بكل عناية ورعاية, ولم يسمع إلا الخطب الرسميّة المنددة بالاستعمار والإمبريالية, والمنوهّة بالأخوة بين الشعوب, والتي تختم برفع كئوس الفودكا على نخب الصداقة السوفييتية - العربية.

          وتمت الزيارة الثانية للاتحاد السوفييتي بعد مرور ثمانية أعوام على الزيارة الأولى, وتعمقت في هذه الفترة ثقافة الفتى السياسية, وأصبحت تجربته أكثر نضجا, ولم تكن الزيارة رسمية يراقبها العسس من كل جانب, بل نظمت لحضور ندوة الطلبة التونسيين بدول أوربا الشرقية, وعاش الفتى بعض الأحداث قد تبدو جزئية, ولكنها كانت كافية لتدخل القتامة على الصورة القديمة المشرقة, ولتتسرب الريبة إلى نفسه,ولم يصل الأمر في هذه المرحلة إلى حدّ خيبة الأمل, والحكم نهائيا على سلطة تزعم أنها اشتراكية - سيحدث ذلك لاحقا.

أزمة في الخبز

          ولا يسمح المقام هنا إلا بالتلميح إلى بعضها, فهو لم ينس تلك الصور التي عاشها بالرغم من مرور أربعين سنة, لم ينس ذلك الضجيج الذي سمعه فجر اليوم التالي لوصوله إلى موسكو, وسكناه بأحد الأحياء الجامعية, وهو ضجيج أحد الطلاب السوفييت. وقد كان يستعدّ للعودة فجرا إلى أسرته بإحدى القرى فأخذ يحشو الخبز في جرابه حشوا دون أن يسأل عن هوية النائم بجواره, ولم يره من قبل, كما أن الفتى لم يلمح له وجها, وكان كل ما لاحظه تلك الحركة السريعة والمتوتّرة لحشو الخبز, وإخفائه في الجراب, ولما سأل الطلاب الأجانب المقيمين بالحي الجامعي عن سرّ ما لاحظه فكان الجواب أن الخبز متوافر في العاصمة موسكو باعتبارها تمثل واجهة النظام, وتؤمها وفود من الغرب. أما في القرى فهنالك أزمة في الخبز تحدث من حين لآخر, فالطالب أراد الإفادة من عودته إلى أسرته ليتحفها بالخبز, وقد أصبح الحصول عليه في مغازات الدولة أمرا صعبا, وهنا تذكر الفتى ما تعلمه نظريا, وهو أن نقطة القوّة في النظام الاشتراكي تتمثل أساسا في توفير الضروريات في المرحلة الاشتراكية من مواد غذائية, وسكن, وتعليم وعلاج مجانيين, ثم سأل يوما ما عن سرّ ذلك الضوء المشع من غرفة صغيرة مقابلة للباب الذي سمح له بالدخول منه من أبواب جامعة موسكو, ولا يمكن الدخول منها إلا بإذن, أو باستظهار هوية الإقامة فجاء الجواب: هنالك آلات تصوير تصور ليلا نهارا كل الداخلين من أبواب جامعة موسكو. وحدثت القصة الثالثة في طريق العودة من موسكو إلى برلين الشرقية, وفي نقطة المراقبة على الحدود السوفييتية - البولندية لما دخل عون (رجل مخابرات) في زي مدني, وأشار إلى تفاحة كانت بجانب الفتى فظن أنه اشتهى أن يأكلها فناوله إياها فأخرج العون سكينا, وشطر التفاحة إلى شطرين بحثا عن رسالة سريّة أو ميكروفيلم أراد تسريبه أحد أعداء الثورة إلى الغرب. ومن هذه القصص تلك الأخبار المتواترة عن فتيات اختفين فجأة من الساحة الموسكوفية, وأرسلن لقطع الأشجار في غابات سيبيريا, وذنبهن الوحيد أنهن وقعن في حب بعض الطلاب الأجانب, ورفضن أن يتحولن مخبرات عنهم.

          لم يشعر الفتى في هذه المرحلة بخيبة الأمل, ولم تتهاو الأحلام, ولكن الشكوك اشتدت وطأتها, وبرز سؤال محوري: هل فعلاً هذه الممارسة السيئة هي تطبيق لما قرئ من نظريات جذابة ومتألقة? ثم ما قيمة هذه النظريات إذا كانت الممارسة بهذه الصورة من السطحيّة والرداءة?

          ومنذ أن انكشفت مأساة محتشدات القولاق, وأدت إلى حركات الانشقاق داخل أحزاب الشيوعية ببلدان أوربا الغربية منذ مطلع الستينيات والسؤال المحير هو: هل كان زعماء الأحزاب الشيوعية العربية - وكثير منهم كان يقضي إجازته الصيفية سنويا على شواطئ البحر الأسود - على علم بما يجري داخل المعتقلات الستالينية من تعذيب, وقتل جماعي لا يختلف كثيرا عما عرفته المعتقلات النازية?

الهجرة شرقاً

          وشاءت الصدف أن يكون المشرق العربي, ومصر الناصرية بالتحديد هي وجهة الهجرة الثانية فاكتشف الفتى بعدا جديدا هو البعد العروبي فوصل إلى القاهرة بعد مرور أقل من سنة على العدوان الثلاثي, فاتصل بالجامعيين والمثقفين المصريين, ولكن اتصاله الفكري السياسي كان أساسا باليسار المصري فتعرف إلى عبدالعظيم أنيس في جريدة (المساء) كما تعرف إلى محمود أمين العالم, وإلى الكاتب الصحفي الشهير محمد عودة, ووجد نفسه مجندا من اتحاد العمال العرب ضمن عدد من ضيوف القاهرة العرب لتأييد مرشحي اليسار في الانتخابات البرلمانية صيف 1957, وقد قيل إن عبدالناصر أرادها أن تكون انتخابات نزيهة وحقيقية, ولكنها زيفت في نهاية الأمر مثل جلّ الانتخابات في العالم العربي منذ ذلك اليوم حتى الآن.

          ويذكر أنه وقف خطيبا في اجتماع شعبي بالعباسية مناصرا لترشح عبدالعظيم أنيس.

          وأثرت هذه الهجرة التي لم تتواصل أكثر من شهور معدودات في البعد العروبي والعالمثالثي في الثقافة السياسية للفتى, وقد أصبحت القاهرة في هذه الفترة مركزا نشطا من مراكز حركات التحرر الوطني العربية والإفريقية.

          أما الهجرة الثالثة فقد كانت أطول هجرات الفتى, وأشدّها تأثيرا, إذ رمت به حوالي ثمانية أعوام خلف الستار الحديدي, كما نعت عالم أوربا الشرقية أثناء الحرب الباردة, وشاءت الصدف أن تكون هذه الهجرة إلى أكثر بلدان المعسكر الشرقي وفاء للستالينية, فقد كان زعيم ألمانيا الشرقية (فالتر ألبريشت) تلميذا مطيعا للستالينية, وحاول أن ينصب نفسه (ستالين) من حجم صغير في (جمهورية ألمانيا الديمقراطية), ويتميز هذا البلد عن بقية نظم أوربا الشرقية بسمات خاصة من أبرزها أنه جزء من بلد أوربي كبير يتكلم شعبه اللغة نفسها: الألمانية, وينتسب إلى الذهنية والثقافة نفسها, وتحول الجزء الغربي منه بسرعة إلى عملاق اقتصادي في أوربا الغربية, بل قل في العالم كله, وأصبح يقدم لشعوب أوربا الشرقية واجهة جذابة للنظام الرأسمالي متجاورة مع الواجهة التي حاولت موسكو تقديمها لشعوب أوربا الغربية عبر بوابة ألمانيا الشرقية عن مزايا النظام الاشتراكي.

          ومن أبرز هذه السمات أن الفاصل بين الواجهتين المتصارعتين أيديولوجيا, وسياسيا, واقتصاديا لا يتجاوز عرض شارع واحد, أو محطة من محطات المترو, فكان المسافر يدفع عشرين فينيش (مليما) ليجد نفسه داخل (الفيترينة) المقابلة, ومن المعروف في تاريخ الحرب الباردة أن برلين الغربية كانت أخطر مركز استعملته الرأسمالية العالمية لإسقاط النظم السياسية في أوربا الشرقية, فالمخططات السياسية والاقتصادية الغربية هي التي أجبرت النظام السياسي في برلين الشرقية على بناء جدار برلين فجر يوم الثالث عشر من أغسطس عام 1961, وسيبقى بناء جدار برلين نقطة سوداء في تاريخ المعسكر الشرقي الأوربي, شأنه في ذلك شأن بناء جدار العار, الجدار العنصري الذي تبنيه إسرائيل اليوم, وسيبقى لعنة كبرى في تاريخ دولة إسرائيل العنصرية.

خلف الجدار

          برلين الغربية كانت السبب المباشر وراء بناء الجدار, كما كانت المعول الذي أسقطه, وأسقط بالتالي النظام الذي شيده ليفصل بين ضفتي الشارع الواحد, وليفرق بين أفراد الأسرة الواحدة, ولا يمكن أن تبني هذا النوع من الجدران إلاّ نظم تسيطر على قادتها عقلية نازية ستالينية. وشاءت الصدف أن يقضي الفتى ليلة بناء الجدار في برلين فشاهد الناس متجمهرين قرب المحطة الرئيسية الرابطة بين شطري المدينة, وقد أرادوا العودة إلى برلين الغربية بعد أن سهروا مساء الأمس السبت مع خليلاتهم في حانات الشرقية, أو في مسرح براشت الشهير وقد كان يؤمه عدد كبير من سكان الغربية فوجدوا جميع المنافذ قد سدت, وقد استعد النظام في الشرقية عسكريا لأي عمل مفاجئ قد تقوم به جيوش دول الحلفاء المعسكرة في الغربية, إذ إن بناء الجدار نسف للاتفاقية التي وضعت برلين تحت سيطرة الدول الأربع المنتصرة في الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة, والاتحاد السوفييتي, وبريطانيا, وفرنسا.

          وكادت هذه الخطوة أن تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة, ولم ينفذ القرار إلا بعد إعطاء موسكو الضوء الأخضر, ورأى الفتى الدبابات السوفييتية موجهة صواريخها نحو الغربيّة, وقد أدرك يومئذ حدّة الصراع بين المعسكرين, وأدرك لاحقا أن سباق التسلّح كان من أبرز أسباب انهيار اقتصاد المعسكر الشرقي أولا, ثم انهيار النظام كله في نهاية الثمانينيات.

          أثار بناء الجدار دهشة الفتى, وقد كان شاهد عيان, وعمّق أسئلة الشكّ الذي بدأ يسيطر عليه منذ زيارته الأولى للاتحاد السوفييتي, وأثناء إقامته بمدينة براغ في شتاء 1957 قبل التحاقه بجامعة لايبزيغ في ألمانيا الشرقية, ولكن الأمر لم يصل إلى حد خيبة الأمل, والقطيعة النهائية, فلم يعلم شيئا يومئذ عن المعتقلات الستالينية, وبالرغم من مرور أعوام على دراسته في جامعة لايبزيغ, وعلى نشاطه الطلابي العربي والإفريقي, فلم يعلم شيئا واضحا عن أخطبوط جهاز المخابرات (ستاسي), وقد أصبح يصنف بعد سقوط الجدار, والاطلاع على وثائقه السريّة ضمن أشهر أجهزة المخابرات في العالم, وأشدها فظاعة في أساليب القمع, وهو الجهاز الذي أسّس أجهزة المباحث, ودرّب عناصرها في كثير من الأقطار العربيّة.

          ولكن القطيعة حدثت بعد أن اقتنع الفتى بأن هذه النظم لا علاقة لها لا بالاشتراكية, ولا بالفكر الاشتراكي الذي بشّر به كبار المفكرين في جميع الثقافات, بل هي نظم تسيطر عليها عصابة من الطغاة تدّعي أنها تحكم باسم الطبقة العاملة, ولفائدتها, وقد كانت في طليعة ضحاياها, وهي نظم ستسقط طال الزمن أو قصر. وتأكد من مصير نظام برلين الشرقية: الانهيار قبل أكثر من عشرين سنة من سقوط جدار برلين, وذلك أثناء هجرته الرابعة والأخيرة, وقد كانت في اتجاه المانيا الغربية, لمّا انتدب مدرسا بمعهد (تاريخ وحضارة شمال إفريقيا) بجامعة (قيزن), وأصبح قادرا على المقارنة الدقيقة بين النظامين في شطري ألمانيا, وعلى الفروق الشاسعة في مستوى المعيشة فيهما, وتعرف هناك إلى الفكر السياسي اليساري الألماني الحقيقي المتحرّر من الدوجماتية التي رزح تحت نيرها أثناء إقامته بالشرقية, تعرّف عليه عبر تأثره برواد مدرسة فرانكفورت, ويعد الفيلسوف الألماني ذائع الصيت اليوم (يورجن هابرماس) ممن تخرجوا على أيدي هؤلاء الرواد في الستينيات, وقد كان لها دور خطير الشأن في الإعداد الفكري لانتفاضات 1968.

ضياع الحلم

          بعد الاستقرار النهائي في أرض الوطن غداة الهجرة الرابعة, وبعد أن تهاوى الحلم الاشتراكي ذو الطابع الأممي تحول النضال من أجل تغيير العالم إلى نضال من أجل دعم مبادئ العدالة الاجتماعية, وتجاوز الإرث الاستعماري الثقيل, والإسهام في بناء مجتمع وطني حديث فتحمس لتجربة اشتراكيّة ذات بعد وطني, سقطت بدورها مع سقوط أوراق خريف 1969, وكان لابدّ أن تفشل ليس لأنها أجهضت نتيجة تحالف قوى داخلية مع قوى خارجية, بل أساسًا لأنها فرضت من فوق, واعتمدت في عالم الفعل والممارسة على جهاز بيروقراطي متعسف, وطبقت على الضعفاء فأسقطها الأقوياء قبل أن تمس بمصالحهم, وهي تلتقي - شأنها في ذلك شأن كثير من تجارب المجتمعات النامية - مع نقطة ضعف قاتلة في تجارب بلدان أوربا الشرقية يومئذ, وهي الاعتماد على نظام الحزب الواحد الشمولي.

          وبعد ماذا بقي من كل التجارب?

          أولا: إن أفضل نظام وصلت إليه البشرية حتى الآن بعد نضال طويل ومرير هو النظام الليبرالي البرلماني, وهو نظام ليس مثاليا, إنه يشكو من مساوئ كثيرة, ولكن نقطة القوة فيه تتمثل أساسا في خلق دينامية تتصدى لهذه المساوئ, وتفضحها, وتقاومها, وذلك عبر ما يوفّره النظام نفسه من مؤسسات دستورية, ومن إعلام حرّ, ومن حريات في التعبير والتنظيم, فتصبح بالتالي قوى المجتمع المدني ذات تأثير بعيد المدى.

          ثانيا: إن أول ما تسعى إليه النظم الاستبدادية بالأمس واليوم هو إخفاء الحقائق وتزييفها, فقد زار الفتى أكثر من مرّة المعتقل النازي (بوخ فالد) قرب مدينة الآداب والفنون: (فيمار), مدينة جوته وشيلر, وزار كذلك المعتقل النازي الشهير (أوشفيتس) قرب المدينة الجامعية العريقة (كراكوفيا), واستمع إلى قصص النضال البطولي الذي خاضته قوى الحرية والتقدم في ألمانيا نفسها, وفي البلدان الأوربية المجاورة ضدّ النظام النازي مع الإشادة بدور الاتحاد السوفييتي في إلحاق الهزيمة بالنظام النازي العنصري, وكلما سمع هذا الخطاب ازدادت حماسته لتأييد تجربة اشتراكية كان لها دور بعيد المدى في تحرير شعوب بأسرها من براثن نظام استبدادي فاشي, ولم يدرك يومئذ أن معتقلات جديدة ذات طابع ستاليني هذه المرة قد فتحت أبوابها قبيل الحرب في الاتحاد السوفييتي, وبعدها في بقية بلدان أوربا الشرقية, وكانت وسائل التعذيب فيها لا تقل وطأة وبشاعة عن المعتقلات النازية.

          لم يعلم سكان (فيمار) أن الدخان المتصاعد ليلا نهارا من مداخن معتقل (بوخ فالد) هو دخان أجسام بشرية قذف بها في المحرقة النازيّة, ولم يعرف العالم حقيقة ما يجري في (القولاق) إلا بعد سقوط النظام.

          هذه هي طبيعة النظم الاستبدادية, وستفوح الروائح الكريهة يوما ما في كثير من الأقطار العربيّة عندما تتهاوى فيها النظم السلطوية.

          ثالثا: لا يمكن أن تتحقق تنمية حقيقية شاملة ومستدامة في ظل نظام ديكتاتوري. إن الاتحاد السوفييتي قد حقق خطوات اقتصادية وتكنولوجية عملاقة, وقد مثل ذلك طفرة اقتصادية, كما حصل أيضا في ألمانيا الشرقية, أو في إسبانيا أيام فرانكو, ولكنها كانت تنمية هشة سقطت بسقوط النظام, كما برهنت على ذلك التجربة السوفييتية نفسها, والسبب في ذلك أن التحديث الاقتصادي التقني لم يرافقه تحديث سياسي, وهي الظاهرة نفسها التي نلمسها اليوم في بعض الأقطار العربيّة, كما لمسناها بالأمس في أمريكا اللاتينية.

          رابعا: لا إبداع في الفكر السياسي, ولا في الاقتصاد, والعلم, والثقافة والفنون دون توافر مناخ الحرية.

 

الحبيب الجنحاني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مع تمثال كلود برنارد في مدخل الكوليج دوفرانس





د. الجنحاني في مكتب فولتير, وأمام بعض مؤلفاته





من مؤلفات د. الحبيب الجنحاني