حاجز عزمي بشارة

حاجز عزمي بشارة
        

          كان من المفترَض أن أكون أوّل الكاتبين في (حاجز) عزمي بشارة, لا لامتياز خاص, ولكن لأني اطّلعت على بعضٍ من نصّه قبل أن تتلقّفه دور النّشر, وقبل أن يرتئي الكاتب جعله شظايا رواية.

          وكان عزمي بشارة قد اختار له اسم: (وجد في بلاد الحواجز), الذي جعله عنوانا ثانويّا يتصدّر القسم الأوّل من روايته. قرأت العمل كاملا, وتريّثت, من باب رهبة الولوج تارة, وأخرى من باب محاولة لملمة ما تشظّى منّي, وثالثة لأفسح مجالا في النّفس لوجع القلب, وهو ضرب من الأمراض المزمنة التي يعيشها الفلسطينيّ, حتّى صارت من مقوّمات جبلته.

          في محاولة بائسة مني للهرب من الحاجز, تابعت بمشاعر, لاأعرف دافعها, دورة الألعاب الأولمبيّة في أثينا, وخاصّة رياضة العدو وقفز الحواجز, وساءني أو لم يسؤني, أنّ ممثّلينا من الرّياضيّين لم يفلحوا في سباق قفز الحواجز, ونحن أكثر أمم الأرض معايشة مدمنة للحواجز, وتيّقنت أنّنا كبرنا على الحاجز, ولم نتدرّب على تعدّيه, لا قفزا, ولا مناطحة, تدرّبنا عليه شيئا من بنية نظام حياتنا, سنّة, لا تستقيم حياتنا إلا به, وأيّ محاولة منّا لتجاوزه, أو تجاهله, أو للالتفاف عنه هي المروق والهرطقة, أو هي التّمرّد والتّخريب, ولذا أفلحنا في كلّ ما لا يرتبط بالحاجز والرّياضات الأرضيّة, أفلحنا في التّحليق والفضائيّة المرادفة لرحب الصّحراء في رياضة الرّماية, استمرارا لما عُلِّمناه في عهود الإسلام الأولى, فعلناها من باب الإيمان والبرّ والتّقوى, وأفلحنا, ولعلّني مخطئ, في رفع الأثقال, مصطلحا راقيا لرفع الأحمال, أو للقدرة على الصّبر في حمل الأعباء.

          كانت متابعتي لأثينا مصحوبة بانقطاعات, فرضها واجب التّثقيف العصريّ   للذّات , وذلك بمتابعة بيروت وما آلت إليه هموم الأمّة العربيّة في اختيار سوبر ستارها, وكيف سينعكس ذلك على المسألة الفلسطينيّة العتيقة, والمسألة الليبيّة الطازجة, ولم يكن الأمر ليتطلّب منّي جهدا ذكائيّا حصريّا, فالموضوع يحاصرك في حلّك وترحالك, ضربا من الحاجز غير المرئيّ, إنّه حديث الأمّة, والصّحافة, والحكومات, احتشدت له, وحشّدَت, لنصرة القضيّة المطروحة, أو صاحب القضيّة, وأفلحنا بكلّ الدّيموقراطيّة التي ننعم بها بكسر وتجاوز كلّ الحواجز, ثلاثة ملايين ومئتا ألف عربيّ من أصقاع الدّنيا, وقفوا وقفة رجل واحد, كحال المؤتمرين في دار النّدوة, وانتصروا للقضيّة, قضيّتهم المنزوعة من سمة العروبة التي صارت نوعا من  الإقليميّة, وحاصرتني النّكبة والاجتياحات وجنين وبغداد, فتسلّل إلى الذّاكرة الضّريرُ البصير أبو العلاء, والهائج الشّقيّ المتنبّي, وقبل أن يكثر الحجيج, ويتململ هاجعون نسيهم العرب في رحلة حضارتهم القسريّة, قمعت ذاكرتي المشتقّة من فلسطينيّتي المزمنة في المرض.

قوالب

          دعوا كلّ الهذيان السّابق, فهذا مما أقحمني فيه حاجز عزمي بشارة, وأنا مزمع على اقتحامه, هذه هي القضيّة الأساسيّة في هذا الحاجز, تحاول أن تقتحمه وتذرّره شخوصا ومرامي ومضامين, فيحاصرك, وأنت ترمي إلى محاصرته... هل جرّب أحدكم الكتابةَ تحت الحصار? التّركيزَ في حالة التّشعّث والتّبعثر?

          رأى الكاتب أن يسمّي روايته (الحاجز), وأضاف إليها في مرحلة ما سمة ( شظايا), والوالدُ لا يُسأل في مثل هذه الحالات, وإن حاول بعض الأدباء تحليل هذه الشّظايا غير المندرجة في مصطلحيّة أجناسهم الرّوائيّة, ولأنني تعمّدت ألاّ أقرأ ما كتبوه عن الحاجز, على الغالب, كي لاأعيش في حواجز أخرى تفرض قيودها عليّ دون أن أدري, رأيت أن حاجز عزمي بشارة رواية متضامّة, لا شظايا رواية, تحكي عن تشظّي الحالةِ القضيّةِ الإنسانِ الأمّةِ الزّمانِ المكانِ, يشظّيها الحاجز, ثمّ يبئِّرها لتشظِّينا من جديد. والحاجز هو البطل عند بعضهم, ولست أدري كيف نمارس مصطلحيّةً حَجَزَها حدُّ الرّواية الجامع المانع, والحاجز مانع غير جامع, وإن جمع, فإنّه فاعل ذلك بعد أن نكون قد تشظّينا ورغبنا عن الجمع والاجتماع وحتى عن الجماع!

          تتبدّل إبداعاتنا الأدبيّة, وتظلّ مصطلحاتنا محجوزة في قوقعة ما, فعلينا أن نستظهر مقوّمات الرّواية, من ضرورة وجود بطل, يوصف حينا بالتّسطُّح أو بالتَّنامي أو..., ونظلّ نبحث عن الحوار والسّرد, والزّمان والمكان...  وماذا نفعل في حالة (الحاجز), وهو  عمل قلبها رأسا على عقب? ماذا نقول عن المهزوم البطل, أو اللابطل البطل, أو اللّغة البطل, أو الكاتب البطل? بل ماذا يضيرنا لو محونا البطل? كيف أتعامل مع شعر لأنسي الحاج أو نذير العظمة أو أدونيس, وأنا مثقل بأدوات السّجع التامّ والسّجع النّاقص والطّباق والمقابلة والتّخميس وردّ العجز على الصّدر والزّحاف, وأحكام من نحو: أحكم بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأرثى بيت...? فِعْلِي هذا لا يختلف عن أيّ محاولة لحجز الحاجز في قاموس النّقد المتعارف عليه, لا من منطلق ديالكتيكيّ, بل للمفارقة بين تزاوج المتعارف عليه ولعبة الحاجز المتنافر المتضامّ. ولذا, أفلحت, على ندرة, في الانعتاق من الحاجز, فلم تشغلني قضيّة تجنيسه أو تجنيره, وهيكلة مقوّماته, لقد كفاني بشرّه شرَّ الانشغال في القوالب.

          قد ننشغل في (وجد( الكاتب, أثناء القراءة وبعدها, صحيح أنّ ابنته ملائكيّةَ الطّلعةِ تحمل هذا الاسمَ, وصحيح أنّ الوجد له في معاجمنا دلالات من الأحاسيس تستوطنّ النّصّ, ولكنّني- إن كنت أقرأ الكاتب جيّدا-  أرى أنّ ملهمه الأوّل في التّسمية هو ملاكه البيتيّ, بتأثير من متانة العلاقة بين الطّفل و( أليس في بلاد العجائب), وبإثراء من ثقافته اللّغويّة وثقافته الإسلاميّة الرّحبة الشّاملة للصّوفيّةِ ومعجمها, فالوجد والفقد عندهم رديفان للمحو والإثبات.

          ومهما يكن من أمر وجد المتصوّفةِ الذي لا يكون إلاّ بعد فقد, فلندعهم ومصطلحيّتهم, لنبقى في الفقد التي لا نعرف بعدها وجدا, أو في غمرة وجدنا بعد أن فقدنا كلّ شيء... وفُقِدنا.

          وثمّة هاجس يراودني في أنّ (طروحات عن النّهضة المعاقة), والذي صدر قبل هذه الرّواية, فيه من الأسلوبيّة, في بعض فصوله, ما أراه قوّة دافعة لإيصال الموقف والرّؤية والرّؤيا بالأسلوب الأدبيّ  وبالنَّفَس الرّوائيّ الذي لم يفاجئني به الكاتب في حاجزه.

          أمّا ملهمه النّصّيّ, فهو المعاناة, بكلّ تفاصيلها, الممتدّة على مساحة الكتاب, يمثّلها الحاجز المتحدّث بالأصالة وبالنّيابة عن كلّ أشكال الحجز, في المكان كلّه, وفي الزّمان كلّه, معاناة خلقت عملا صادقا, ولا يطلّ على الدّنيا شيء جميل بلا ألم.

الرّحلة الصّعبة

          أصدق من يكتب عن هذه الرّواية ذلك الذي يسألك قراءتها... فالكتابة عنها بأسلوب العُجالات والكلمات المعدودة التي يحصيها المحرّر, ويحجزها رئيس التّحرير, مفضية لا محالة إلى التّقصير, فالتّفاصيل كثيرة, وتذرُّرُها وتضامُّها أو تَرَاصُّها يتمّان بسرعة مدوّخة, تنتقل من الثّانية التي تتنفّسها إلى مائة سنة قبلها, أو بعدها, من السّمّ (السنتيم) الذي (ترتع) فوقه, إلى عوالم بعيدة, من طقوس الحياة إلى طقوس الموت, من وجع الدّماغ إلى صرخة طفل إلى انكسار عقب حذاء امرأة إلى اندلاقة كرش وإشفاقة يساريّ على حقوق المتلاوطين والسُّحاقيّات... وعليك أن تكمل دراستك في أكاديميّة الحاجز, من علوم المجتمعيّة, إلى مدرسة علم النّفس, إلى الطّبّ  فإدارة الأعمال, ومن الأرصاد الجويّة- التي لم نحفل بها يوما إلا في مراسلاتنا بالإنجليزيّة في عهد التّلمذة بتأثير من المرسَلِ إليهم عبر البحار, فالسّماء المكفهرّة القاتمة عندهم جعلت الأحوال الجويّة شيئا أساسيّا في حديثهم, وما لنا نحن أصحاب الشّمس المشرقة? - إلى مدرسة الألسن, وتدخل في الفصول المتداخلة لترى وحل الشّتاء في غبار الصّيف... والتّفاصيل كثيرة, حتى لتخشى أن تتقافز حولك ( تفصيلة) أو أكثر سائلة إن أهملتها (ليش مش أنا)? بلغة الكاتب. (طروحات عن النهضة المعاقة (2003). رام الله: مواطن. ص 93). أن أكون صادقا, يعني أن أوصي بالقراءة وأصمت! ورغم هذا سأناور عبر محاور شدّتني, ولا تبطل مناورتي قضيّة الصّدق المذكورة, فالرّواية التي لا نعرف من أيّ زاوية نأتيها, صعبة, ولأقرّر- وَلْيُقَلْ ما يُقَالُ- : إنّ الحاجز أهمّ وأصعب وأعمق ما كَتَبَ عزمي بشارة, رغم اللّبوس الرّوائيّ الجميل الخادع ذي الحواريّات المضمّخة بعبق اللّغة المحكيّة.

الحاجز وأرجوس

          كتلة من الإسمنت, لايغيّر شكلُها شيئا, تعدّدت الأشكال والوظيفة واحدة. هو مكان في اللامكان, إنّه شيء خارق موجود كما الخالق في كلّ مكان, مخترقا الزّمنَ والتّضاريس والإنسان, تجده حينا في جواز مرورك, أو مستوطنا عند عتبة بيتك, أو أزليّا أبديّا بين الرّاعي والرّعيّة, وإن استبطنتَ, وجدتَه يقظا أو هاجعا متململا في الأنا فيك. والحاجز هذا يرسم خارطة الوطن, والوطن دوائر تبدأ حيث سقط رأسك, في المرّة الأولى قبل جسدك لتطلّ على الحاجز, وفي الثّانية بعد أن تهاوى جسدك لتغمض عينيك على الحاجز, وتتّسع لتشكّل مدارج صبا وحارة, وتنفلش لتشكّل قرية, فمدينة... أما الوطن, فتشكّله في البال لمّا يزل. والحاجز كما الخالق قادر على كلّ شيء, وإن كانت مهمّته أن يقتل الخلق جميعًا, بيده الوجود والعدم, الحركة والسّكون, المبتدأ والمنتهى, هو النّقطة التي تقسم الزّمان والمكان إلى ما قبل وما بعد, فلا التّقويم الميلاديّ يجدي, ولا الهجريّ, أمّا توقيتات جرينتش ومكّة المكرّمة, فليست في حساباته. هو شيء ممتدّ من اللاميّة الأولى التي تعلّمناها, لاميّة السّموأل بن عاديا اليهوديّ المتمترس بين ظهراني العرب منذ الجاهليّة. والحاجز محور الدّنيا, كلّ شيء يدور حوله ويتوقّف وفق إيقاعاته, ووفق ما يعتريه من حالات نفسيّة لا يتوقّعها إلا علاّم الغيب... لا أعرف لمَ أعادني هذا الحاجز لأقرأ لاميّة السّموأل من جديد, ومن زوايا ما خطرت في البال من قبلُ, قراءة أوقفتني بلا حول أمام المتفرّد كأبْلَقِهِ الفرد, وكادت تضعني في مواجهة التّاريخ في أنّ نواة الحاجز مستكنّة فيها,

وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول
وأسيافنا في كلّ غرب ومشرق بها من قراع الدّارعين فلول
معوّدةٌ ألا تُسَلّ نصالها فتغمدَ حتى يُستباح قبيل


...

فإنّ بني الديّان قطب لقومهم تدور رحاهم حولهم وتجول


          وأعود إلى دفاتر التّلمذة وأقرأ أنّ اللاميّة: (من أشهر قصائد العرب في الفخر)!

          علّمني الحاجز الكثير من المثالب, فصرت أقتحم الزّمان والمكان, وأعود إليه لأحافظ على تسلسل الفكر, أعود حيث لا مناص, والفلسطينيّ يعيش في الحاجز حتى بات الحاجز يعشّش فيه ضربا من الاحتلال والاستيطان, يلهث وراء انتماء بعيد عن الحاجز وحضارة الحاجز, بعيدا عن الأهل والوطن, يرحل وهو لا يدري أنه يحمل الحاجز معه, وكلّ طرُقِهِ مؤدّية إلى الجلجثة. لطالما حاول الكاتب الإفلات من الحاجز (انظر مثلا الصفحات 107,161, 233, 253 وما يليها), والإفلات متنفّس, يتمثّل بالتّداعيات التي تنبش الماضي لتحلّ كان بدلا من كائن, أو لتئول كان إلى سيكون, وسرعان أو بطآن- لا أهميّة للزّمن في حضرة الحاجز- ما يعود الزّمنان إلى الانصباب في الحاضر المسمّى حاجزا, وكأنه (يذبل) الذي لا يريد لليل امرئ القيس نهاية, حتى محاولة استحضار فرح ولو في الصّفنة يحجزها الحاجز, والحاجز أرجوس الأسطوريّ ذو العيون المائة, التي لا تنام منها إلا اثنتان على التّوالي, لتظلّ الثّماني والتّسعون مشرفة على كلّ مكان, ترى كلّ شيء, حتى الصّفنة المزمار الذي لجأ إليه الكاتب, ما أفلح في المناورة, فعاد من صفنته إلى الحاجز, منتظرا تدخّلا إلهيّا, أو معجزة عودة ابنة ساتورن لتزيّن بالعيون المائة ذنب طائر مختال منفوش.

مشهديّة

          شتّان بين تصوير العذاب والتّعذيب, الإهانة والمهانة في حضرة الحاجز, انتظارا, ووقفة, واجتيازا أو قفولا, فوسائل الإعلام قد تكون قادرة على رصد المرئيّ, أمّا ما في العمق, فيبقى فوق عدساتها, لا تسبره الكاميرا وزاوية التّصوير, بل لا تعرف كيف تتعامل معه, فمنذ أن أطلّت الفضائيّات علينا, صورةً تنقل جحيم الحدث, ونحن نرى شلالات الدّم المنهرق في أفغانستان أو العراق أو فلسطين, - لا أذكر أنني شاهدت ولو جثّة واحدة يوم تهاوى برجا نيويورك-, (عناية مكثفة) بالجثث المبتورة, الرّءوس المتشظّية, والأمعاء المندلقة, وللأطفال من بين المتشظّين/المغتالين/الشّهداء مساحة خاصّة, وتعاد الصّورة مثنى وثلاث ورباع... ومعشَرَ, تخاطب فيك, مُشاهِدا محايدا أو غير محايد - ولا حيدة في مشهد طفل أغفت عيناه غزلانيّا مضرّجا بدمه - غريزتَك الإنسانيّة النافرة من المجزرة, وردّة فعلك الآنيّة المصحوبة بشتم العرب والمسلمين وإسرائيل والولايات المتّحدة... جلبة مصحوبة بتهدّج الشّرايين ورفع ضغط الدّم, قلّما أخرجتك إلى الشّارع, وإن خرجتَ حُجِزتَ, لا تملك إلا سذاجة الصّرخة بـ(فتح الحدود) لنصرة الأهل, والحاجز في مثل هذه الحالة يتموضع في أي شارع عربيّ, أمام الجامعة أو الجامع, بله الحدود. وتألف عيناك المشهد, ويخبو التّأثير ويئول إلى ضرب من التقزّز... هذا هو خطاب ردّات الفعل, هو موقف اللاموقف, يجعلك عبر الشّتيمة والجلبة تتنفّس وتمجّ ما فيك من غضب, ولا نستطيع أن نقلّل من كمّ الغضب وقدسيّته في مثل هذه الحالة, ولكنّ الإثارة والتّركيز على الضّحيّة وعلى الأشلاء فيهما تضليل واستعطاف ومحورة المعاناة في الشّهادة, وعلى قدسيّة هذه, تظلّ المعاناة نصيبَ الباقين المتنفّسين, أولئك الذين عُنِيَ بهم (الحاجز), مشهديّة للوجع الفلسطينيّ, تخاطب القلب والعقل, وتفضي إلى بلورة موقف, عندك وعند القارئ الإنسان, وما أبعد هذه التي أفلح فيها الكاتب(اقرأ 39, 55 وما يليهما), عن ردّة الفعل الغاضبة الزّائلة التي سمّرتك أمام الشّاشة!

وحدة الأعراس والجنائز

          في كلّ أصقاع الأرض طقوس خاصّة بالأعراس, وأخرى خاصّة بالجنائز, طقوس متناقضة تفرضها جدليّة الحدثين, فالفرح فرحٌ والحزن حزنٌ, إلا في حقيقة الحاجز, حيث تذوب الفروق, ويتّحد الفرح والحزن في طقس حاجزيّ واحد, تذوب فيه الأعراف والتّقاليد,  فالتّخطيط والتّوقيت وإجراء الحسابات يقرّرها الحاجز, لا أهل المحمول على آلة حدباء, ولا مقولة (كرامة الميّت في دفنه), ولا رغبة العروسين المحمولين على الأكفّ وسط طلقات الزّغاريد... هكذا (يشقلب) الحاجز كلّ شيء, حتى إنّه اخترع مساء في وهج الظّهيرة, بحيث صارت السّهرة في السّاعة الواحدة بعد الظّهر وبالتّوقيت المحلّيّ. هذا هو الحاجز الذي رصده الكاتب, ولم تقوَ الفضائيّة على نقله, إنّه الوجع الذي لا يتصبّب الدّم منه, ولا أدري أيّ الوجعين أكثر إيلاما?

          حقيقة على غاية من البساطة, ما يمّر به أهل الحياة بانسيابيّة وتلقائيّة, يمرّ به أهل التّنفّس بشقّ الأنفس, وأشقى ما في الأمر أن تحكمك كتلة اسمنتيّة, حولها نفر من الصّفيح المدجّج بالرّصاص والعربيّة الفصيحة والملحونة, مشفوعة على الغالب بالكلمة الرّهيبة الآمرة (أخورا) (=إلى الخلف) وما يترتّب عنها (انظر ص 64 وما يتبعها), والمنغرسة في ذاكرتنا مصطلحا كيبوتسيّا يفهمه البقر في الحظيرة, أو أيّ من سائمة الكيبوتس (وأصله الدّلالي اللّمّ والضّمّ). ولّى عهد الكيبوتس الاشتراكيّ الصهيونيّ, وظلّت القطعانُ بشريّةً تُسام, تروح وتغدو, وتُضامُ, في وطن الحاجز الذي لا يعرف لا لمًّا ولا ضمًّا.

العدسة اللاقطة

          عزمي بشارة روائيّ من الجنس النّادر, لا لأنّه طوّع فلسفة وسياسة في أسلوب أدبيّ, بل لقدرته شبه الحصريّة في رصد التّفاصيل, إنها أمور تمرّ بنا, ونمرّ بها يوميّا دون أن نعيرها اهتماما, وفجأة نراها في الرّواية قد تصدّرت مشهديّة كاملة, أو عبّرت عن فلسفة حياتيّة, أو رصدت أشياء من نفسيّاتنا  ومعتقداتنا المتقلّبة المتغيّرة, وتهمس في نفسك أو تصرخ بأنّك قرأت هذه التّفاهة المسجوعة, أو ذلك الشّعار المختزل لقناعة, والذي قد يتبدّل غداة اليوم التّالي, بفعل الجوّ العامّ في دولة الحاجز, أو بفعل فوز لفريق كرة قدم, أو بفعل انتظار يتيح لك المراقبة أو الصّفنة, والعاديّون ينتظرون في الانتظار, يبحلقون في اللاشيء, و(ينتظرون) ليس فعلا يحمل دلالة عمل, إنّه صيغة فعليّة منزوع منها الفعل, والرّوائيّ المتمرّس, ذلك الذي لا تفلت منه مثل هذه (التّفاهات). ( انظر ص 40- 42, 64, والجنازة الثّانية).

وأخيرا

          لا أعرف إن كان ختامُها مسكا, أو إمساكا عن... إنّه إقرار بعدم ولوج الأهمّ, والأهمّ في الرّواية هو الرّبط بين التّصدير المنسول من لسان العرب في بعض الفصول, والتّذييل الذي تنتهي به الفصول, قطبان من أكثر مواقع الرواية ترابطا, فالتّصديرات اللّسانيّة مُدخل دلاليٌّ حدَثيّ, والقفلات, تبقيك معلّقا لا تملك قرارا, تماما كما هو حالك في حضرة الحاجز.

          قارئ الحاجز أحد اثنين, إما أنّه يعرف الأماكن والأسماء, فتنضاف إلى متعته متعة, وإمّا أنّه لا يعرف هذه التّفاصيل, فيكتفي بمتعة واحدة, وفي الحالتين كلتيهما, يجب أن يكون قارئا مثقّفا.

          وأخيرا,

          اقرأ الحاجز ثلاثا,

          الأولى من باب مراودة النّصّ,

          والثّانية لتدخل في حالة متعة الوجع ولا مازوخيّتة,

          والثّالثة, لتعرف طعم وجع المتعة.

          (والأوّله آه!... والتالته آه!)

 

إلياس عطا الله   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات