مستقبل «الإسلام الأوربي»: د. سليمان إبراهيم العسكري

مستقبل «الإسلام الأوربي»: د. سليمان إبراهيم العسكري

قبل أسابيع، أعاد حادث شهدته مدينة تولوز في جنوب فرنسا طرح الأسئلة المتكررة حول تأثير حضور الإسلام والمسلمين، ليس في فرنسا وحدها، بل في القارة العجوز بأكملها. وهذا التماهي، بين صورة الدين الحنيف، بتجلياته السماوية، ومثله القيمية العالية، وبين صورة المسلمين على اختلاف أعراقهم الوطنية، وثقافاتهم المحلية، وطبقاتهم الاجتماعية، وخلفياتهم الأسرية، وتنشئتهم التعليمية، هو خلط للأوراق لطالما حدث وسيظل يتكرر الحدوث، إما عن جهل بمدى اختلاف الدين عن معتنقيه، وإما عن عمدٍ لربط كل فئة متطرفة تنتمي له بصورته الأشمل والأعم. كان الشاب الذي أطلق النار على مدرسة فرنسية طلابها يهود، وحاصرته الشرطة حتى أردته قتيلا، له جذور جزائرية، بالرغم من مولده في تولوز، هو آخر من أبرز هذه الأسئلة، ولكنه لن يكون الأخير، بالرغم من تعقيب الرئيس الفرنسي على الحادث بأنه يجب عدم ربطه بالدين الإسلامي.

  • يقع الغربيون الأوربيون في خطأ فادح حين يسيئون فهم المسلمين الذين يعيشون في أوربا، وحين يظنون أن تلك الأفعال الثقافية الفرعية والطائفية التي تصدر من مسلم هنا أو هناك هي القاعدة، أو أنها إشارة إلى حال المسلمين في كل مكان، وأنها ضرب من الشفرة الجينية التي تحكم حياة المسلمين.
  • كثير من الأحزاب الأوربية لا تروق لها فكرة التعددية الثقافية، لأنهم يرونها بعيدة عن هدفهم في السعي إلى دمج المسلمين في نسيج الحياة الأوربية دمجًا كاملاً، ومطالبة المسلمين بإظهار الولاء للعلمانية الأوربية قبل أن تقبلهم أوربا في نسيجها.
  • مستقبل الإسلام في أوربا مرهون بمستقبله في بلاده، والعمل على احتواء المسلمين لأزماتهم مع الآخر يبدأ بنهج الصراحة مع الذات أولاً، لكي لا تطغى سلوكيات فردية ومتعصبة ومتطرفة، على صورة مثالية لدين عالمي، قائم على احترام القيم الإنسانية.
  • لما كان المسلمون يشكلون المجتمع الديني الثالث في أوربا، فإن الإسلام الأوربي عليه أن يتكيف ويستوعب التطور الاجتماعي الثقافي الذي أنجزته أوربا ضمن ثلاثة أطر: التسامح الديني، والتعددية، والعلمانية؛ أي الفصل بين الدين والدولة.

فكيف تطورت صورة الإسلام ليتحول من صورته كديانة سمحة ومسالمة إلى صورة مخيفة مهدِّدة ترتبط بأتباعه الأقل عددًا والأكثر تطرفا؟ وما هو مستقبل الإسلام والمسلمين في أوربا بعد قرون من الاحتكاك، وعقود من الهجرات، وسنواتٍ من محاولة إقامة حوار بين الطرفين؟

وقد تزامنت نشأة الاتحاد الأوربي قبل خمسة عقود مع ازدياد ملحوظ للهجرات المسلمة باختلاف أعراقها، جاءت جُلها - إن لم يكن كلها - من مستعمرات أوربا القديمة، سواء من القارة الآسيوية، وخاصة الهند والباكستان، أو من القارة الإفريقية، سواء من شمالها العربي، أو غربها الإسلامي ما وراء الصحراء.

واقع الإسلام في أوربا

يرصد أحمد الشيمي، مترجم كتاب «الإسلام في أوربا» لعدد من مفكري العالم العربي والغربي أن عدد المسلمين في فرنسا زاد حتى تخطى خمسة ملايين نسمة، بعد أن كانوا في عام 1952 نصف مليون فقط، جاءوا من مستعمرات فرنسا السابقة، متوترين يشعرون بعقدة النقص، وهم يعيشون في فرنسا بأجسادهم، وقلوبهم معلقة بأوطانهم الأصلية، مما جعلهم يعجزون عن الاندماج في المجتمع الفرنسي. أما في ألمانيا فتخطوا حاجز الـ 3 ملايين مسلم أغلبهم من الأصول التركية، لا تأبه لهمومهم الحكومة الألمانية، ولا تستجيب لمطالبهم، وفي بريطانيا ما يزيد على المليون مسلم يعيش بعضهم حياة صعبة، ويعاني الكثيرون منهم من الاضطهاد الصريح أحيانًا، والمستتر أحيانًا أخرى، يعاني كثير منهم من البطالة، ومن تجاهل السلطات المحلية، ومن تجاهل الحكومة المركزية. وفي إيطاليا يعيش ما يزيد قليلاً على نصف مليون مسلم، لايزال أغلبهم يدق أبواب السلطات في سبيل الحصول على الجنسية الإيطالية، ولاتزال الحكومات الإيطالية المتعاقبة ترفضهم وتأبى قبولهم والاعتراف بهم كما اعترفت بجماعات أقل منهم شأنًا، كجماعة اللوثريين الذين حصلوا على المواطنة بيسر وسهولة بالرغم من أن أغلبهم من الأجانب الحاصلين على تصاريح الإقامة ليس غير.

وفي اتحاد دول هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج ما يقرب من 750 ألف نسمة من المسلمين، أغلبهم يناضل من أجل الحصول على المواطنة الكاملة، وفي مجموعة الدول الإسكندنافية، الدنمارك والنرويج والسويد، ما يقرب من نصف مليون مسلم لايزالون يعانون العزلة، وقلة الإمكانات، وتجاهل السلطات لمشروعاتهم وخططهم في بناء مدارسهم ومساجدهم، وفي النمسا يعيش أقل قليلاً من نصف مليون مسلم يكافح أغلبهم للحصول على المساواة مع السكان الأصليين، والاعتراف بهم، وبمساجدهم، وبطقوسهم الدينية.

وقد يقع الغربيون الأوربيون في خطأ فادح حين يسيئون فهم المسلمين الذين يعيشون في أوربا، وحين يظنون أن تلك الأفعال الثقافية الفرعية والطائفية التي تصدر من مسلم هنا أو هناك هي القاعدة، أو أنها إشارة إلى حال المسلمين في كل مكان، وأنها ضرب من الشفرة الجينية التي تحكم حياة المسلمين، أو أن المسلمين الأوربيين قد جبلوا على العنف، وأن الإرهاب مركب في طبيعتهم. والحق أن هذا ضرب من التفكير يجافي الذوق السليم، ويتضاد مع الطبيعة البشرية السمحة، ويتناقض مع الفطرة.

مشهد مأزوم

هذا المشهد المأزوم للجيل الأول من مسلمي أوربا المهاجرين، قد يختلف عن المشهد الحالي لأبناء الجيل الثاني، وربما الثالث، الذين وجدوا أنفسهم في موقف يختلف عن موقف الآباء، فهم أوربيون في بيئة أوربية، نمت علاقاتهم داخل المؤسسات الأوربية، وتطورت هذه العلاقات مع المجتمع الأوربي الذي يعيشون فيه، فهم إذن مسلمون ألمان أو مسلمون إنجليز أو مسلمون فرنسيون، وليسوا مسلمين يعيشون في ألمانيا أو إنجلترا أو فرنسا، وهذا ليس بالوضع السهل، ولكنه وضع معقد، لأنهم دخلوا في علاقات عملية لا فكاك منها مع المجتمع المضيف، إذن هم مضطرون إلى البقاء والتكيف مع المجتمع المضيف، وتعديل نظرتهم لأنفسهم ولغيرهم، في إطار من التفاعل مع الآخر، ضمن مجتمع متعدد الثقافات.

ولكن المشكلة الأساس التي تواجه هؤلاء، أن كثيرًا من الأحزاب الأوربية لا تروق لها فكرة التعددية الثقافية، لأنهم يرونها بعيدة عن هدفهم في السعي إلى دمج المسلمين في نسيج الحياة الأوربية دمجًا كاملاً، ومطالبة المسلمين بإظهار الولاء للعلمانية الأوربية قبل أن تقبلهم أوربا في نسيجها، وقبل أن تسمح لهم الدولة بالمكوث فيها كمواطنين لهم حق المواطنة العادية، وأن يتوقف المسلمون عن مطالبهم الثقافية التي تتنافى مع أبسط مبادئ الليبرالية.

بل، يرون، أن الدولة الإسلامية المعادية للغرب تستقطب المسلمين الأوربيين، وتستعملهم كورقة ضغط لابتزاز الحكومات الأوربية، أو لإجبار الأوربيين على تبني مواقف سياسية معينة، مما زاد من التوتر بين الغرب والعالم الإسلامي، وزاد من الشك في نوايا المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم في المجتمعات المضيفة، والأوربيون يخشون أن يتكاثر المسلمون على أرضهم، ويخشون أن ينقص عدد الأوربيين في المستقبل، فلا يمضي القرن الحادي والعشرون إلا وقد أصبح المسلمون أغلبية في أوربا، والأوربيون أقلية في بلادهم.

ولعل حادثة تولوز، وما سبقها من أحداث متشابهات، تزيد من الطين بلة، خاصة وهي تعيد للأذهان سيطرة الدين على الفعل الذي يؤثر سلبا على المجتمعات الأوربية. فنحن نعرف ـ تاريخيا ـ كيف ناضل الأوربيون خلال عصر النهضة كله من أجل التخلص من سيطرة الكنيسة، ومن نفوذ رجال الدين، كما اندلعت الثورات المتوالية في أوربا بسبب تعسف رجال الدين، ووصايتهم على الخلق، مما يؤجج مشاعر ورغبة أوربا الموحدة في التأكيد على علمانيتها، وتتحول إلى ناد للمسيحيين كما يقول بعض ساستها.

ولكي تفعل أوربا ذلك عليها أن تواجه أكبر مشكلة تواجهها منذ الحرب العالمية الثانية، هي مشكلة المسلمين الذين يعيشون على أرضها، منهم من أصبحوا مواطنين يحملون جوازات سفر أوربية، ومنهم من يناضل من أجل الحصول على المواطنة وجواز السفر الأوربي.

ضحية الأفكار المسبقة

صورة الإسلام ـ المرتبطة بأفعال المسلمين ـ تأتي ضمن حزمة من الأفكار المقررة سلفا، وهي أفكار تُستخدم من قِبل المسلمين وغير المسلمين لتأجيج هذا التوتر بين الإسلام وأوربا.

تستعيد الذاكرة، مثلا، محاولة إضعاف الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر، وتعرض هذه الإمبراطورية لهجمة العلمانية الأوربية بموجاتها الإصلاحية في القرن التاسع عشر، مما شكل المصدر الرئيس للاحتكاك بين الإسلام والآخرين في العالم كله، مثلما تعود الذاكرة إلى مصدر آخر لا يقل أهمية يتمثل في تاريخ أوربا الاستعماري المتمكن من الذاكرة الجمعية تصاحبه محاولة لتسييس هذا الماضي الاستعماري بصورة انتقائية من قبل قادة مسلمين بارزين، أو على الأقل اتخاذه كنقطة مرجعية خصبة بالمقارنات بين تلك الفترة الاستعمارية والسياسات الأمريكية والأوربية الحالية التي تمس الإسلام والمسلمين من قريب أو بعيد.

كما تستعيد الذاكرة وتستعين بما جرى في الحملات الصليبية، وما حدث بعد سقوط القسطنطينية في عام 1453، وحصار مدينة فيينا في 1683. ومهما بدت هذه الأحداث بعيدة في الزمن أو مستقرة في الذهن فإنها صور أوربية تعمل عملها في مخيلة الكثير من المسلمين وغير المسلمين في أوربا وحتى خارجها.

في كتاب «الإسلام في أوربا، التنوع والهوية والتأثير»، يرى أحد كتابه، الدكتور طارق متري، الوزير اللبناني السابق، أن الهويات القومية في الأزمان الحديثة، وهي هويات متجذرة في القيود الثقافية وفي الوعي بالمصير المشترك، أسهمت في الجمع بين المسيحيين والمسلمين، حيث نشأت علاقة سابقة لها تجاوزت القيود التقليدية وتمايزت عن العلاقة القائمة على الانتماء الديني، دون التصادم مع الدين بالضرورة، وتمكنت من عقول كثيرة، وشاعت بين طبقات كثيرة من طبقات المجتمع الحديث، وقامت هذه العلاقات على تفضيل التعاون على الحوار، ولايزال هذا النوع من العلاقات في بلاد أخرى وضعت الوحدة القومية في موضع الخطر أو أنها مزقت البنيات القومية الحديثة.

ويضيف متري: «قبل ظهور الإسلام كانت المسيحية قد أسست لمقولات عن الآخر الديني: اليهودي، الوثني، والمهرطق، وعندما تمت المواجهة بين المسيحيين والمسلمين عرفوا هويتهم بوصفهم الآخر الديني بتلك المسميات نفسها التي ابتدعوها في البداية، ولم يستخدموا كلمات المسلمين والإسلام، وإنما استخدموا بدلاً من ذلك مصطلحات عرقية مثل: العرب، أو مصطلحات من الكتاب المقدس مثل: الإسماعيليين الهاجريين، وكان الغزاة المسلمون - في نظر المسيحيين - سياطًا أرسلها الله لمعاقبة المسيحيين لما ارتكبوه من خطايا».

لكن المؤرخ السوري المسيحي ديونزس تلمهر الذي عاش في القرن التاسع يكتب فيقول منصفًا: «لقد استطاع المسلمون إنقاذ المسيحيين من الاضطهاد الروماني الإمبراطوري، وذلك لم يكن بالمكسب الهين». وكتب سيبوس الأرمني في أوائل عام 1661 يقول: إن الله قد منح الأرض للعرب التي وعد بها لإبراهيم ومنحهم النصر على البيزنطيين الكافرين.

وأيضًا في القرن السابع نعرف على الأقل صورة واحدة من آراء سيبوس أناستاسيوس، وهو راهب من دير القديسة كاثرين في سيناء، مصورًا الغزوات العربية بوصفها «عقابًا أنزله الله على هرقل الذي كان يقول بمذهب الطبيعة الواحدة للمسيح».

هذه الأفكار المسبقة عن الإسلام في الذهنية الأوربية، اشتدت متزامنة مع اشتداد شوكة الإسلام ووحدته مع ضعف الدولة البيزنطية. وكانت انتصارات المسلمين السريعة والمبكرة حجة جاهزة تثبت أن الله وقف إلى جانبهم. كان هذا الإحساس بوجود رسالة إلهية من أهم عوامل نجاح الغزوات اللاحقة بعد ذلك، فلم يقاتل المسلمون المسيحيين، ولم يجبروهم على ترك دينهم بل منحوهم الحرية لممارسة دينهم، وضمنوا لهم الحماية تحت الوصاية، وعكست ،معاهدات الذمة هذه الفكرة بدرجات متباينة من الإذعان المسيحي، ومما نصّت عليه هذه المعاهدات: «لهم ما لناوعليهم ما علينا»، إنه ولاء سياسي، يتضمن شكلاً من أشكال الإذعان، تجسد في دفع ضريبة أسموها «الجزية».

أطر الاندماج

ومن المصطلحات التي ظهرت في السنوات الأخيرة وكثر استخدامها في هذا السياق مصطلح «الإسلام الأوربي».

ولعل الدكتور بسام طيبي كان من أوائل الذين استخدموا هذا المصطلح، بمعنى مختلف غاية الاختلاف، ففي إسهامه في سلسلة من مناقشات المائدة المستديرة المنعقدة في باريس بين عامي 1992 و1993 تحت عنوان أنواع الإسلام في أوربا هل هي اندماج أم فرض اجتماعي؟ يدعو طيبي إلى إسلام يندمج في المجتمع الأوربي. وهو يؤكد على أن هذا الاندماج ليس عملية من طرف واحد، بمعنى أن الطرفين يجب أن يشتركا في صنع هذا الاندماج.

ولما كان المسلمون يشكلون المجتمع الديني الثالث في أوربا، فإن الإسلام الأوربي ـ كما يذكر طيبي ـ عليه أن يتكيف ويستوعب التطور الاجتماعي الثقافي الذي أنجزته أوربا ضمن ثلاثة أطر: التسامح الديني بالمعنى الأوربي الأرحب، والتعددية، التي تعني أن يتخلى المسلمون عن الصيغة العقائدية التي تمنحهم التفوق والأهمية عمن سواهم، والعلمانية، أي الفصل بين الدين والدولة.

بحث جورغن نلسون، من مركز دراسات الإسلام والعلاقات المسيحية والإسلامية يسير على نهج متري في تبنيه للسياق المعاصر حين يتناول شيوع فكرة إمكان وجود ذي طبيعة خاصة (إسلام أوربي) تتوافر نلسون على دراسة الاستخدامات المختلفة للإسلام الأوربي، وكيف أن هذه الاستخدامات تدل على وجود اتجاهين نابعين من داخل المجتمعات المسلمة في أوربا، ففي بعض السياقات يتم استخدام مصطلح «الإسلام الأوربي» ليدل على ظهور أشكال من التعبير والتفكير في أوربا تسمح بمشاركة المسلمين البناءة في أماكن وجودهم وبلدانهم.

وفي سياقات أخرى يُظهر استخدام مصطلح الإسلام الأوربي علامات على اكتسابه محتوى أيديولوجيًا تسرب إليه من خارج المجتمعات المسلمة (أو على الأقل من الجماعات المهمشة)، وهي عملية تهدف في نظر البعض إلى السيطرة على قدرة المسلمين في أوربا على التعبير عن أنفسهم. والحقيقة هي أن الهوية الإسلامية في أوربا في حاجة لفهمها على أنها عملية مستمرة وليست بنية ساكنة، فالهوية الإسلامية تكتسب كل يوم أبعادًا جديدة، أو تتكون بمرور الزمن وليست فكرة ساكنة لا تتحرك.

وتقول جوسلين سيزاري، من المركز القومي للبحث العلمي في باريس، وهي أستاذ زائر بقسم الأنثروبولوجيا، جامعة هارفارد، إن البحث عن هوية إسلامية في الغرب يتأثر في واقع الأمر بأخبار وروايات محلية ودولية مصاحبة لسلسلة كاملة من الصور والقوالب التي تجعل الإسلام يبدو متخلفًا وغريبًا دينيًا وثقافيًا وسياسيًا. وهو ما حدث مع القصة التي بدأنا بها حديثنا.

إن انتماء الناس إلى الإسلام يبدو في الغالب عنصرًا من عناصر المجتمعات العرقية، فبدءًا من المهاجرين الأتراك في ألمانيا ومرورا بالهنود والباكستانيين في إنجلترا وصولا إلى حد ما إلى المغاربة في فرنسا يبدو أن الإسلام عنصر حيوي في نسيج الهوية العرقية داخل المجتمعات الأوربية، خاصة بالنسبة للأجيال الأولى من المهاجرين.

في الوقت نفسه بدأت تنمو خلال العقود الأخيرة مزيد من الصيغ الإسلامية العابرة للعرقية، فعلى سبيل المثال بدأ يظهر في بريطانيا جيل جديد من القيادات الإسلامية يجسد مواقف منبتة الصلة عن الإسلام العرقي وأحيانًا الانفصالي.

ثم جاءت حالة خالصة للإسلام الأوربي تمثلت في السياقات البوسنية، حيث استطاع البوسنيون ـ كما يقر زافيير بوغاريل، وحدة البحوث والدراسات التركية والعثمانية، المركز القومي للبحث العلمي في باريس ـ ابتداع نموذج ديني جديد من خلال تعزيز الصلات بين المجتمعات الإسلامية الأوربية، ومواجهة الشكوك وتهجين ممارساتها، وهو دور تبلور بعد الحرب.

ويشير بوغاريل إلى أن هذا الإسلام الأوربي الوليد، ربما لم يكن موقعه وديان البوسنة، بل نشأ في المدن الأوربية الأكبر، حيث يجتمع الشتات الإسلامي من شتى التيارات بما في ذلك الشتات القادم من البلقان.

والخلاصة أننا لا نعيش بمعزل عن العالم، ولا نستطيع ولو أردنا، وبما أننا نبتغي عالمًا من المساواة، يحكمه القانون، وتسيِّره الديمقراطية، فعلينا أن ندعم الصورة العصرية للإسلام، إطارًا لحياة المسلمين، ليس فقط في بلدان الغرب، بل في بلادنا أيضا. إن مستقبل الإسلام في أوربا مرهون بمستقبله في بلاده، والعمل على احتواء المسلمين لأزماتهم مع الآخر يبدأ بنهج الصراحة مع الذات أولًا، لكي لا تطغى سلوكيات فردية ومتعصبة ومتطرفة، على صورة مثالية لدين عالمي، قائم على احترام القيم الإنسانية.

 

سليمان إبراهيم العسكري