الألوان: مرآة البهجة والحزن

الألوان: مرآة البهجة والحزن
        

          من المتعذّر على الإنسان أن يتخيل نفسه في عالم بلا ألوان, فهو حيثما اتجه يلقى أمامه مزيجًا من الألوان البهيجة المتجسّدة بزرقة السماء والبحار, وخضرة الأشجار والبساتين والحدائق والأعشاب, وتنوع ألوان الأزهار حتى الرمال والأجرام السماوية والصخور كلها تتمم جمال الطبيعة بتباين ألوانها وتناسقها.

          وعندما نتطلع إلى صورة غير ملونة, فإننا لا نحس الأثر الذي تبقيه هذه الصورة الخالية من الألوان, ذلك لأن ذاكرتنا مشحونة بما تحمله من صور عن ألوان الطبيعة, وعليه فإن تداعيات الذكريات تفرض نفسها على تلك الصورة فاقدة التلوين, فتمنحنا شعورًا بالألوان مستمدًا من خبراتنا الماضية.

          ولاريب أن الإنسان القديم قد شاهد كل الألوان التي اشتملت عليها الطبيعة منذ القدم وحتى اليوم, ولكن ما يثير الانتباه بخصوصها هو أن الإنسان القديم لم يسم من تلك الألوان - من قبل ممارسته للزراعة في حدود سنة 800 قبل الميلاد - سوى ثلاثة ألوان فقط وهي: الأحمر والأخضر والأصفر.

          والغريب أننا عندما ندقق هذه الألوان الثلاثة نراها جميعا تنتهي بحرف الراء من دون بقية الأسماء الأخرى الخاصة بالألوان!

الألوان أولاً

          وهذه الحقيقة يسّرت لنا التعرف على أن هذه الأسماء الثلاثة قد ظهرت فعلا قبل اكتشاف الزراعة, لأن الدراسات اللغوية الخاصة باللغتين الرئيستين اللتين انتشرتا في وطننا العربي - وهما اللغة السومرية ولغة أقوام الجزيرة العربية - قدمت لنا الأدلة الكافية على أن عددًا ضخمًا من الأسماء والوظائف كانت تنتهي بحرف الراء. ففيما يخص اللغة العربية نجدها تنهي أغلب أسماء الأشياء البارزة التي كانت موجودة في حياة الإنسان من قبل ظهور الزراعة في خلال الألف الثامن قبل الميلاد بحرف الراء مثل: قمر, شجر, بحر, نهر, ثور, طير, صخر, سحر, فجر, ظهر, عصر. وأسماء أخرى كثيرة على غرارها.

          وأورد عالم السومريات (فوزي رشيد) أمثلة من اللغة السومرية بينها: سخار, تراب, بخار, فخّار, كشمار, إيكار, جدار, امبار, أهوار. وغيرها من الأسماء التي تنتهي بحرف الراء.

فيزياء غير مرئية

          واللون ظاهرة فيزيائية مصادرها الرئيسية: الضوء والمرئيات في الطبيعة, وواسطة الرؤية, أي العين.

          وكانت التفسيرات حول الشمس حدسية إلى أن وضع (نيوتن) نظريته الشهيرة في تحليل أشعة الشمس, فحول بها تلك الظاهرة إلى لغة حسابية وتجريبية وقياسية.

          باشر (نيوتن) تجاربه سنة 1665م عن طريق تحويل أشعة الشمس التي اخترقت ثقبًا مدورًا في مصراع شباك على منشور, حيث انكسرت الأشعة عليه, فظهرت على الشاشة بصورة مستطيلة الشكل تتعاقب فيها ألوان قوس قزح الستة: الأحمر في طرف من الطيف, والبنفسجي في الطرف الآخر.

          أثبت (نيوتن) أن اللون الأبيض هو لون مركّب يتحلل بواسطة المنشور إلى أجزائه الأصلية بفضل اختلاف درجة الانكسار, كما اكتشف الظاهرة الاهتزازية في الألوان واختلاف أطوال موجاتها, وبذلك وضع القواعد الصحيحة لدراسة الألوان.

          ووراء أطراف الطيف تتكون الألوان المخفية, غير المرئية, كالأشعة تحت الحمراء وغيرها.

ألوان دافئة... وأخرى باردة

          للون تأثير قوي على الإنسان, يخلق فيه حالات نفسية معينة, ولقد أجرى العلماء دراسات وتجارب حول التأثير النفسي للألوان, فنتج عنها التوصل إلى حقائق مدهشة, وتبين أن (الأصفر والبرتقالي والأحمر) من الألوان الدافئة, وتكون حاسمة واندفاعية وقلقة ومثيرة تجلب الاهتمام مقارنة مع الألوان الباردة, وهي الأزرق والأخضر والأرجواني التي تكون سالبة ومنكفئة وهادئة وصافية.

          إن ما نشعر به من تفضيل متميز نحو ألوان محددة أو نفور شديد من ألوان أخرى يشير إلى أن لهذه الألوان تأثيرها الواضح في حالتنا الانفعالية, حيث يثير بعضها فينا البهجة والفرح والسعادة, بينما يثير البعض الآخر مشاعر الحزن والاكتئاب. وبسبب هذا التأثير, اتجه العلماء إلى دراسة الألوان وأهميتها بالنسبة لجوانب حياة الإنسان المختلفة, ليتسنى فهمها وتعميق الإفادة منها.

          على أننا على الرغم من هذه الآراء لا نستطيع الجزم بشكل أكيد بأن تفضيل لون محدد من قبل الإنسان يحدث بفضل تأثير هذا اللون أو ذاك في الحالة النفسية له.

الفنان وألوان الحقيقة

          والألوان في الفن, هي أساس العمل الفني وروحه, فالتصوير في نظر (برادين) هو: الفن الذي يلهو باللون لهو الموسيقي بالنغم!

          هذا التعريف يجسّد لنا العملية الغامضة التي يأتيها الفنان حين استخدامه الألوان والخطوط للتعبير عن طاقة نفسية برمز عياني, أو التمثيل لموضوع محدد في الفراغ بشكل مسطح على قطعة قماش, وهذا العمل هو الذي يؤكد قدرة الفنان على إبداع موضوع ملون وجمالي. بينما لا يعرف الناس, أن هناك فرقًا بين رصف ألوان مماثلة للطبيعة بشكل يؤثر على حساسية العين, وبين تلك العملية الفريدة التي يؤديها الفنان لإبداع (بديل) أو (مماثل) للطبيعة وليست الطبيعة نفسها.

          وحينما انعطف الفن في مطلع القرن العشرين لتصوير الحقيقة المنظورة عن طريق تجميع البلورات المنشورية, وتفكيك الشكل إلى مكعبات واسطوانات ومخاريط, كان هذا إيذانا بأفول دور الألوان من مسرح النظر.

          لقد كان ذلك التحول, يعكس روح التمرّد للمدرسة الانطباعية باعتبارها آخر مرحلة من مراحل التصوير الكلاسيكي, حيث برزت مدارس تيارات فنية جديدة أكثر تصدّيا للحقيقة وأعمق أغوارا في نظرها إلى العالم. وهكذا كان اللون الخارق الحدة الذي جاء به - فان جوخ - زعيم التعبيرين - مثلا - إشعارًا ببزوغ فجر الألوان الضارية, ذات الدفق الوحشي, والغنائية المتفجّرة أسى ولوعة. فلقد استعاض (جوخ) عن ذلك البعد الوهمي بـ(البعد الذاتي) فيما حققه من تعبير انفعالي لم تكن مادته المطر أو الغيوم أو الأشعة - وهي مواد عاكسة للضوء - بل كانت جحيم الآلام الذي تستعر النفس بضرامه وهي في تساميها لتحقيق صفاء مستحيل...!

 

جليل العطية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات