قصور الحمراء.. ديوان العمارة والنقوش العربية

قصور الحمراء.. ديوان العمارة والنقوش العربية
        

          مازال قصر الحمراء باقيًا. كان حصنًا يأوي الثائرين, وقصرًا يقيم فيه الملوك ثم أصبح ذكرى على دولة مضت وضاعت كما تبدد الحلم الأندلسي برمته.

          صدر عن مركز الخطوط في مكتبة الإسكندرية كتاب للدكتور محمد عبدالمنعم الجمل, عن قصور الحمراء التي وردت لأول مرة في المصادر العربية باسم حصن الحمراء, وكان يطلق على حصن صغير لجأ إليه الثائرون الذين فرّوا أثناء الفتن التي شبّت خلال حكم الأمير عبدالله الأموي.

          ويبدو أن هذا الموقع قد أصبح في نهاية القرن 3هـ/9م حصنًا إسلاميًا, وقد شيد فيما يغلب في نهاية القرن الثالث الهجري على أطلال رومانية وقوطية قديمة كانت تتخذ من هذا الموقع الاستراتيجي فوق تل السبيكة حصنا ومركزا دفاعيا لها, وقد هُجر فيما يبدو في أيام الخلافة حيث لم تذكره المصادر العربية إلا في عصر بني زيري الذين اتخذوه حصنا وموقعا عسكريا, ثم أضافوا إليه منشآت مدنية للسكنى.

          ونلاحظ عدم وجود صلة بين تسمية القصر بالحمراء وبني الأحمر, فتسمية القصر تسمية قديمة - كما أشرنا - ترجع إلى الفترة السابقة على عصر بني نصر, أما تسمية بني الأحمر بهذا الاسم, فترجع إلى جدهم عقيل بن نصر الذي لقب بالأحمر لشقرة فيه, وقد استمر هذا اللون يظهر في العديد من أفراد الأسرة.

          والحمراء مدينة ملكية تتخذ شكل الحصن الذي يقام في موقع مرتفع منيع يتميز بحصانته بفضل الأبراج والأسوار المحيطة به, ويبلغ ارتفاع الهضبة التي شيّدت عليها القصور 736 مترًا, وتشغل نحو خمسة وثلاثين فدانًا, وهي في ذلك تشبه إلى حد كبير قلعة الجبل في القاهرة, وقلعة حلب في بلاد الشام, وهذا الطراز من المدن المحصّنة أصبح الطابع المميز للعديد من المدن الإسلامية ابتداء من القرن الرابع الهجري.

          وتضم الحمراء عددًا من الوحدات المعمارية بعضها قاعات ومجالس وبعضها أبهاء وبساتين تتخللها الجداول والبرك الصناعية خطط لها فوق تل السبيكة الذي عرف بهذا الاسم لتحوّله إلى اللون الذهبي عندما تسقط عليه أشعة الشمس.

          وقد اتسعت الحمراء بما أضيف إليها من قصور وأبراج وقاعات ومرافق مختلفة ومتعددة الأغراض, حتى أصبحت بحق مدينة ملكية تضم القصور والحمامات والمساجد السلطانية والمتنزهات وصهاريج المياه, وتطوقها الأسوار والأبراج المحصنة.

          وأقدم قصور بني نصر التي أقيمت بالحمراء كانت من إنشاء السلطان الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر, الذي وضع النواة الأولى للأسوار والقصبة والقصور فوق القمة المعروفة بـ(السبيكة) ثم تابعت الزيادات في القصور والمجالس والقاعات على أيدي عدد من سلاطين بني نصر شارك كل منهم بالإضافة والزيادة في إنشاء مجموعة قصور الحمراء.

          ويمكننا أن نقسم مجموعة الأبنية المؤلفة لقصور الحمراء إلى مجموعتين, المجموعة الأولى وتنسب إلى السلطان يوسف الأول (733-755هـ/1333-1354م) وتشمل باب الشريعة والحمامات السلطانية وكذلك برج الأسيرة ومصلى البرطل وبرج أبي الحجاج وقاعة السفراء. والمجموعة الثانية وتنسب إلى السلطان محمد الخامس الغني بالله, وتضم مجموعة بهو الأسود أو السباع الذي يضم قاعتي الأختين وبني سراج المتقابلتين, بالإضافة إلى قاعة الملوك, وقاعة المقربصات, بالإضافة إلى النافورة التي تتخذ شكل قصعة مستديرة يحملها اثنا عشر أسدًا تمج المياه من أفواهها, ومن أبواب الحمراء جدد باب النبيذ.

          أما المجموعات الأخرى من القصور, فترجع إلى عدد من سلاطين بني نصر, ساهم كل منهم بالإضافة والتجديد والتعديل في قصور الحمراء, فيرجع قصر البرطل إلى السلطان محمد الثالث, وكذلك مسجدالحمراء, ويرجع الفضل في إنشاء قصر جنة العريف إلى السلطان محمد الثالث, واستكمله السلطان أبو الوليد إسماعيل (713-725هـ/1313-1324م), ويرجع قصر أو برج الأميرات إلى السلطان محمد السابع (820-858هـ), كما أسهم سلاطين آخرون في الزيادة والتجديد لقصور الحمراء ببعض الإضافات في أبهائها وبساتينها سواء بالبنيان أوالزخرفة مثل تجديدات السلطان أبو الوليد إسماعيل في قصر البرطل, مما يصعب أحيانًا تحديد وتمييز أعمال كل منهم عن الآخر.

روايات وأساطير

          ونلاحظ أن معظم مسمّيات القاعات والأبهاء والأبراج, ترجع في معظم الأحيان إلى عصور حديثة وأغلبها يرتبط في كثير من الأحيان بالروايات والقصص الأسطورية, وكثيرًا ما يطلق على القاعة الواحدة مسميات عدة, فقاعة السفراء تسمى قاعة العرش, ويطلق عليها أيضًا قاعة قمارش أو قصر الريحان.

          ويتناول الكتاب الخصائص الفنية للنقوش الكتابية في الأندلس وتطورها:

          ولقد صححت النقوش الكتابية المسجلة على الآثار أخطاء وقع فيها المؤرخون, وحلت مشاكل عجز الباحثون عن حلها, فالنقوش المدونة على الآثار المعمارية والتحف والعملات الإسلامية تعتبر من المصادر المهمة لدراسة الجوانب السياسية والمذهبية والاقتصادية والاجتماعية بما تحتويه من ألقاب ودلالات ذات أهمية بالغة للمشتغلين في حقل الدراسات التاريخية والأثرية.

          ويرى الأستاذ ليفي بروفنسال أن شرق العالم الإسلامي كان أكثر ثراء من غربه في النقوش الكتابية المؤرخة التي لاتزال ثابتة في مواضعها الأولى, لاسيما في شواهد القبور, ويرجع السبب في ذلك إلى أن إسلام أهل الأندلس والمغرب بوجه خاص كان أكثر رسوخًا من حيث الحفاظ على روحه وتعاليمه من أهل المشرق.

          وكان لذلك أثر واضح في نظرتهم إلى شواهد القبور, وفي تصورهم أنها مكروهة في الإسلام, فزهدوا في اتخاذهم لها أعلى مقابرهم, وإن كان ذلك لم يمنع من وصول عدد كبير من الشواهد الجنائزية الأندلسية إلى المتاحف الإقليمية بالأندلس, أما أهل المغرب, فلم يقبلوا على استخدام هذه الشواهد, واستعاض الموحدون عنها بالآيات الكريمة التي أكثروا من نقشها على قبورهم.

          وقد تنوعت أشكال شواهد القبور الأندلسية, فهي إما مثلثة الشكل أو مستطيلة أو مستديرة من أعلاها على شكل المحاريب, وتعتبر شواهد قبور مدينة المرية من أجمل الشواهد الأندلسية قاطبة وأدقها صناعة.

          ونلاحظ أن معظم من تولى الوزارة من سلاطين بني نصر في غرناطة, كانوا من فحول الشعراء, وكانت الموضوعات الرئيسية لأشعارهم تدور عادة حول مدح السلاطين والأمراء, ووصف حفلات البلاط والاحتفالات بالأعياد الدينية الكبرى, أو المناسبات المهمة كالمعارك الكبرى أو عودة الجيش منتصرًا أو حفلات الزواج والإعذار, أو أشعار وصفية لغرناطة وحدائق وقصور وبرك ونوافير قصور الحمراء, ومعالمها المختلفة.

الكلمة... زينة

          وأعظم قصائد هؤلاء الشعراء قيلت في وصف حدائق ومنتزهات ومباني تلك القصور, وزاد من قيمة هذا الشعر وخلوده أنه سجل على جدران الحمراء التي تمثل إحدى روائع الفن العالمي, ويستفاد من المصادر الأدبية والتاريخية, وأيضًا من دواوين هؤلاء الشعراء أن بعض قصائدهم أعدت خصيصًا, ونظمت لهذا الغرض الزخرفي لتنقش على الجدران والنافورات مما يجعلنا نصدق القول بأن الحمراء تسجل لنا أفخم وأعظم طبعة لديوان الشعر العربي على مر العصور, فلم يسبق أن صدر ديوان للشعر مذهّب ومطبوع على الجص والحجر والرخام ومزخرف بأروع التشكيلات الهندسية والنباتية من فنون الزخرفة العربية الإسلامية, قبل ذلك.

          وتتوزع نقوش الأشعار المسجلة على جدران الحمراء في مواضع متعددة, فهي تمتد في أفاريز متعددة الأشكال داخل القاعات وخارجها وعلى الواجهات والأبواب والنافورات, وتتخذ شكل أفاريز طولية وعرضية أو داخل دوائر مفصصة تنحصر داخل إطارات مربعة الشكل تمتد في مساحات واسعة متناظرة ومتماثلة,وتدور على جدران القاعات بحيث لا يخلو جزء من الجدران من النقوش الشعرية بين التوريقات النباتية والزخارف الهندسية المتعددة الأشكال والأنواع.

          وتتركز الأشعار في قصور الحمراء في قاعة السفراء وبرج الأسيرة والحمامات السلطانية وواجهة المشور وواجهة قصر قمارش والمدخل إلى قاعة البركة وقصر البرطل وقصر جنة العريف وبرج الأميرات وقاعة الأختين ومنظرة دار عائشة, وتتخذ أشكالا زخرفية متنوعة تزيّن الجدران ومداخل الأبواب على مهاد من التوريقات والزخارف المتنوعة التي تسبغ عليها مظهرًا جماليًا فريدًا.

نقوش الحمراء

          وفي عرض للمواد الخام المستخدمة في تنفيذ النقوش الكتابية وأساليب تنفيذها وإعدادها يمكن القول إنها:

  • الجص: الجص لفظ معرّب وهو في الأصل أعجمي ويتخذ من مواد متعددة منها الأحجار وكبريتات الكالسيوم تطحن ويضاف إليها الماء وتطلى به الحوائط - ويعرف الجص عند العرب بالقص.
  • الرخام: هو نوع نفيس من الحجارة الملساء البيضاء المجزعة الملونة, عرفته الحضارات القديمة, حيث عرف بنقائه وشفافيته وسمي بالمرمر, وقد استخدمه النقاشون المسلمون في كسوة الجدران والمحاريب والنوافذ, وفي صناعة الأعمدة والتيجان وعضادات الأبواب والأعتاب والأحواض والنوافير, وحرصوا على تزيينه بالزخارف الهندسية والنباتية المحفورة حفرا غائرا أو بارزًا.

          وقد أطلق على الرخام صفات مختلفة تتعلق بلونه أو مصدره أو باستخدام الرخام ذاته مثل الرخام النفيس, والرخام الحلبي والبلوري, ومن ألوانه الأبيض والأحمر والأسود, والرخام المجزع أي الرخام المقطع بألوان مختلفة وخاصة اللونين الأحمر والأسود.

  • الأحجار: يعتبر الحجر مادة البناء الأساسية في العمائر الدينية والمدنية والمنافع العامة, وبعض العمائر الحربية, ومن أنواعه البازلتي والجيري والكدان والحلان, ويختلف اسم الحجر باختلاف مادته وطريقة قطعه, فهو غشيم أو منحوت, أو منضد, أو مهندم, أو منجد, وكان المعماري المسلم يستغل الألوان الطبيعية للحجر في إبراز جمال المبنى عن طريق تناوب الألوان مثل الأسود, والأبيض المائل للاصفرار, ويعرف في الوثائق باسم (الحجر المشهر) أو الأبلق الذي استخدم في بناء جامع الزيتونة بتونس, وكان يستخدم بالتناوب مع قوالب الآجر في عقود المسجد الجامع بقرطبة كحلية زخرفية, وانتشر استخدامه في منشآت المماليك المعمارية بمصر, كذلك استخدم الحجر والرخام في إعداد شواهد القبور في المقابر الإسلامية.
  • الأخشاب: من المواد الأولية التي استخدمت في كل المنشآت المعمارية كالأسقف والقباب الخشبية والمشربيات ومصاريع الأبواب والمنابر في المساجد وكراسي المصاحف والكوابيل المساندة للبراطل وقطع الأثاث, ومن أنواع الأخشاب الأرز, والصنوبر والأبنوس والساج والبقم وخشب الجميز, ومن الأخشاب التي شاع استخدامها في المنشآت الإسلامية في الأندلس الصندل الأحمر والأصفر والأبنوس والعود الرطب والمرجان وعيدان الصنوبر الطرطوشي.

          وشاع استخدام الخشب في الأندلس في عمل الأسقف والأبواب وفي عمل (الشماسات) التي كانت تتخذ في واجهات المباني للوقاية من الأمطار وأشعة الشمس, وقد وصلت إلينا أمثلة منها من قرطبة وغرناطة وإشبيلية.

  • الزليج: تعرف القراميد أو التربيعات الخزفية في المغرب والأندلس باسم الزليج, وتعرف في العراق باسم القاشاني نسبة إلى مدينة قاشان في إيران التي اشتُهرت بإنتاجها, وقد انتقلت كلمة الزليج من المغرب والأندلس إلى مصر تحت مسمى (الزليزي), فنراها بكثرة في الإسكندرية ورشيد ودمياط وهي المواني التي ينزل فيها المغاربة أثناء رحلاتهم إلى المشرق, لاسيما في موسم الحج يحطون فيها رحالهم.

 

محمد عبدالمنعم الجمل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





مسقط رأسي لنافورة في أحد أبهاء القصر





قاعة الأسود في قصر الحمراء, كانت مخصصة دومًا لاستقبال السفراء





حوائط مرصعة بنقوش آيات من القرآن وأبيات من الشعر