مساحة ود

مساحة ود
        

أشياء باقية

          ...أطلعتني جدتي لأمي, لدى زيارتي الأخيرة لها, على أشياء جدي التي كانت تخبئها بحرص منذ وفاته: نظارته الطبية, ساعة يده, حافظته الجلدية التي تحوي أوراقه وبطاقة هويته. لا أعرف لم فعلت ذلك فجأة ودون مقدمات, بانت على وجهها سعادة غامضة كأنها تخصّني بسر, ورأيت في نشوة انهماكها حمرة دماء قديمة تعود لوجهها الناحل الشاحب.

          أبديتُ حماسًا مصطنعًا يوازي حماسها, فما كان منها إلا أن أظهرت مفتاحًا قديمًا, وفتحت باب غرفته - غرفتهما - التي أغلقتها منذ وفاته ولم تُفتح. غرفة مغبّرة تعبق برائحة الشبح الذي غادر, كأنها أغلقتها لتحتفظ بين جدرانها ببقايا زفراته الأخيرة والأصوات الخافتة لأنفاسه.

          راحت جدتي تتطلع كأنها تراها لأول مرة, وحدقت طويلاً في سرير زواجها قبل أن تفتح ضلف الدولاب العتيق, بقوة لا تتناسب وهشاشتها. أطلعتني على ملابسه المنسّقة, والتي بدت رغم نفاذ الرائحة المخزونة الخانقة معدّة للارتداء, ويبدو أنها اندمجت, فأخرجت فستان زفافها ضاحكة, وبدت نصف ممسوسة وهي تستعرض أمام عيني حياة كاملة لم يبق من رفات صاحبها وشيخوخة شريكته سوى حفنة من الأشياء.

          غابت جدتي في الحكي, بينما راحت أصابعها تختزل كل مرحلة فيما تتحسّسه من أشياء, من طربوش مراهقته الحائل, لطاقية شيخوخته, من علبة سجائره الصفيحية في صدر شبابه للمبسم الداكن الذي اضطر لاستعماله مع تقدم العمر وتهالك الرئتين, ولم يفُت جدتي أن تصحب سردها بالصور المتدرّجة من الأبيض والأسود وصولاً لصورته الأخيرة, الملونة: صورة مرضه, مطلة جميعها من الألبوم المفتوح على حجرها.

          أظلمت الغرفة فجأة, فقد تراجعت خيوط الضوء الرفيعة التي كانت تعبرها من فرجات النافذة المغلقة, وعرفت أن وقتًا طويلاً قد مرّ, بينما تحكي كالمُغيّبة. غبتُ بدوري متمليًا هذا الرجل: الحياة التي كانت, الذي اختصرت أشياءٌ قليلة كل تاريخه. أشياء هشّة, صمّاء, لكنها ماثلة حاضرة, بينما ذهب هو.

          لا أعرف إن كانت جدتي قد لاحظت كآبة شرودي فجأة, أم تشبّعت بحكيها مستشعرة الرضا, عادت ترتّب الأشياء وتعيدها إلى مواضعها, لم تتوقف عن الحكي, لكن بهمس بطيء موجّه لنفسها, أو للغائب, أدركتُ أنها لم تعد تنتبه لوجودي, بينما بدت لي متوحّدة مندهشة مثلما لم أرها من قبل!

 

طارق إمام