جمال العربية

   جمال العربية
        

الشاعر محمد الفايز..
أربعون عاما على (مذكرات بحار)

          في تاريخ الشعر الكويتي المعاصر يحتلّ الشاعر محمد الفايز - الذي اتخذ لنفسه قناعًا أسطوريًا هو سيزيف - مكانة فنية خاصة. وسيزيف في الأسطورة اليونانية كتبت عليه الأقدار أن يحمل صخرة على كتفيه ويرقى بها الجبل وصولاً إلى قمته, لكن الصخرة تسقط كلما شارف النهاية فيعود من جديد لمواصلة الصعود بها, حاملاً معه معاناته الهائلة وخيبة الرحلة التي لم يكتب لها أن تكتمل. لست أدري ما الذي أغرى محمد الفايز العلي - وهذا هو اسمه الكامل - باتخاذ سيزيف قناعًا, إلا إذا كان الذي أغراه في الأسطورة معنى المواصلة بلا يأس أو كلل, حتى وإن تجدّدت الخيبة وتأكد انعدام التحقق.

          أتيح لي أن أعرف محمد الفايز عن قرب, خلال العام الذي عشته في الكويت (1963 - 1964) معارًا للعمل في إذاعتها رئيسًا للقسم الأدبي ورئيسًا لقسم المذيعين. وهو العام الذي شهد مجيء الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب في ختام رحلة الداء العضال التي أفضت به إلى الموت, وفتحت له الكويت ذراعيها ضيفًا عزيزًا عليها في المستشفى الأميري.

          وسرعان ما تحلقنا من حوله, نحن الذين استقبلناه في مطار الكويت - وقد توقف جسده عن الحياة - ولم يبق فيه سليمًا إلا رأسه, ثم استمر التفاتنا من حوله في ليالي وحدته بالمستشفى ونحن نشهد تسلل أنفاس الحياة منه يومًا بعد يوم, واقتراب النهاية التي حلت في الرابع والعشرين من ديسمبر 1964.

          مازلت أذكر رفاق تلك الأيام الغالية من العمر, تكسوها زهوة الشباب والشعر: علي السبتي وناجي علّوش وخالد أبو خالد وآخرون, ثم انضمّ إلى الكوكبة محمد الفايز, كان يُسمعنا شعره في بواكيره, ويفاجئنا بحفظه لقصائد كاملة من شعر السياب, وكان واضحًا أن محمد الفايز يعيش قلق (المرحلة) شعريًا وهو يبدع قصائده العمودية, ويجاسر ببدايات قصائده في قالب الشعر الجديد.

          وتمثلت ذروة المفاجأة في قصيدته الملحمية الطويلة (مذكرات بحار) التي أكد بها ولاءه لتراث الكويت في البحر والغوص والسفر, ومواجهة الرياح والأعاصير, وأغاني الملاحين وحكايا النواخذة, ومصائر (البوم) السفّار, ورحلة الموت والحياة, وتراجيديا الصراع الدامي التي لم يرها الفايز ولم يعشها, لكنها ظلت مختزنة في ذاكرته والقرار البعيد من وجدانه, حتى أتاح له قالب الشعر الجديد - بعد نضجها واكتمالها - فرصة الميلاد الفني البديع.

          كانت حفاوتنا بالمولود الشعري المفاجئ (مذكرات بحار) في إذاعة الكويت حارة ومشجعة, وسرعان ما تم تحويلها إلى مسلسل إذاعي ودرامي, تواصل معه الناس, بكل ما في أعماقهم من حنين للأيام التي يحكي عنها (البحّار) القادم من زمن الغوص والإبحار والسفر, والتفت إليه الشعراء والأدباء والنقاد وهم يرون في سيزيف الكويت: محمد الفايز موهبة شعرية جامحة ومغايرة, كان البحار الراوية يقول في مذكرته الثامنة:

مازلت أذكر كلّ شيءٍ عن مدينتنا القديمة
عن حارتي الرملية الصفراء والمقل الحزينة
لمّا نُحدّق في السماء على السطوح
نَضبت جرار الماء, والغدران مثل يد البخيل
مَحلتْ,فأمست كالقبور
مخسوفة سوداء تملؤها الصخور
وعلى الضفاف الغارقات
بالشمس والرمل المندّى والضباب
وقف الصحاب
يترقبون سفينة الماء التي قالوا: تعود
بالماء من نهر الشمال
فالأرض رمل والسماء
بيضاء صافية كنهرٍ من جليد
هيهات لم تمطر, ويهتفُ من بعيد
نفرٌ يبشّرُ: إنّ صاريةً تلوح
كهلال مئذنة يُغلّفها الضباب
عبْر العُباب
وعلى ظهور جمالنا الظمأى تحجّرت القراب
سوداء فارغة يغطّيها التراب
كبطوننا تحت الشراع
صلّي إذن, فالموت أقْرب ما يكونْ
والريح أغرقت السفينة والسماء
حقدت علينا يا (أمينة)
صرخات طفلك في الظلام أتسمعينه?
نهداك ملؤهما الحليبُ وأنت ظمأى تُرضعينه
في بيتك الطيني قابعة حزينة
تتساءلين عن السفينة
وعن السحاب, وعن رفاقي في المدينة
والأفْق صحوٌ والنجوم
زرقاءُ تبرقُ مثل أقراطٍ ثمينة
وتثور عاصفة كأنّ قُوى الوجود
سمعت أنينك فوق أرضٍ لا تجود
إلا برمضاء الرمال, وبالدماء
والجوع والجدريّ يفتك بالصغار
ضحكاتهم في الليل تبرق كالنجوم, وفي الصباح
يتساقطون كما الزنابق حين تعصفها الرياح
وكما تنير الشمس أعماق الكهوف
إيماننا بالأرض ملءُ قلوبنا رغم الجفاف
نحن الرجال
نحن العطاءُ إذا تعذّرت الحياة على العطاء
وفي السماء
الجنة الخضراء والمطرُ الذي يروي الحقول
لا في القصور الشامخات
أو في خزائن أغنياء مدينة (اسطنبول) أو (روما) البعيدة
تلك التي شبّت بها النيرانُ أبرقت السّماء
عيناك تحت ضيائها الفجرى تشرق يا (أمينة)
مثل الشموع
والريح كالراعي الذي ألقى عصاه
لينام خلف الأفقْ, والبركُ الحزينة
بدأت تُفتَح مثل أفواه الجياع
مثل البراعم حين يلفحها شعاع
حتى (خليفة) جارنا الأعمى تحسّس أن أمطارًا ستهبط يا (أمينة)
هل تسمعينه?
هل تسمعين عصاه تَقْري السلّم الطيني تبحث عن مداه
فالسطحُ يزخرُ بالمياه
والبركةُ الجوفاء فارغة كبطن الذئب تبحث عن غذاء
أختاه أمطرت السماء
وذكرتُ قصة من تمرّد ضدّ طاغية عنيد
في ذلك الماضي البعيد
فتألبوا كي يقتلوه
وتساءل الملك الذي في كفّه أمر المدينة
عن ميتة أقسى من الموت الذي قد قرّروه
فرموه في الصحراء حيث رؤى السّراب
كالماء يبرق في مهاويها الرحاب
ويروح يركض, ثم تنبجس المياه بكلّ خطوة
فإذا الرمال الصّفْر رَبْوة
خضراء تملؤها الأزاهر والطيور
وبكوخه عند الغدير
جلس المشرّدُ كالنبي ليكتب الكتب الكثيرة
عن رحلة الإنسان فوق الأرض والدنيا الأخيرة
عيناه ينبوعان من نورٍ وجبْهتهُ ظهيرة!

          هذا النفس الشعري الممتد, وهذا البناء الدرامي المتصاعد, وهذه القدرة على استدعاء التفاصيل الصغيرة, مختلطة بصور وملامح لوجوه ومشاهد, ولحظات حلوة مفرحة وأخرى ممتلئة بالقسوة والشجن والحزن والانكسار والمرارة, في لغة شديدة الشفافية والتدفق والانسياب: كلُّ هذا بعض سمات هذا الشعر الذي تفجرت به موهبة الفايز الذي لم يكن يتجاوز وقتها عامه السادس والعشرين, فتلقّفه بالرعاية والتشجيع خالد سعود الزيد وعبدالعزيز السريّع وصقر الرشود.

***

          كان إحساسي العفوي في ذلك الوقت البعيد - منذ أربعين عامًا - أن الفايز قد اتخذ من السياب نموذجًا ومثلاً أعلى, مع اختلاف المكونات الشعرية والظروف الحياتية والثقافية لدى كل من الشاعرين. كان شاعر الأسطورة الشعرية التي صنعت حضورًا لافتًا لقريته (جيكور) ورؤى (فوكاي) و(الغريب على الخليج) و(أنشودة المطر) - العراقية حتى النخاع - وغيرها من الروائع التي أصبحت الآن من كلاسيكيات الريادة الشعرية, قد سكب بعض سحره وجمره, وصهد كيميائه في توهج شاعرية (الفايز) وحُمّيا جنونه الشعري. كان الفايز يعي عظمة البناء الشعري الشاهق الذي أبدعه السياب في إطار القصيدة العمودية التي تنفسّت بها شاعريته في انطلاقاتها الأولى, وهو البناء الذي لم يتخلّ عنه حتى وهو يبدع نموذجه في الشعر الجديد, فقد ظلّت البنْيتان الشعريتان: العمودية والجديدة - في جدلية رائعة - تتجاوران وتتحاوران وتتفاعلان. وظل نموذج السياب - في إطار جيله من رواد الشعر الجديد - أكثرها هيبةً وقوة وحضورًا لغويًا وقدرة على التحدّي, في وجه هشاشة لم تنج منها نسبة كبيرة من قصائد الآخرين.

          من هنا كان عكوف الفايز ودأبه وحرصه على تأصيل قصيدته, وترسيخ معمارها في صيغتها: العمودية والجديدة, وتأكيد أن التحوّل لديه - من نموذج إلى آخر - يحدث من منطلق القوة لا الضعف, والقدرة لا العجز, وأنه قادر على استدعاء النموذجين: معا أو منفصلين, حتى ختام رحلته الشعرية.

          يقول في واحدة من عموديته البديعة التي سمّاها (خليجية):

أرى لافحات الرمل أمستْ حدائقا تُناسمُ رُبّانا وتحضنُ طارقًا
تحاشد فيها العطر حتى تقدّحت منابتها لونينْ عطرًا وناشقًا
يُظللّها ظلٌ وإن كان لافحًا فمازال نشوانا ومازال شاهقًا
فيا حُسْنها حتى بآلام عُرْسها ويالُطفها مهما استحالت صواعقا
تنبّه فيها الضوء حتى كأّنني أراها سُطوحًا مُشرقاتٍ بواسقا
كأنّ خيالات الذين تجنّحوا مَرَاقٍ, وإن كانت ردى ومزالقا
ترصّدُ للظلماء حتى كأنها تُسوّى الزوايا الداجيات حرائقا
إذا ما نزا منها ذراعٌ مُمزّق لمحْتَ سماءً أو تتبّعْتَ بارقا
ستُبقي الخُطى أشواطها في مفازةٍ من الأرض سوّتُ من هواها طرائقا
إذا العِقْد أرضى طيش صدرٍ فلم يَزلْ هواهُ حنينًا أو شعورًا مُعانقا


          وفي إحدى قصائد ديوانه (النور من الداخل) تطالعنا صرخة كبريائه ووجعه وأسفه وانكساره تحت عنوان (العامرية) وفيها يقول:

علّقت كلّ شموعي في منازلكم وفي دروبكمو وزّعتُ أقماري
وكلّما عصفت ريحي بساحتكم آويتكم بضلوعي وهي كالنار
حتى مضى جلّ أيامي وما كشفت أستار ليلكمو الكهفيِّ أنواري
عشرون عامًا تقضّت, ليتها رجعت لكي أبدّل آرائي وأفكاري
فكم تحطّم نجمٌ فوق صخرتكم وكم رميتم قناديلي بأحجار
وما كرهت شموسًا كنت أُوقدها لكي ألوذ فروحي كوكب ساري
أنا المُشعُّ إذا ما الكلُّ قد هتفوا أنا القويُّ بإيماني وإصراري
لكنني لم أَهبْ للريح أشرعتي مادامت الريح تجري ضدّ تياري
ولن أمدّ يدي للراقصين على حرْف الحياةِ, ولم أعبأ بثرثار
فتحتُ للنور أبوابي ونافذتي وللجمال أساريري وأغواري
في أضلعي ألف ينبوعٍ لأغنيةٍ وفي يدي مشعل من قمة النارِ
ظمئتُ يا شاربي الكاسات من عطشي وجُعتُ يا سارقي قمحي وأثماري
أسفتُ أن شبابًا رُحتُ أمطرهُ على الظماء, وإني الظامئ العاري
على الرمال قناديلي مُحطّمةٌ وفي الصخوربقايا بعض قيثاري
كأنني زهرة في عطرها اختنقت أو مُحربٌ نصْرُه قد آل للعار!


          هذا البناء الشعري الرصين, وهذه اللغة التي تفيض بالصرامة والاقتدار, وهذه السيطرة المحكمة على أدواته الشعرية, كلها بعض أسرار فن هذا الشاعر الذي لم يكن حضوره (الإنساني) يشي بحجم موهبته الشعرية, أو يفصح عن مكنون ثقافته وخبرته بالحياة والناس, كانت إنسانيته تتجلى - على حقيقتها - في شعره, وحضوره لا يُشِعّ إلا من خلال كلماته وإبداعاته, أما واقعه بين الناس فلا يُنبئُ إلا عن شِبْه غيْبوبة أو شبهة ذهول.

          عاش محمد فايز العلي ثلاثة وخمسين عامًا, بين عامي 1938 و1991 وعمل موظفًا في وزارة الكهرباء, ثم في القسم الأدبي بإذاعة الكويت وصدر له من الدواوين الشعرية: (مذكرات بحار), (النور من الداخل), (الشمس والطين), (رسوم النغم المفكر), و(بقايا الألواح). أما مجموعة أعماله الشعرية فصدرت في عام 1986.

          وسيبقى لمحمد الفايز - في ديوان الشعر الكويتي المعاصر - فضل اقتحامه لفضاء هذا الشعر نجمًا ثاقبًا, وحالاً شعرية مغايرة, ولغة تستحق التوقف الطويل أمامها بالنظر والدراسة والتحليل, وتجربة روحية عميقة ولافتة يستحق من أجلها محمد الفايز, (سيزيف عصره), أن يطلق عليه:(سيّاب الكويت)!.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات