إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

ليس بالعقل وحده....

          تقول الحكاية اليابانية القديمة إن محاربًا من (الساموراي) تحدّى أحد حكماء (الزن) أن يصف له الفردوس والجحيم, فأجاب الحكيم في ازدراء: (ما أنت إلا حثالة, ولن أضيّع وقتي مع أمثالك).

          اشتعل غضب الساموراي لجرح كرامته, وعلى الفور أشهر سيفه صارخًا: (والآن يجب أن تموت جزاء وقاحتك).

          وأجاب الحكيم بوداعة: (ذلك هو الجحيم).

          هدأ الساموراي إذ رأى الحقيقة واضحة في قول الحكيم عن الغضب الذي تأجج داخله, وكاد يحوّله إلى قاتل, فأغمد سيفه وانحنى شاكرًا الحكيم على هذا الدرس. فأجاب الحكيم:

          - (وذلك هو الفردوس).

          كان ذلك هو الدرس الثاني الذي لقنه حكيم الزن للساموراي المحارب, والذي يعني أن النعيم النفسي يكمن في الانتباه إلى نيران الغضب التي تشتعل في داخلنا, وعدم ترك هذه النيران تحرقنا وتحرق ما حولنا, ولا تترك إلا الندم - وهو جحيم آخر يكوي ويحرق النفوس والشعوب والتاريخ ببطء ومثابرة كجمر تحت الرماد.

          الحكاية أوردتها, بتصرف قليل جدًا, عن كتاب (ذكاء المشاعر) لعالم النفس (دانيال جولمان), والذي نقله إلى العربية في ترجمة لطيفة د. هشام الحناوي. وهو - أي الكتاب - مداخلة بارعة تجتاز متاهات علوم النفس ببساطة وتماسك, ووضوح مؤسس على اكتشافات علمية حديثة جدًا في القارة النفسية المجهولة التي اسمها الانفعالات أو المشاعر, وهي قارة لم تكن مجهولة أبدًا من الحكماء القدامى, ومنهم (بالمناسبة التي لم يوضحها الكتاب) رهبان بوذية الزن التي يؤكد مذهبها أن التأمل والرضا النفسي يوصلان إلى المعرفة. ولعل توقفي أمام الحكاية مرجعه أنها تلخص هدف الكتاب بأجمل وأفصح صور التدريس, أي الحكي, تلك الأداة التعليمية الساحرة التي ضاعت من عالمنا الذي لم يعد للجدات فيه دور غير التواري في أركان بيوت المسنين الباردة, ومن مدارسنا التي لم تعد تعرف إلا جفاف وسطحية الأسئلة المكررة والإجابات المحفوظة, ومن عالمنا الذي يخضع بهوان لإرادات عقول باردة حادّة الذكاء وغبية المشاعر.

          المطلوب أن نعيد لذكاء المشاعر الإنسانية مكانتها, فهي الأهم, وهي الحكيم الذي يحول دون إشعال ذكاء العقول الباردة لنيران الاحتراب والقتل, والنهم الأحمق, والأنانية الغبية, والدهاء المدمر, والحياة البشعة فوق أكوام الجثث وأهرام الجماجم وتلال الخراب.

          لقد وعى محارب الساموراي درس حكيم الزن في تلك الحكاية اليابانية القديمة, لكنني أتساءل عمّا كان يمكن أن يفعله الساموراي حيال غباء المشاعر الذي يجتاح أيامنا, التي لم تعد نشرات الأخبار فيها إلا تقارير مسموعة ومصوّرة عن القتل والقتلة من كل نوع وملة. هل كان درس ذكاء المشاعر الذي تلقاه عن الحكيم يبقيه محتفظا بسيفه في غمده? أم كان سيُخرج هذا السيف ليحقن الدم بسفك مزيد من الدم, كما يزعم البعض.. الآن?!

 

محمد المخزنجي