الخرائط تكتب وتتكلم

الخرائط تكتب وتتكلم
        

          الخرائط تكتب وترسم أيضا! قول غريب بحق! بل وتتكلم أيضا! وهذا شيء أغرب! وكأننا نجازف ونقول إنها كائن حي! ومن رأيي أنها هكذا تقريبًا.

          الخرائط تتغير وتتبدل بمرور الزمن فأحيانًا يضاف إليها دول لم تكن موجودة من قبل, وأحيانًا أخرى تختفي منها دول كانت موجودة من زمان, وأحيانًا أخرى تنقسم الدولة إلى دولتين أو أكثر. إذن تحركات كثيرة تجري على سطحها بعضها يخلف وراءه بحورًا من الدماء والبعض الآخر يخلف وراءه سكينة وهدوءًا. وعلى هذا يخطيء من يتكلم أو يقرر دون أن يقرأ ما عليها من كلمات أو لا يستمع إلى ما تبوح به من همسات وزفرات وآهات. الحديث في هذه الحالة يكون منقطعا عن الواقع ويصبح كالطلقات الطائشة تفرقع في الهواء دون أن تصيب هدفًا أو تترك أثرا... مجرد لغو يعني!

          وبداية هناك تشابه بين الصور والخرائط, ولكن وفي الوقت نفسه هناك خلافات حادة بينهما, كلاهما ينقل ما أمامه طبق الأصل ولكن يمكن تغيير شكل الصورة بكل سهولة ويسر بإجراء (الرتوش) عليها, إضافة شعيرات هنا وهناك على وجه ما فيصبح للرجل (شنب أو ذقن) فيتغير شكله تماما ويمكن رسم (زبيبة) على الجبهة فيصبح صاحب الصورة ناسكا, وربما يكون بعيدًا عن النسك بعدًا تامًا, كما يمكن أن نحول وجه السيدة الدميمة ليصبح في جمال وجه (هيدي لامار أو فيفيان لي أو مارلين مونرو). ولكن تغيير الخرائط لا يتم بهذه السهولة لأنه يعني تغييرًا في الأرض التي هي غالية ثمينة كالعرض, فإذا لم يتم التغيير بالاتفاق يتم عن طريق استخدام القوة بالطائرات والمدفعية والدبابات والصورايخ فيتغير الأمر الواقع الذي كان إلى أمر واقع جديد لا يمت إلى ما كان بصلة.

          لغة الخرائط لغة عالمية يجب على الجميع تعلمها وإدراكها, لأن الكلمة لغة محلية أو إقليمية ولكن الصورة أو الخريطة لغة عالمية يميزها الجميع وإن نطقوا بلغات مختلفة, فإن نكتب (رجلاً) لا يمكن لغير الناطقين بالعربية إدراكها, أما حين تظهر صورة لرجل فإنها تصبح مميزة في سائر أقطار المعمورة. ولكن الغريب في هذه اللغة العالمية ونعني لغة الخرائط أنها وإن كانت كذلك فإن قراءاتها تختلف بين قرائها أو المستمعين إليها, البعض يقرأها من اليمين إلى اليسار وهؤلاء من يعتقدون في الجذور والحقوق التاريخية, بينما يقرأها آخرون من اليسار إلى اليمين وهؤلاء من يعتقدون في الأمر الواقع الجغرافي والطبوغرافي والديموجرافي, والذين يتجاهلون الحقوق التاريخية ويؤمنون بعدم قدسية الحدود وأن القوة هي التي تصنع الحق وليس الحق هو الذي يصنع القوة, وكذلك فإن القوة هي الوسيلة الوحيدة لممارسة الدبلوماسية. كما نرى فالفارق كبير بين القراءتين يجعل من الصعب إيجاد نقطة لقاء بينهما.

توازن قوى أم مصالح

          هذا الاختلاف يسبب الصراعات الإقليمية والعالمية ولنقف هنا قليلاً لنؤكد أن هناك فارقًا كبيرًا بين الصراع والقتال, لأن القتال هو إحدى صور الصراع إذ يمكن أن يتم الصراع بأساليب أخرى كثيرة: سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية ولكل أسلوب خرائطه المعلنة أو السرية. صاحب القوة يفرض التغيير الذي يريده, أما صاحب الحق فيدق أبواب المحاكم والهيئات الدولية ومعه خرائطه في مواجهة صعاب جمة, فإن نجح وحصل على قرار فإنه في أغلب الأحيان يكون مع إيقاف التنفيذ, لأن الحق دون قوة تفرضه وتنفذه, مجرد وهم ولا يتعدى أن يكون ورقة عليها بعض أسطر وفي أحد أركانها رقم يضاف إلى أوراق أخرى لها أرقام عاجزة عن تصحيح الخرائط وإعادتها إلى أصلها. لأن التناقض هنا بين توازن القوى وتوازن المصالح. توازن القوى في جانب ما, يعني أن في استطاعته فعل ما يريد ومنع الطرف الآخر من فعل ما لا يريد, أما توازن المصالح فيندر وجوده إلا في حالة التعادل في ميزان القوى أو ميزان الرعب.

          وعلى ذلك فالسلام على المستوى العالمي هو اعتراف متبادل بصحة الخرائط المتداولة وهو سلام مفروض ومحكوم بتوازن القوى. توازن القوى النووية بالتحديد.. كل له ترسانته النووية التي تعني قوة التدمير المتبادل الأمر الذي يجعل من المستحيل على أي طرف أن يقدم على إدخال تعديلات في الخرائط إلا بالوفاق أو الاتفاق. الكل كالعقارب السامة تعيش مجبرة في أنبوب واحد إذا حاولت إحداها لدغ الأخرى فإن الملدوغ سوف يلدغ اللادغ قبل أن يموت, فهذا قاتل ومقتول وذاك قاتل ومقتول تماما كالقنبلة البشرية التي يكثر استخدامها في منطقتنا, فالإنسان القنبلة قاتل ولكنه في الوقت نفسه مقتول. هذه المعادلة الرهيبة أي أن يكون الإنسان قادرًا على القتل وفي الوقت نفسه متقبلاً لأن يقتل هو الضمان الوحيد للمحافظة على الخريطة دون تعديل أو تغيير وهذا ما يعبر عنه بالردع والردع المضاد. وبالمناسبة فالردع هو استخدام وسائل القتال لمنع القتال ولهذا (حساباته ومعادلاته) التي يمكن أن تحتاج إلى حديث خاص.

لجوف الأرض خرائط أيضا

          والنقاط المتجاورة أو الشرط الصغيرة التي تحدد الحدود السياسية بين الدول على الخرائط أصبحت غير مقدسة, كما كان الحال من قبل, فأصبح هناك ما يعرف بالحدود الآمنة التي يلعب فيها الأقوى كما يريد وهي عادة ما تكون في جانب الأضعف, وهناك المناطق العازلة والمناطق منزوعة السلاح أو محدودة السلاح حجمًا ونوعًا بل يمكن تأجير مساحات محددة على الخريطة لمدد قصيرة أو طويلة للوصول إلى الاستقرار المنشود وتغلبًا على الصراع الدائم.

          واكتسبت الاختراقات العميقة أو البسيطة الجوية والبحرية والبرية للحدود شرعية كاملة ربما بقرارات من الهيئات الدولية وربما بصمت منها أو من أفراد العائلة الدولية والصمت معناه الرضا وذلك لفرض سياسات معينة أو نظم معينة بل وعقائد معينة كالإصلاحات الداخلية أو الديمقراطية. ومعنى ذلك أن الخرائط شيء غير ثابت بل قابل للتغيير البسيط أو الكثيف, بالرضا الإجباري أو الرضا الناقص أو الضغوط التي لا يمكن مقاومتها. الشكل الأصلي للخريطة موجود كما هو ولكن الخطوط تحركت والمدن تغيرت والسيادات تبدلت وأصبحت الخرائط في هذه الحالة مزورة إذا قورنت بالأصل. ويصبح إرجاعها إلى ما كانت عليه شيئًا لا يقوى عليه إلا القادر الذي يملك الوسائل, هذه الوسائل ليست متاحة إلا من المنبع والمنبع يمنح ويمنع حسب رغباته ومصلحته.

          وما يحدث بالخريطة أو على الخريطة يتم إما باتفاقيات رديئة أو اتفاقيات جيدة, الاتفاقيات الرديئة تعبر عن توازن قوى الموقعين عليها, وهي اتفاقيات مؤقتة تنقضي بتغيير ميزان القوى (يوم لك ويوم عليك). أما الاتفاقيات الجيدة فهي تعبر عن توازن المصالح, هذا يأخذ ويعطي, وذاك يعطي ويأخذ برضاء, ولذلك فهي اتفاقيات طويلة الأمد ترضي الأجيال الحالية والأجيال الصاعدة, مثل هذه الاتفاقيات طويلة الأمد لأنها تفرض الحق. ولكن الحق لمن? لصاحب القوة والمصلحة والحق.

          أما المفاوضات التي تحدث بعد القتال فلا تنفع فيها قصائد الشعر أو المعلقات أو بلاغة البيان, فهي تنقل الأوضاع على الأرض على الخرائط. هي خرائط قوى وعلى قدر القوة يكون رسم الخريطة والقوى هنا لا تحسب فقط بما هي عليه الآن, ولكن يوضع في الاعتبار التطورات والتغييرات التي قد تحدث منها خلال الأيام القادمة.

          والشيء الغريب في عالم الخرائط أنها تأخذ في اعتبارها ليس فقط ما يحدث على سطح الأرض بل يضاف إلى ذلك ما تحت سطح الأرض أو تحت سطح الماء وهذه لها خرائطها لأن جوف الأرض مليء بالغرائب التي إذا خرجت على سطح الأرض أصبحت كنوزًا يسيل لها اللعاب وتتحرك من أجلها القوى, وكم تغيرت خرائط سطح الأرض نتيجة لما في جوفها, ليس الآن فقط, ولكن من زمان أيضًا. هناك القوى المتحركة التي تحرك الآلات, وهناك القوى القاتلة التي تزيل مدنًا بأسرها, وهناك القوى المنتجة بما فيها من ماء أساس الحياة. كلها مخزونة لخدمة صاحب القوة الذي يملك أيضا وسائل التكنولوجيا والعلم والمعرفة. خرائط ما تحت سطح الأرض وسطح المياه والأجواء العليا بها وسائل الحياة والتقدم وكذلك وسائل الخراب والتدمير, الأمر الذي يحفز اختراق الحدود أفقيًا ورأسيًا, حتى ولو تم ذلك تحت رايات زائفة من نشر الديمقراطية أو الدعوة إلى الإصلاح.

          بعد أن قلنا ما قلنا لننظر إلى الخرائط التي في أيدينا ونقرأ ما عليها ونستمع لما تقوله ونسأل أنفسنا: هل هي مطابقة لما ورثناه عن الأجداد والآباء? هل حدث بها تغييرات في العلاقات الجانبية والرأسية أو في النواحي الجغرافية والديموجرافية? ولماذا خريطة أوربا هكذا? وهل لهذا علاقة بإتقانها اللغة العالمية التي تتحدث عن القوة والوحدة والعلم والتكنولوجيا بالرغم من أن دولها تتكلم بلغات محلية متعددة ومختلفة? ولماذا خرائطنا هكذا بالرغم من أننا جميعًا نتحدث العربية? وهل لهذا علاقة بجهلنا اللغة العالمية?!!

          وأختم بقول لـ (إيجال ألون) وهو يتحدث عن الأمن الإسرائيلي (ولن يتحقق أمن إسرائيلي بالاتفاقيات أو المعاهدات أو بقوات البوليس الدولي أو قرارات مجلس الأمن. إنه لن يتحقق إلا بالأرض والخريطة. بأوضاعنا على القنوات - يقصد قناة السويس- على الأنهار - يقصد بهذا نهر الأردن - أو على الجبال والهضاب - يقصد جبل الشيخ وهضبة الجولان - وبعد أن نضع قواتنا وننشرها هناك نبدأ في الحديث مع الآخرين والحوار معهم).

          فما رأيكم دام فضلكم في حديث إيجال ألون?

          الخرائط تكتب وترسم, وعلينا قراءة ما تكتبه وترسمه ونتمعن فيه, والخرائط تتحدث همسًا أحيانًا, بل وتدق الأجراس أحيانًا أخرى, فهل نسمع همسها وأجراسها? القراءة لا تكفي والاستماع لا يكفي, فالأهم أن نفهم ونخطط وننفذ.

          والله أعلم

 

أمين هويدي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات