الدور الشعبي ونهوض الثقافة العربية

الدور الشعبي ونهوض الثقافة العربية
        

          تمر الأمة العربية بأزمة ثقافية وحضارية عميقة, شهدت تراجعات تظهر في مستويات عدة, وتشير الإحصاءات الصادرة عن المنظمات الثقافية والتعليمية العالمية إلى واقع مؤلم لأوضاع الثقافة العربية, من ناحية الإنتاج الثقافي والعلمي, والإبداع بشتى ضروبه.

          من ينظر في المقابل إلى واقع الثقافة العربية قبل أكثر من قرن مضى, وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي, فسيلاحظ بصورة جليّة أن ثمة فارقًا بين الواقع الثقافي الحالي والسابق. فقد كانت الثقافة منتشرة على المستوى الشعبي لدى العديد من المتعلمين من أبناء الشعب العربي, على الرغم من وجود شريحة أميّة كبيرة تكاد تصل إلى نصف عدد سكانه, لكن كانت الفئة المتعلمة حريصة على العلم والثقافة وتطوير نفسها بنفسها, وتصرف معظم وقتها على القراءة والاطلاع على الرغم من شتى الصعوبات التي كانت تواجهها. ويعود سبب التقدم الذي حدث في تلك الفترة إلى الدور الذي قام به العديد من الفئات أو الأفراد على المستوى الشعبي الذين أخذوا البادرة, وعملوا بجد وإخلاص لإحداث نهوض ثقافي نوعي يضع الإنسان العربي والأمة العربية على خارطة التقدم الذي عمّ ويعم أرجاء مختلفة من العالم. فقد عملت تلك الفئات بمبادراتها الذاتية بعيدًا عن أي تسلّط سياسي أو فكري, فحققت الكثير من الإنجازات الثقافية والعلمية, ونشرت الثقافة العقلية والمستنيرة على المستوى الشعبي العام سواء من خلال التعليم أو الوسائل الإعلامية المحدودة آنذاك, أو عبر النشاط من خلال الجمعيات والهيئات الشعبية التي استقطبت فئات وشرائح مختلفة من المجتمع. أما اليوم - وعلى الرغم من توافر الكثير من السبل, وتيسير الصعوبات السابقة, سواء من ناحية الطبع أو النشر أو الوسائل الإعلامية السائدة - فلا نجد إقبالاً حقيقيًا على القراءة, ولا اهتمامًا بالثقافة, والاطلاع إلا عند فئة محدودة جدًا مع ما تحقق من انتشار للتعليم وانخفاض نسبة الأمية إلى الربع تقريبًا. وهناك أسباب أدّت إلى تراجع الاهتمام والانتشار الشعبي للثقافة والتطور الفكري الذي يمثل البيئة الصالحة لتحقيق التقدم الفعلي لأي شعب من الشعوب. ويلقي هذا المقال الضوء على الأسباب التي ساهمت في النهوض الثقافي العربي, ومن ثم التراجع الذي أوصلنا إلى واقعنا الحالي, والتي يمكن حصرها بالتعليم والتغيرات السياسية, والفنون والآداب.

التعليم الشعبي

          كان غياب التعليم الرسمي - أو محدوديته سابقًا - سببًا أساسيًا في أن يكون التعليم شعبيًا. ففي مختلف أنحاء الوطن العربي قام الأفراد بإنشاء دور صغيرة للتعليم يدرسون فيها الأساسيات, التي تساعدهم في حياتهم اليومية كاللغة العربية والدين والحساب وغيرها, وقد كان لهذا الأمر دور كبير في نشر الثقافة والتعليم على المستوى الشعبي, فقد حرص الأساتذة والمعلمون على تقديم أفضل ما لديهم, ومتابعة ما يستطيعون من التطورات التي تحدث في العلوم, ومن ثم نشر ذلك بين العامّة الذين أدرك عدد كبير منهم أهمية التعليم لتطوير أنفسهم, ومن ثم واقعهم المعيشي. وقد كانت هناك نظرة احترام وتبجيل للعلم والمعلم الذي كان يحظى بمكانة وتقدير عاليين. وقد تميز هذا النمط من التعليم بشكل عام بغياب أي شكل من أشكال التسييس لأنه يقوم على أفراد ومجهوداتهم الذاتية بعيدًا عن أي سلطة سياسية أو توجيه أيديولوجي, مما جعل الكثيرين ممن تلقّوا تعليمهم الشعبي يقبلون على شتى الثقافات والأفكار عبر القراءة والاطلاع, وتعاملوا معها بطريقة عقلانية لا متشنجة, بحيث خضعت تلك الأفكار والثقافات للنقد والتمحيص, ومن ثم القبول والرفض بمنهجية عقلية لا عاطفية أو متزمتة. وعلى الرغم من بساطة هذا النمط من التعليم الذي اعتمد على الأساسيات بالدرجة الأولى, خصوصًا الذي كانت منتشرًا في المناطق الشعبية من المدن والقرى والأرياف, فإنه مهّد الطريق لتخريج كوكبة من خيرة مثقفي الأمة العربية ومفكّريها ومبدعيها الذين كان لهم شأن كبير في المساهمة الثقافية والفكرية في الوطن العربي. فقد شهدت الفترة إلى ما بعد النصف الأول بقليل من القرن العشرين ازدهارًا كبيرًا للتعليم والثقافة في الوطن العربي قاده مجموعة من الرموز الثقافية والفكرية والأدبية التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر الثقافة في شتى مستويات المجتمع. فقد تشكّلت في هذه الفترة جمعيات شعبية ذات مستوى, علميًا وثقافيًا, وانتشرت المجلات الثقافية التي بادر بإصدارها عدد من الأفراد, والتي لعبت دورًا كبيرًا في نشر الثقافة الإنسانية في أقطار عدة من الوطن العربي. كما جسّدت الصالونات الأدبية والثقافية التي كان يقيمها كبار الأدباء والمثقفين, الدور الشعبي لنشر الثقافة, وتبنّي المواهب الشابّة, سواء ضمن الإطار الثقافي أو الأدبي, كما كان لبعض المثقفين حضورهم على المستوى السياسي, وساهموا مساهمة فعّالة في دعم العلم والثقافة, ولعل أبلغ مثال على ذلك عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان وزيرًا للمعارف (التعليم) في الفترة الي سبقت ثورة يوليو, بمعنى أن منصبًا مثل هذا لم يتم اختيار مَن يتقلّده بناءً على أيديولوجية أو انتماء سياسي معين, بل جاء لشخصية تنويرية وثقافية لها وزنها الكبير على مستوى الثقافة العربية. يضاف إلى ذلك الدور الذي قام به الكثير من المثقفين بالدفع بترجمة أمهات الكتب الأجنبية من مختلف اللغات والثقافات والعلوم, ونشطت معها حركة الاطلاع والبحث العلمي والإبداع, فشكّلت بالفعل أفضل مرحلة حفلت بتطور وتنوّع ثقافي لا يمكن مقارنته بما سبقه من المراحل. والغريب في الأمر أن انتشار الثقافة على المستوى الشعبي حدث في الفترة التي كانت فيها الدول العربية تحت سلطة المستعمر, سواء المباشرة أو غير المباشرة, وكانت ذا طابع تنويري عقلاني ساهم في تعزيزها الهامش الديمقراطي الذي منحه المستعمر لبعض الدول العربية, علاوة على المساهمة في إنشاء بعض المراكز والمعاهد العلمية والبعثات الدراسية لأوربا على وجه الخصوص. لكن التحوّلات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية, واستقلال الدول العربية عن الاستعمار, ووصول قوى سياسية محلية إلى السلطة, سواء عن طريق الثورات أو الانقلابات, مهّد الطريق للقضاء تدريجيًا على الثقافة التنويرية والتعليم المستقل, حيث كان التسييس من نصيب الاثنين, فتم تسييس العلم والثقافة معًا, ودخل كلاهما نفقًا لا يرى منه بصيص أمل حتى يومنا هذا. وبالنسبة لتسييس التعليم, فقد دخلت السياسة والولاء في جميع مظاهر المجتمع, ومنها التعليم, فعملية اختيار الوزير وحتى المدرسين والإداريين في المدارس, في الكثير من الدول العربية تخضع لمعايير سياسية, وليست علمية أو أكاديمية, وتم تفريغ التعليم من أي محتوى ثقافي تنويري, فتحول إلى مجرد حشو للمعلومات. ولم تقف الأمور عند ذلك, بل حتى المناهج أصبحت توجه سياسيًا وعقائديًا لغسيل عقول النشء, وتم تقييد حرية البحث العلمي...إلخ من أمور حدت من سلطة العقل في العلم والتعليم. وقد كان لذلك آثار عميقة على الثقافة إذ تم سلخها عن التعليم الذي لم يعد ينمّي القدرات الثقافية والفكرية, بل أصبح يشلّ قدرة العقل على التفكير والاطلاع والإبداع, بحيث جاءت نتائج ذلك سلبية جدًا على مستوى الإبداع الفني والثقافي والأدبي الذي تميز به النصف الأول من القرن العشرين. فما نراه اليوم من تراجع في الإبداع على شتى المستويات الثقافية ما هو إلا حصاد لعملية تسييس التعليم وإفراغه من مضمونه الثقافي وتخريجه لأجيال لم تعتد إلا على الحفظ والتلقين.

          وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك سببًا في التطوير العلمي نفسه ساهم إلى حد ما في تراجع انتشار الثقافة, ويتعلق ذلك بتطورات العلم التجريبي وتشعّب العلوم فيه. فقد كانت المناهج القديمة التي تدرس ذات طابع أدبي وثقافي وفني, وتعلق باللغة العربية وقواعدها وآدابها, علاوة على التدريس الديني, ويكاد يكون الحساب العلم الوحيد الذي كان يدرّس. فالتعليم والمناهج البسيطة كانت تعتمد على النتاج الفني والأدبي والثقافي, وقد ساهم هذا في انتشار الثقافة بين المتعلمين. أما في العقود الأخيرة, وبعد تثبت التعليم المؤسسي, فقد دخلت هذه العلوم التجريبية والرياضية بقوة في التعليم المدرسي, واتجه قطاع كبير من الطلبة إلى الدراسات الفنية (التقنية) العلمية نتيجة للتطورات التي حدثت على مستوى الإنتاج والعمل الإداري والتقني في عدد من الدول العربية, فجاء ذلك على حساب الدراسات الأدبية الثقافية والنظرية التي سُيّست هي الأخرى, كما أشرنا آنفًا, وتم تفريغها من مضمونها الفكري والثقافي. كل ما سبق ساهم في تراجع انتشار الثقافة على المستوى الشعبي من زاوية التعليم, فأصبحت المعاهد والجامعات العليا تخرج أكداسًا من الطلبة في كل عام تعاني غالبيتهم الساحقة من الأمية الثقافية!

تسييس الثقافة

          مثلما تمت عملية تسييس التعليم, انسحب الأمر كذلك على الثقافة. فالازدهار الثقافي الذي تحقق في النصف الأول من القرن العشرين نتيجة للهامش الديمقراطي الذي منحه المستعمر تمت - إن جاز القول - تصفيته بشكل تدريجي. وأول ما ساهم في ذلك, غياب أي شكل من أشكال الديمقراطية أو الحريات, نتيجة للتسلّط الذي جاء به العسكر أو الثوريون الذين لم يلتزموا بالشعارات التي رفعوها, ومنها الحرية والمساواة. فمعظم هؤلاء لم يأتوا من خلفية ثقافية متفتحة, بل جاءت غالبيتهم من القرى والأرياف والعشائر أو القبائل, بمعنى أنهم جاءوا من بيئة لا تعرف وزنًا للثقافة والفكر, علاوة على الطابع العسكري الذي كان يتميز بالقوة واستخدام العنف والتغليظ وغيره من الأساليب, التي لا تعرف لغة الحوار, فسادت الثقافة القبلية والعشائرية والعائلية في معظم أنظمة الحكم, وأصبح الشعب العربي أمام أفراد مؤلهين, وكتب عليه السمع والطاعة وعدم الاعتراض أو إبداء الآراء المخالفة. وقد سخّر معظم القائمين على الأنظمة العربية أي شكل من أشكال الثقافة أو الفكر والوسائل التي تنقلها في خدمتهم, فتحوّلت الصحف والأجهزة الإعلامية السمعية والبصرية الرسمية أبواقًا دعائية, تبث بين العامة ثقافة الخضوع والطاعة واحتكار المعرفة للحاكم الفرد, الذي يفقه كل شيء, ونشر القيم الشعبية التقليدية الجارية بأنماطها القبلية والعشائرية, وتحارب في الوقت نفسه الثقافة العقلية التنويرية التي حملت في طياتها الحريات الفكرية والفردية. وقد تحقق النجاح في فترة وجيزة, وسيّست الثقافة إما بأساليب الترغيب أو الترهيب, وفرضت الرقابة على كل ما يعارض النظام السياسي القائم, سواء كانت سياسية أو فكرية الطابع. ولإنجاح مشروع تسييس الثقافة, تم التوجه إلى شريحة المثقفين الذين انقسموا ما بين مؤيد ومعارض لسياسات الأنظمة, فكانت وسائل الإغراء وإغداق الهدايا والمال والمناصب على الشريحة الموالية التي استخدمت مخزونها الثقافي لتلميع صورة النظام وقيادته ومحاربة مَن لا يواليه سواء من المثقفين أو العامة. أما بالنسبة للذين لم يسيروا مع الركب, فقد كان مصيرهم الاعتقالات والسجون والمضايقات والمطاردات والمنافي, وكتب عليهم الشقاء في سبيل حفاظهم على كرامتهم, وعدم الخضوع لسياسيين لا يفقهون شيئًا عن الثقافة والفكر. فانقطعت صلة هؤلاء برجل الشارع الذي أصبح لا يرى أو يسمع أو يقرأ إلا قيمًا ومفاهيم وأفكارًا لا تتعلق بثقافة حقيقية, بل ثقافة قبلية وعشائرية مغايرة لطرق التفكير المتطورة, ومخالفة لأصول المجتمع المدني وثقافته. واستكمالاً لمشروع تسييس الثقافة, خضعت في الوقت نفسه جميع الجمعيات والهيئات والاتحادات الشعبية والنقابات المهنية لهيمنة السلطة السياسية. فقد كانت هذه منابر لنشر الثقافة والفكر بين العامة, ومراكز نشطة لاستقطاب الأفراد من شتى شرائح المجتمع ذات الاهتمامات المختلفة, وتمثّل أيضًا حركة ونشاط المجتمع ومجالاً للتنافس بين الأفراد والفئات, ومجالاً للتنافس الفكري بين التيارات السياسية المختلفة. لكن مع هيمنة النظام الحزبي الواحد أو غيره من أشكال النظم السياسية غير الديمقراطية, تم تفريغ هذه الهيئات من مضمونها الشعبي, وتحوّلت إلى أبواق هي الأخرى للحكومات, وغابت عنها الانتخابات, وحل محلها التعيين أو في أحسن الأحوال انتخابات صورية تديرها الأجهزة الأمنية, فأدى ذلك إلى غياب أي دور فعلي للشعب في التعبير عن قضاياه ومصادرة حقه في الاختلاف والمشاركة الشعبية, وغاب أيضًا أي نمط من الصراعات الثقافية والفكرية, التي كانت تقوم بها هذه الهيئات سابقًا, فلا اتحادات الأدباء والكتّاب أو الناشرين أو الإعلاميين أو الصحفيين وغيرهم تتمتع بأي حرية وطرح آراء مخالفة لآراء الحكومة السياسية, فغاب عنها أي دور ثقافي حقيقي, وأخذت تروج للثقافة السياسية السائدة في المجتمع, وساهمت هي الأخرى في تصفية الإرث الثقافي الذي قاده خيرة مثقفي الوطن العربي ومبدعوه.

          ومن جانب آخر, حدث ازدهار الثقافة المستنيرة على المستوى الشعبي إبان المد القومي الذي بدأت بوادره مع نهايات القرن التاسع عشر أثناء فترة الحكم العثماني وتبلور بشكل كبير مع انهيار الدولة العثمانية. فقد ظهر العديد من الأحزاب القومية واليسارية التي شكلت جسد الحركة السياسية في الوطن العربي فانتشرت في مختلف أرجائه, وتزامنت مع هذه الحركة النهضة الثقافية العربية, إذ كان للعديد من رموزها دور ثقافي وفكري في الدفع بالفكر القومي أو اليساري والتنظير له, كما كان البعض ينتمي إلى عدد من الأحزاب السياسية أو مناصرين لها, ولعبوا دورًا في نشر فكرها بين العامة. والملاحظ أن الحركة السياسية السابقة اهتمت اهتمامًا كبيرًا بالجانب الفكري والثقافي, فعملت ضمن المؤسسات والهيئات الشعبية, وأسست الأندية وأحيانًا المعاهد الثقافية وعملت على نشر الثقافة والفكر السياسي المستنير, أي أنها لعبت دورًا شعبيًا في رفع مستوى الوعي الثقافي الشعبي, لأنه كان المساند لها في مطالبها وأطروحاتها السياسية. وكان لانتشارها كتنظيمات بين الناس الدور الأكبر في توعية وتثقيف كوادرها وأنصارها. هذا المزج ما بين العمل السياسي ونشر الوعي الثقافي في المجتمع الذي لعبته الغالبية الساحقة من الأحزاب السياسية العربية حتى النصف الأول من القرن العشرين, تم التخلي عنه تمامًا بعد استقلال الدول العربية في النصف الثاني منه, فأصبحت الأحزاب سياسية فقط, وتراجعت اهتمامات قياداتها للثقافة والفكر, وطغى النشاط السياسي على جميع أطروحاتها وممارساتها العملية, فأخذت تخوض صراع المكاسب والخسارة والتكتيكات السياسية مع الأحزاب الأخرى, وأصبحت قيادات الكثير منها تعيش في أبراج عاجية ولا علاقة لها بالقضايا الحقيقية لرجل الشارع وتراجع انتشارها في المجتمع وغاب عنها أي دور ثقافي على المستوى الشعبي الذي هو الضمان والسند الحقيقي لها من أجل تحقيق أهدافها ومطالبها السياسية.

النكسة والثقافة

          أما الضربة القاصمة التي أجهزت على ما تبقى من الثقافة المنتشرة على المستوى الشعبي, وذات الطابع العقلاني والمستنير فقد جاء بعد نكسة يونيو حين تسيّدت الحركة الأصولية الشارع العربي حتى يومنا هذا. فهذه الحركة دفعت بها أسباب سياسية محضة بدأت بالتحالف مع العديد من الأنظمة من أجل قمع الحركات القومية واليسارية لتكون بديلاً لها وإشغال الشعوب بقضايا هامشية. في مقابل ذلك, فتحت لها الأبواب على مصاريعها فهيمنت على مؤسسات التعليم, كوزارات التربية والتعليم, وعلى المؤسسات والهيئات والنقابات والوسائل الإعلامية, وأنشأت البنوك والمؤسسات الاقتصادية وهيمنت على قطاعات أخرى في المجتمع. وقد خاضت هذه القوى صراعًا ضد قوى التحديث والتنوير والمطالبة بالتعايش مع الآخرين والانفتاح على ثقافاتهم وروجت لثقافة انعزالية ذات طابع طائفي وتريد العودة بمجتمعاتها قرونًا إلى الوراء, وتغيّب العقل والتفكير العقلاني ومناهضة للتفكير العلمي سمة العصر وأداة تقدمه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركات الأصولية تمثل ما اصطلح على تسميته بالإسلام السياسي بمعنى أنها أدخلت الدين في المجال السياسي مستغلة العاطفة الدينية عند العامة لتحقق أهدافًا سياسية بحتة. وهي بهذا تختلف تمام الاختلاف عن المفكرين والمثقفين المستنيرين الذين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين, أمثال خالد محمد خالد وعباس محمود العقاد وعلي عبدالرازق وعبدالحميد بن باديس... وغيرهم, الذين أثروا المكتبة العربية بكتابات دينية عدة كانت تعرض الدين بروح متسامحة وعقلانية, وتقدم الإسلام بصورة معاصرة تتماشى مع التحولات الجارية في العالم.

          إن ما سبق ذكره حول تسييس الثقافة والقوى المختلفة التي ساهمت فيها يمثل انتكاسة حقيقية للثقافة التنويرية العقلية الناتجة من التطورات التي حدثت منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. فقد تردّت أحوال الثقافة بشكل كبير ولم تعد هناك بالأحرى أي ثقافة لها طابع فكري, بل انتشرت ثقافة السحر والشعوذة والخوارق ومخاطبة الجن والثقافة الاستهلاكية, وهذا ما ساهم في تراجع العالم العربي عن المشاركة الثقافية والفكرية والعلمية على مستوى العالم.

الدور الثقافي للفنون والآداب

          لاشك أن الفنون والآداب هي الوعاء الذي يحتوي على - أو تتجسد فيه - قيم وأفكار وثقافة الشعوب المختلفة, فهي تعبير عن روح المجتمع ومنظومة القيم السائدة فيه. وقد كان للفنون والآداب دور كبير في دعم الثقافة التي انتشرت على المستوى الشعبي وسادت أيام أوج النهوض الثقافي العربي. وبالطبع كانت هناك أسباب عدة لمساهمة الفنون والآداب في كونها منبت الثقافة وتطورها السابق على المستوى الشعبي. فلو نظرنا إلى الموسيقى فسنجد أن أبرز الفرق والموسيقيين جاءوا من الفئات الشعبية, فالفرق الفنية لم تكن تابعة للدولة أو حتى ترعاها بل كانت أغلبيتها الساحقة تقوم على المبادرات والمواهب الفنية من أفراد المجتمع الموهوبين, وكانت قلة قليلة تحظى بأشكال محدودة من الدعم الرسمي. وقد أسس رواد هذه الفرق الموسيقي الشرقية الأصلية وطورها, بدءًا من عبده الحامولي إلى سيد درويش, فنان الشعب, الذي أحدث النقلة النوعية في الموسيقى العربية. وقد أنجبت هذه الفرق عمالقة فن الموسيقى العربية أمثال أم كلثوم التي كانت منشدة في فرقة أبيها, والموسيقار محمد عبدالوهاب الذي بدأ مشواره الفني في كورس فرقة (عبدالرحمن رشدي), وغيرهما كثير من المغنين وكبار الملحنين. أما بالنسبة للأدباء فقد جسد الأدب عن حق الإبداع الحقيقي الذي برع فيه الكثيرون, ممن قدموا روائع الأدب العربي, سواء في القصة أو الشعر أو الرواية أو النثر أو النقد. فعلى مدى جيلين لعب الأدباء والشعراء دورًا كبيرًا في رفع المستوى الثقافي الشعبي, الذين جاءوا منه, وكان لمساهمتهم في الصحافة والمنتديات والاحتفالات الشعرية والأدبية دور كبير في النهوض الثقافي والتعبير عن القضايا الحقيقية للشعب العربي بعامة وأهدافه وتطلعه لمستقبل أفضل خاصة, فقد كانت القضية القومية حاضرة بشكل كبير في النتاج الأدبي, الأمر الذي أدى إلى انتشار الأعمال الأدبية من المغرب إلى الخليج العربي بما تحمله من مضامين ثقافية وفكرية تنويرية. وقد لعبت الصالونات الأدبية دورًا لا يستهان به في تجسيد الدور الشعبي للمثقف أو الأديب وأدى انتشارها إلى استقطاب عدد كبير من الكتّاب والأدباء الشبان, الذين أصبح لهم شأن كبير لاحقًا. ولا يقف الأمر على ذلك فقط, بل تعداه إلى النتاج الأدبي نفسه الذي حمل عدة سمات مهمة كان لها عميق الأثر على الثقافة والفكر العربي.

          فقد تميّز النتاج الأدبي أولاً بالواقعية والوضوح من حيث الموضوع واللغة التي تعبر عنه, وقد ساعد ذلك على انتشار كتابات الأدباء بين العامة بشكل كبير, وكوّن الكثير منهم شعبية كبرى في مختلف الأقطار العربية. وثانيًا كان يعالج جانبًا كبيرًا منه القضايا الفكرية التي طرحها عدد من الكتّاب في كتاباتهم. في هذه الفترة لعب الأدب دورًا في التعبير عن الأفكار التنويرية التي جاءت بعد التحولات الاقتصادية والسياسية وتعزيز دور المدن كمراكز ثقافية فيها. فقد سخّر العديد من الأدباء نتاجهم لمحاربة الأفكار البالية والخرافية السائدة عند الكثير من العامة, والتي لم تعد تتماشى مع روح العصر وتطوراته التي تتميز بالتفكير العلمي والعقلاني, ولعل أسطع مثال على ذلك (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي وغيره كثير من الأمثلة التي كانت تعالج هذه القضايا وتدعو إلى فكر تنويري. علاوة على ذلك كان هناك الكثير من الكتاب الذين طرحوا عددًا من القضايا الفكرية ذات الطابع الأيديولوجي أحيانًا, فمنهم من جسد الفكر الاشتراكي في كتاباته أو الدعوة إلى الحريات من منظور فكري معين كما هي الحال في كتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس على سبيل المثال. بالإضافة إلى ما سبق كان اطلاع العديد من الأدباء على التراث الأدبي والفكري والفلسفي الغربي واسعًا, إذ نجد اهتمامات فكرية وفلسفية عند الكثير من الأدباء البارزين, الذين كتب بعضهم كتبًا إما عن بعض الفلاسفة أو تاريخ الفلسفة. فنجد على سبيل المثال محمد حسين هيكل الذي يعتبره الكثيرون أول كاتب روائي بعد صدور روايته (زينب) ألف كتابًا عن جان جاك روسو, وعميد الأدب العربي طه حسين كتب عن تاريخ الفكر اليوناني, هذا غير الأدباء الذين قاموا بترجمة العديد من الكتب الفلسفية والثقافية. كما جسّد نفر آخر أبعادًا فلسفية في نتاجهم الأدبي خصوصًا أدباء المهجر ومنهم على سبيل المثال الشاعر إيليا أبو ماضي والأديب جبران خليل جبران, فقد ساهمت كتاباتهم في نشر الثقافة والوعي الفلسفي عند قطاع كبير من القرّاء العرب في تلك الفترة. لكن ما إن استقلت الدول العربية عن المستعمر حتى بدأ سيف الرقابة المصلت يحد بالتدريج من نشاط المبدعين في الوطن العربي, إلى أن وصلنا إلى رقابة صارمة, عكس بعضها جانبًا من طبيعة بعض الأنظمة الدكتاتورية, التي كانت تمنع بل وتحارب كل ما هو جاد وتنويري من أعمال ومن مبدعين, حتى بدأت هجرة العقول المبدعة إلى المنافي في شتى أنحاء المعمورة. فقد همشت الرقابة الإبداع الأدبي والفني وتقلص دور الفن الرصين وتأثيره في ثقافة رجل الشارع وفتحت المجال أمام الأعمال السطحية والهابطة فأفسدت ذوق العامة وتراجع معها المستوى الثقافي الرصين وخلقت ثقافة سطحية تليق بمستوى الأعمال الأدبية والفنية التي أصبحت تقدم في معظم أنحاء الوطن العربي, علمًا بأن محاربة الإبداع الرصين لم تعد من الرقابة التي فرضتها الأنظمة, بل أيضًا من بعض الأطراف الأصولية التي أخذت تمارس إرهابًا فكريًا على العديد من الرموز الثقافية والأدبية والفنية المبدعة. أمام هذه الأوضاع اتجه معظم الكتّاب الجادين إلى الرمزية والتي نتج عنها مغالاة في بعض الأحيان وهذا لم يساعد على انتشار الأعمال بين العامة وخلق الوعي الكافي بمضمونها. كما لعب العديد من المبدعين في الأدب والفن خصوصًا في العقود الأخيرة الأربعة من القرن العشرين دورًا في تهميش الدور الذي يلعبه الأدب والفن في نشر الثقافة الهادفة على المستوى الشعبي. فقد ظهر قطاع كبير من المبدعين الذين يسيرون في فلك الإبداع الغربي التشكيلي والمفرط في الغموض والذاتية والذي يعبر عن أعمال فنية غامضة, أو يعبر عنه بلغة لا يفهمها إلا عدد بسيط من النقاد فغابت الواقعية والوضوح لمصلحة الغموض والإبهام, فساهم ذلك في ابتعاد الأديب أو الفنان العربي عن رجل الشارع وقضاياه وطرق تفكيره, ولم يعد للإبداع الفني الأدبي أثر يذكر على العامة, لا من حيث الشكل أو من حيث المضمون الفني, مما نتج عنه تراجع الدور الموثر والفعّال الذي كان يلعبه المبدعون في تشكيل الثقافة والفكر ونشرهما بين العامة.

          إن ما سبق ذكره يقود إلى نتيجة وهي أنه عندما كان المواطن العربي مسئولاً عن نفسه وعن مجتمعه, استطاع أن يحقق إنجازات ثقافية كبيرة في ظل إمكانات محدودة وأحيانًا متواضعة, لكن منذ أن استقلت الدول العربية لعب معظم السياسيين - وعلى مختلف مشاربهم - دورًا في إجهاض المسيرة الثقافية العقلية المستنيرة المنتشرة على المستوى الشعبي آنذاك, والتي حققت نهوضًا مثّل أفضل فترات ازدهار الفكر والثقافة في الوطن العربي, والنتيجة التي وصلنا إليها حاليًا ما هي إلا دليل دامغ على أن التطور الحقيقي هو تطور ثقافي, لأن الثقافة العقلية هي مفتاح العصر وطريقة تفكيره ومن لا يفكر بطريقة عصره فسيبقى في مؤخرة الركب الذي يسير بخطوات متسارعة أكثر من ذي قبل. فإذا لم تتزامن التطورات الثقافية مع التطورات المادية فسنظل في مكاننا, بل سنسجل تراجعًا تلو آخر, لأن التقدم يحتاج إلى بيئة ثقافية معينة يترعرع فيها وهي بيئة لم نعد - مع الأسف - نملكها!

 

عبدالله الجسمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات