تجارب فنون النهضة

 تجارب فنون النهضة
        

          كيف نقرأ تجارب النهضة العربية الأدبية? هل يكون الشعر هو السيد بوصفه امتدادًا طبيعيًا للتراث, أم أن علينا أن نعيد النظر في الفنون الأخرى الوافدة علينا كالمسرح والرواية?

          لانزال - إلى اليوم - نعاني النظرة الجزئية التي تنظر إلى الأشياء في عزلة تفصل كل ظاهرة عن غيرها من الظواهر التي نتفاعل معها ونتبادل وإياها التأثر والتأثير. ولا أدل على ذلك من النظر التقليدي إلى بدايات النهضة الأدبية التي قرأنا فيها الشعر بمعزل عن غيره, ورددناه إلى تراثه دون أن نصله وصلاً وثيقًا بمتغيرات عصره من ناحية, وغيره من فنون الإبداع وأجناسه من ناحية مقابلة. ولو فعلنا ذلك ووصلنا بين الظواهر والأنواع الأدبية مؤكدين وحدتها لازداد فهمنا عمقًا وشمولاً لشعر النهضة, وازدادت نظرتنا نفاذًا إلى روايات العصر نفسه, وأدركنا إدراكًا مختلفًا علاقتها بالشعر من ناحية, وعلاقتها بالمسرح من ناحية مقابلة. ومن هذا المنظور, فإن النظرة العلائقية نظرة ضرورية في قراءة إبداعات النهضة, بل قراءة كل عصور الآداب والفنون, فالنظرة العلائقية لا تعزل الظواهر وتلمحها في وحدتها, مؤكدة ما بينها من علاقات متبادلة تحمل معاني التأثر والتأثير. وهي معان تسهم في تصحيح الأوهام المحتملة, أو التصوّرات الخاطئة التي تؤدي إليها النظرة الجزئية التي لا تلمح الظاهرة في تكاملها وشمول علاقاتها.

          وأتصوّر أن المدخل الأول لدراسة تجاوبات فنون النهضة, لابد أن يقارب فن الرواية, أو فن المسرحية بوصفهما فنّين جديدين, انبثقا نتيجة التفاعلات بين الموروث والوافد في ثقافة زمنهما. وكان بينهما من التفاعل ما أسهم في تحديد كل منهما, كما أسهم في توجيه الشعر الذي كان له - بدوره - أثره في عمليات التفاعل النصّي والثقافي التي حددت ملامح الرواية أو القصة والمسرحية والشعر على السواء. ولاشك أن البدء من هذا المنظور العلائقي يلقي ضوءًا مغايرًا على شعر عصر النهضة, ويضعه في سياق من التفاعلات التي تؤكد تجاوب فنون النهضة, وذلك من حيث خضوعها للمؤثرات نفسها, ولو بدرجات متباينة حسب حال كل فن, وتخضع كل فن لتأثير غيره فيه, وتأثيره في غيره, فضلاً عن وقوع الجميع في دائرة التأثر بالآخر التي تستحق مساءلة جديدة.

          ومن هذا المنظور, فإن وهم استعارة الشكل الروائي العربي, أو الشكل المسرحي من الغرب - في ابتداء زمن الرواية والمسرح - لا يقل ضررًا عن عملية تهميش فن الرواية أو المسرح بالقياس إلى الشعر الذي ظل -  تقليديًا - فن العربية الأول, وهي عملية ناتجة عن النظرة السائدة إلى الرواية أو المسرحية بوصفهما التابع اللاحق, الأقل قيمة, والمتأخر زمنًا ورتبة, وذلك بالقياس إلى الشعر ديوان العرب وفخرها العتيد. ونرى مجلى ذلك في كتابات تاريخ الأدب الحديث التي تسلط أغلب الضوء على فن الشعر الذي يجتذب إليه الأنظار بهيمنته على المشهد الأدبي الذي ظل يحتل فيه موضع الصدارة, والذي تعودت الأذهان على أن تراه - أي الشعر - في هذا الموضع وحده, وذلك على نحو يكشف عن غلبة تصوّرات سابقة, مغلوطة, على الإدراك التاريخي للعلاقة بين الأنواع.

فن الصفوة

          ومن الحق, تاريخيًا, أن الشعر كان فن الصفوة الذي تصدر غيره من الأنواع الأدبية - في عصر النهضة - لعلاقته بالطبقة الحاكمة من ناحية, والأحزاب المتصارعة على الحكم من ناحية مقابلة. ولكن من الحق كذلك أن فن الرواية كان - مثل فن المسرح - فنّ فئات الطبقة الوسطى, سواء في تناقضها مع الطبقة الحاكمة من ناحية, وسعيها إلى تأكيد حضور الدولة العصرية في علاقتها العادلة بالجماهير من ناحية ثانية, وفي تأكيد طابعها المدني الذي ينقض النعرات الطائفية أو العرقية التي تقترن بالتطرف والتعصب, وتؤدي إلى الكوارث التي اقترنت بحروب طائفية مدمّرة. وفي مواجهة النعرات العرقية ونزعات التطرف, كان على فنّي الرواية والمسرحية تجسيد النزعة العقلانية التي انطوى عليها الوعي المديني, خصوصًا في سعي هذا الوعي إلى استبدال التسامح بالتعصب, والمساواة بالتميز العرقي أو الطائفي, والعدل بالظلم الاجتماعي, والاجتهاد بالتقليد, وفكر الابتداع بفكر الاتّباع, وقبول الاختلاف بهيمنة الصوت الواحد لطبائع الاستبداد.

          ولم يكن فن الرواية أو فن المسرح أقل قيمة من فن الشعر من هذا المنظور, ودور كل منهما في نشر أفكار ومبادئ الاستنارة التي اقترنا بها, لم يكن أدنى من الشعر, إن لم يكن أهم بحكم الجسارة التي جعلت كلا الفنين - بواسطة تقنياتهما النوعية - قادرين على إنطاق المسكوت عنه والمقموع من الخطاب الاجتماعي السياسي الديني الثقافي. ولذلك لا يمكن أن نضع فن الرواية أو فن المسرح في مرتبة ثانوية, أو هامشية بالقياس إلى الشعر الذي احتل المركز في عقول الذين تربّوا على مركزية النوع الأدبي الواحد, أو مركزية القطب الأوحد الذي يدور حوله المجتمع سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا وإبداعيًا. فيما أطلق عليه هشام شرابي اسم (المجتمع البطريركي).

          وإذا كان نقض المركزية وأصلها البطريركي يتيح لنا أن نرى الرواية في وضع مساوٍ للشعر من حيث القيمة الوظيفية. وهو الأمر الذي ينطبق على فن المسرح, فإن هذا النقض يجعلنا ندرك التزامن في الحركة, والتوازي في تحقيق الأهداف, والتضافر في دوافع الانتقال بالمجتمع من وهاد الضرورة إلى آفاق التقدم الذي صار قرين حركة السهم المنطلق بالنهضة العربية الحديثة. ويعني ذلك أن ابتداء زمن الرواية كابتداء زمن المسرح - في صعود كلا الزمانين - لم يكن متأخرًا, أو تابعًا, لزمن الشعر في صعوده, وإنما كانت جميع الفنون أو الأنواع تتحرك في اللحظة التاريخية نفسها, وبدوافع متقاربة, وفي اتجاهات متوازية, لكن بأساليب متباينة.

          وما ينطبق على العلاقة بين الرواية والشعر, في معنى التجاوب الزمني والقيمي, ينطبق على العلاقة بين الرواية والمسرح, وبين الشعر والمسرح في الوقت نفسه. والمؤكد - والأمر كذلك - أن الرواية العربية كالمسرح - في ابتداء زمنهما - ظلت نوعًا أدبيا تضافر مع غيره من الأنواع الأدبية الموروثة والوافدة لتأكيد قيم النهضة: العقلانية والحرية والمساواة وغيرها من قيم التقدم في الدولة المدنية المقترنة بوعود التحديث المادي, وغوايات الحداثة الفكرية. ولذلك لم تكن الرواية العربية - في ابتداء زمنها - لاحقة, أو متأخرة زمنًا, أو رتبة, بالقياس إلى غيرها من الأنواع الأدبية, وعلى رأسها الشعر, بل كانت موازية له في صحوته وتطلعه إلى أفق جديد, منطلقة معه صوب توجهات النهضة وأهدافها, ماضية في مساراتها النوعية التي سعت جاهدة, وبتقنياتها الخاصة, إلى تحقيق قيم فكرية واجتماعية وجمالية لها مغزاها وأهميتها إلى اليوم.

فن الضرورة

          ولنتذكر أن الرواية العربية - كالمسرح - تولّدت - في ابتداء زمنها - احتجاجًا على شروط الضرورة التي وجد أبناء وبنات الطبقة الوسطى أنها تحيط بهم, وأنها ستظل تحول بينهم وبين مطامح التقدم التي شغلوا بها, وعملوا على تحقيقها. ولذلك كان تنوّع أشكال الابتداء وتباينها الوجه الإبداعي من تنوّع أصوات الاحتجاج على شروط الضرورة, والمعادلات الإبداعية لأنواع المقاومة التي فرضتها أنواع التمييز الاجتماعي والجنسي وطرائق الاستبداد السياسي, فضلاً عن الجمود الاعتقادي الذي اقترن بالتعصّب والتطرّف. ولذلك لم أبالغ حين قلت - في كتابي (زمن الرواية) سنة 1999 - إن الرواية العربية ابتدأت بوصفها مرآة المجتمع المدني الصاعد, وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائضه التي اقترنت بتخلف التعصب والتطرف والتسلّط والاستبداد, وأنها لم تعرف - منذ مخاضها العسير - المهادنة في تحرير نوعها من هيمنة النوع الأدبي الواحد, أو الاتجاه الأدبي الوحيد. ولم تتوقف عن تحرير نفسها أو تحرير مبدعيها وقرّائها من سطوة كل سلطة, فكرية أو فنية, تمارس القمع باسم الدين أو السياسة أو الأخلاق أو التقاليد الأدبية. ولم تكف, قط, عن مناوشة المردة بحيل السرد, أو ترويض الجبابرة العماليق, كي تدخلهم إلى قمقم الحكايات, أو مواجهة القمع بما يحول بينه وبين القضاء على وعود المستقبل.

          ولذلك ظلت الرواية العربية كالمسرح العربي - منذ ابتداء زمنهما - دعوة إلى التغيير وتمثيلاً له, بحثًا عن أسرار التقدم وتأكيدًا لها. وفي الوقت نفسه, كشفًا عن عناصر التخلف القمعية, ومواجهة لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة. هكذا, كان تمرد العقل على جمود النقل, واحتجاج المظلوم على وجود الظالم, وصوت الأقلية المضطهدة من الأغلبية المستبدة, وصيحة المرأة في وجه الرجل الذي ظل أسير وعيه الذكوري. وكانت الرواية كالمسرح - إلى جانب ذلك كله - دعوة إنسانية, تسعى إلى تحطيم جدران التقوقع, كي تنفتح الأنا القومية على العالم حولها, مجسّدة ما أكّده رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وعلي مبارك وفرانسيس المرّاش ومحمد المويلحي وفرح أنطون, فضلاً عن مارون النقاش وعبدالله النديم ويعقوب صنوع ونجيب حداد وغيرهم, من ضرورة الانفتاح على العالم المتقدم والإفادة منه, وكان ذلك في موازاة تعرية أشكال التخلف, والكشف عن أسبابها وعللها, في خطوات إبداعية سبقت بسنوات وسنوات ما كتبه أمثال محمد عمر تحت عنوان (حاضر المصريين أو سر تأخرهم) سنة 1902.

فن التغيير

          ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن تحارب الرواية والمسرحية أشكال التمييز ضدهما من حيث إن كليهما نوع أدبي, وأن يحارب كلاهما - في الوقت نفسه - كل أشكال التمييز غير العادل ضد فئات المجتمع بوجه عام, وشرائح الطبقة الوسطى التي أنتجتها بوجه خاص, فخاضا فيما لم يخضه الشعر, وما لم يكن مؤهلاً له بحكم طبيعته النوعية. وناقشا في جسارة قضايا ومشكلات حيوية لاتزال تؤرّقنا إلى اليوم, ولم نحسم فيها خيارنا بعد. ولم تهرب الرواية من مواجهة هذه المشكلات, بل كانت أكثر جسارة في معالجتها من فن المسرح الذي أنتجته الشرائح الاجتماعية نفسها. ويبدو أن الطبيعة السردية للرواية, خصوصًا من حيث قابليتها للتحوّل إلى بناء تمثيلي رمزي بالمعنى السياسي أو الديني أو الاجتماعي, فضلاً عن كونها كتابة فرد يحتجّ على عصره, ويتوجه إلى فرد مثله على مستوى القراءة, أقول - يبدو أن هذه الطبيعة هي التي جعلت الرواية أكثر جسارة في معالجتها المباشرة وغير المباشرة التي تمتد من قضايا الميتافيزيقا إلى قضايا المجتمع, واصلة السياسي بالاجتماعي, مستغلة المتاح من حيل الكتابة السردية وأساليبها التشويقية, جامعة ما بين إيجابيات الموروث الرسمي والشعبي وإيجابيات الوافد الرصين والهزلي, وذلك كي تفتح الأبواب المغلقة, وتزحزح الجنادل الراسخة للتقاليد التي بدت بالية في أعين هذا الفن الواعد: الرواية.

          ولا يقلل ما أقول من شأن الشعر أو المسرح بالقياس إلى فن الرواية, بل يؤكد تضافر الرواية مع غيرها من الأنواع في تحقيق أحلام التقدم, وذلك بحسب إمكانات كل نوع وطبيعته التي تتيح له ما لا يتاح لغيره. ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يدعو البارودي (1839-1904) الشاعر إلى قيم عقلانية, لم تكن تختلف كثيرًا عن قيم (مملكة التعقل) التي صاغها سرديًا فرانسيس فتح الله المرّاش (1835-1874) في روايته (غابة الحق) (1865) التي يعدها كثيرون - وأنا منهم - العلامة المضيئة الأولى على ابتداء زمن الرواية العربية. وكانت هذه القيم - عند شاعر النهضة - كما كانت - عند الروائي - مقرونة بهاجس التقدم الذي أخذ يشغل الجميع, وذلك في حركة متفاعلة العناصر, متجاوبة الأبعاد, لم ينفصل عنها الكاتب المسرحي العربي الذي أخذ يستهل زمنه المسرحي في الوقت نفسه.

          ولذلك لم يكن من الغريب - في هذا السياق - تبادل الأدوار في العلاقة بالأنواع الأدبية, وأن يسهم شعراء النهضة, أمثال البارودي وعائشة التيمورية (1840-1902) وأحمد شوقي (1868-1932) وحافظ إبراهيم  (1872-1932) في الكتابة السردية المرتبطة بالرواية, خصوصًا بعد أن ظهرت وعود الشكل الروائي, وانطوى استهلال زمنه على غوايته الخاصة التي لم تتناقض وإسهام الروائيين من أمثال فرانسيس فتح الله المرّاش في الكتابة الشعرية. وينطبق الأمر نفسه على مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924) الذي آثر القالب القصصي في كتابته النثرية, ولم يتردد في تحويل بعض الأعمال المسرحية إلى روايات, كما حدث مع رواية (الشاعر) التي كانت في الأصل مسرحية فرنسية ترجمها له صديقه د. محمد عبدالسلام الجندي كي يهذّب عباراتها, ويقدمها إلى فرقة تمثيلية, فأعجب النص المنفلوطي, وأعاد صياغته في قالب روائي كان له صداه, وقد حدث الأمر نفسه مع مسرحية فرانسوا كوبيه (في سبيل التاج) التي نقل المنفلوطي موضوعها في قالب روائي بعد أن أضاف إليها وحذف منها. وكان ما فعله المنفلوطي في هاتين المسرحيتين غير بعيد - في جوهره - عن معالجته التعريبية لرواية ألفونس كار (1808-1890) (تحت الزيزفون) التي كتبها سنة 1832 وتولى المنفلوطي تعريبها تحت عنوان (ماجدولين) التي تركت أثرًا في شباب عصره بنزعتها الرومانتيكية.

صعود المدن العربية

          وإذا كنا نقول إن ابتداء زمن الرواية يرجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر, لاعتبارات موضوعية سبق ذكر أهمها, فإن هذا الابتداء يوازي بدايات فن المسرح, من حيث كونهما تعبيرًا عن صعود المدينة العربية التي أخذت تعرف معنى الحوارية, وتتسع لنوع أو أنواع من المجادلة بين الفئات المختلفة في الأفق الواسع للنهضة, ويمكن أن نعثر على الجذور الشعبية لهذه الحوارية وتلك المجادلة في أشكال الأداء التي كانت تملأ المقاهي الكبيرة للعواصم العربية التي سبقت إلى التقدم, حيث كان رواة السير الشعبية يتحولون من الإنشاد إلى شكل من أشكال الأداء الدرامي الذي لم يكن يجذب جماهير المقهى فحسب, بل كان يدفعهم إلى الحوار والجدل حول مصائر الأبطال الأساسيين في السير والمغازي, وذلك في نوع من رغبة المشاركة في مسرحة القص. وقد تحدث المهتمون بالقرن التاسع عشر عن الأدوار الأساسية التي كانت تؤديها هذه المقاهي في عالم المدينة الكبيرة, بوصفها إحدى علامات المدينة, وعنصرًا أساسيًا من عناصرها التكوينية, سبق الأدوار التي قامت بها الصحافة, ثم وازاها هي والمجالس الأدبية التي خلقت تقاليد لاستقبال السرد الشفاهي والسرد الكتابي على السواء.

          ولا يمكن تبسيط هذا الأفق أو اختزاله في صفة الإحياء التي شاع إطلاقها على الحركة الشعرية في ذلك العصر, والتي انتقلت من الشعر إلى غيره, فالواقع أن اختصار عصر النهضة في عملية العودة إلى التراث العربي وحده, واختزال كل أنواع الأدب في الشعر دون غيره, هو اكتفاء بنصف الحقيقة, ونزوع تعميمي لا يقل في إطلاقه عن رد حركة النهضة ودوافعها إلى الاتصال بالغرب أو الصدام معه. والوضع الحقيقي للنهضة يؤكد ثلاثية المكونات الدافعية التي تبدأ من حركة الواقع المتغير في سعيه إلى النهضة, واصلة الموروث الشعبي والرسمي بالوافد الأجنبي بكل أنواعه. ولذلك, فإن تسمية مثل (الإحياء) أو (البعث) تقصر عن توصيف الملامح النوعية الخاصة للنهضة التي توثب زمنها إلى التقدم, منطويًا على روح واءمت بين تراثها وخصوصية واقعها وثمار تقدم العالم من حولها. وهي مواءمة كانت - ولا تزال - أكبر من أن تستوعبها صفة (الإحياء) أو (البعث) التي تختزل المشهد المتوتر متعدد العناصر في بعد واحد لا يؤدي معاني الشمول أو التكامل أو التفاعل في المشهد النهضوي.

          وبالقياس نفسه, فإن روح النهضة المتوثبة إلى غاية التقدم كانت لها تجلياتها المتوازية والمتجاوبة في الأنواع الأدبية: الشعر والمسرح والرواية. وليس مصادفة أن نشاط يعقوب صنوع (1839 - 1912) في المسرح كان موازيا لنشاط محمود سامي البارودي في الشعر (1840 - 1904) ونشاط أبو خليل القباني المسرحي (1833 - 1902) في الوقت نفسه. وكان ازدهار شعر أحمد شوقي (1868-1932) الذي أصدر (الشوقيات) سنة 1898 وحافظ إبراهيم (1872 - 1932) لاحقًا على الدور الذي قام به مارون النقاش (1817 - 1855) في المسرح, خصوصًا حين نضع في اعتبارنا أن تقديم تعريب مسرحية (البخيل) كان سنة 1847, أي قبل حوالي خمسين عامًا من إصدار أحمد شوقي ديوانه الأول, كما أن تعريب نجيب حداد (1867 - 1899) لمسرحية (روميو وجولييت) تحت عنوان (شهداء الغرام) التي عرضت سنة 1890 كان سابقًا على إصدار أحمد شوقي (الشوقيات) بثماني سنوات. والأمر نفسه ينطبق على ترجمات محمد عثمان جلال (1829 - 1898) الذي ترجم ما ترجم من المسرح ((الروايات المفيدة في علم التراجيدة) 1878). ومن الرواية ((الأماني والمنى والمنة في حديث قبول وورد جنة) 1872) بعد سنوات قليلة من إصدار فرانسيس فتح الله المرّاش روايته (غابة الحق) سنة 1865.

أعمال موازية

          وفي الوقت نفسه فإن نشر رفاعة الطهطاوي (1801 - 1884) لترجمته (مواقع الأفلاك) سنة 1867 ونشر بطرس البستاني (1819 - 1883) تعريبه (التحفة البستانية في الأسفار الكروزية) سنة 1861 كان عملاً موازيًا للجهود الأولى للبارودي في تجديد الشعر, تمامًا كما أن نشاط فرح أنطون (1874 - 1922) الروائي كان معاصرًا للنشاط الشعري لكل من الرصافي (1877 - 1945) في العراق, وأحمد محرم (1877 - 1945) في مصر. وقل الأمر نفسه على إسماعيل صبري (1855 - 1923) الشاعر الذي كان معاصرًا لأديب إسحاق (1856 - 1885) المسرحي, وذلك بالقدر الذي كان نشاط جرجي زيدان (1861 - 1914) الروائي معاصرًا للنشاط الشعري لجميل صدقي الزهاوي (1863 - 1936). وقد فرغ علي مبارك (1823 - 1893) من كتابة رواية (علم الدين) سنة 1879, بعد سنة واحدة من نشر محمد عثمان جلال لتعريب (الروايات المفيدة في علم التراجيدة), وأعطاها لصديقه عبدالله فكري كي ينقّحها ويصلح أسلوبها قبل نشرها 1882, أي قبل ثلاث سنوات من إصدار عائشة التيمورية (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال) سنة 1885, وسبع سنوات من إصدار جرجي زيدان (السابع عشر من رمضان) سنة 1889, وتسع سنوات من إصدار أليس البستاني روايتها (صائبة) سنة 1891.

          بالطبع, ظلت الرواية - كالمسرحية - هامشية بالقياس إلى الشعر من منظور الثقافة التقليدية السائدة. وكان طبيعيًا أن ينالها - كالمسرح - من الهجوم الحاد والعنيف الكثير, سواء من المنظور الأخلاقي أو الاجتماعي أو الديني, الأمر الذي لم يحدث مع الشعر. ولكن الحدّة المتصاعدة من الهجوم - وقد سبق أن كتبت عنها في دراسات سابقة - لها دلالة غير مباشرة في الإشارة إلى الحضور المتصاعد والتأثير المتزايد لهذا الفن الجديد الذي أخذ على عاتقه تحرير نوعه من هيمنة النوع الأدبي الواحد, وذلك في سعيه إلى تحرير الوعي المديني من نقائضه, وتحرير المدينة العربية من كل ما يحول بينها وبين أحلام التقدم.

التطلع لأفق مغاير

          ولم تكن نهضة الشعر - من هذا المنظور المغاير - مجرد بعث لعصوره الزاهرة, أو إحياء لشعرائه القدامى, وإنما كانت تطلعًا إلى أفق جديد مغاير, أفق يبدأ من حيث انتهى القدماء, بعد محاولة استعادتهم بأكثر من معنى, وذلك لكي ينطلق شاعر النهضة إلى آفاق جديدة على سبيل تأكيد فضل اللاحق في علاقته بالسابق, وفي مدى المعرفة التي تظل - دائمًا - في حالة كشف, بالمعنى الذي أشار إليه البارودي بقوله:

فثم علوم لم تفتق كمامها وثم رموز وحيها غامض السر


          وهو معنى لا يخلو من تأكيد حضور اللاحق على مستوى الإضافة, خصوصًا بما يجاوز دلالة (الإحياء) أو (البعث) التي لا تستوعب صفات النهضة, وتختزلها في مدلول ضيق ينفي عنها خصائص المغايرة والمباينة في العلاقة بالأصل من ناحية, والتوجه وجهات مخالفة لهذا الأصل من ناحية مقابلة, ولولا ذلك ما قال البارودي:

كم غادر الشعراء من متردم ولرب تال بذ شأو مقدم
في كل عصر عبقري لا يني يفري الفريّ بكل قول محكم


          وعلينا ألا ننسى - من هذا المنظور - أن صفتي (الإحياء) و(البعث) تعنيان - فيما تعنيان - نوعًا من العود على بدء بالمعنى الذي ينفي أصالة الجدة الحقة, أو الإضافة المغايرة. أعني الجدة والإضافة التي دفعت البارودي (1839 - 1904) إلى الانفتاح على الثقافات الشرقية, وأحمد شوقي (1868 - 1932) على الثقافة الغربية, وبخاصة الفرنسية, فتأثر بالشعراء الفرنسيين الذين اجتذبته تجاربهم من أمثال لافونتين (1621 - 1695) ولامارتين (1790 - 1869) وفيكتور هوجو (1802 - 1885), فحاول أن يكتب أليجوريات على طريقة الأول, ويصف على طريقة الثالث, ويقتحم عوالم التاريخ كما فعل الثاني في ديوانه (حديث القرون) الذي ترك أصداءه على مطولة شوقي (كبار الحوادث في وادي النيل) التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في مدينة جنيف سنة 1894, وكان مندوبًا لمصر في هذا المؤتمر. ولولا هذا التأثر ما اقترب أحمد شوقي من المسرحية التاريخية التي كتبها للمرة الأولى في باريس, سنة 1892, مستخدمًا شخصية علي بك الكبير موضوعًا للمسرحية التي أعاد كتابتها في سنواته الأخيرة, وعندما نضيف إلى شوقي حافظ إبراهيم (1872 - 1932) الذي ترجم أجزاء من رواية فيكتور هوجو الشهيرة (البؤساء) سنة 1903, وحاول أن يدخل عالم القص, كما دخل شوقي عالم التمثيل, أقول عندما نضيف إلى شوقي محاولات حافظ إبراهيم للتجديد, بوصفه مثالاً على غيره, نجد عسيرًا على التقبّل وصف ما فعله هؤلاء الشعراء وأمثالهم بأنه (إحياء) أو (بعث) فحسب, حتى لو فهمنا الإحياء أو البعث بالمعنى الذي يضيف فيه اللاحق على السابق, إذ تظل هذه الإضافة في إطار السابق المحدد سلفًا, وفي حدود النوع الأدبي, الذي يتحقق فيه وبه البعث أو الإحياء, والأمر مع جديد أمثال شوقي وحافظ والرصافي أكبر من أن يكون مجرد عود على بدء أو منافسة لفحول القدماء, فكل ذلك موجود حقًا, لكن يوجد إلى جواره أفق مغاير, وأنواع أدبية مغوية بوعودها التي جعلت من الشاعر قاصًا وكاتبًا مسرحيًا, وداعية تغريب في بعض الحالات, خصوصًا في تلك الحالة التي أشار إليها حافظ إبراهيم بقوله:

آن يا شعر أن نفك قيودًا قيدتنا بها دعاة المحال
فارفعوا هذه الكمائم عنا ودعونا نشم ريح الشمال


 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات