بوادر تراجع الحركة النسوية

بوادر تراجع الحركة النسوية
        

          في أوائل عام 2003 عقد مؤتمر دولي في جامعة سوانسي (ويلز) عن (الرواية التاريخية الخيالية: النساء والتاريخ والتأليف) حضره عدد كبير من المتخصصين في مختلف فروع الإنسانيات من أربع وعشرين دولة للتحاور حول تاريخ المرأة في الثقافات المختلفة والإبداع الأدبي النسائي المتنوع منذ القرون الوسطى وحتى بداية القرن الحالي. وكان الهدف الأخير من المؤتمر هو رصد حركات التقدم التي تتزعمها المرأة في المجتمعات التي شهدت نهضة نسائية واضحة, وما حققته تلك الحركات على أرض الواقع. وقد أصدر (مركز بحوث الجنس والنوع في الثقافة والمجتمع) عددًا خاصًا من مجلته (دراسات النوع) عن (مستقبل الحركة النسوية - الفيمينزم), عنيت بعض مقالاته بإبراز تأثير هذه الحركة التي تجاوزت نطاق الكتابة الأدبية إلى مجالات التحليل النفسي والدراسات الثقافية والإعلامية والعلوم الاجتماعية والتاريخ وغيرها. كما ضم العدد مقالات وأبحاثًا عن الأبعاد السياسية للفيمينزم والتغيرات التي طرأت على الحركة وأهدافها وعلاقتها بمشكلات الجنس والعرق والطبقة وغير ذلك...ويعتبر المؤتمر وما تلاه من كتابات مجرد مثال واحد على مدى ما تحظى به الحركة النسوية من اهتمام في بعض الأوساط الأكاديمية التي تحرص على متابعة الدور الذي تحاول تلك الحركة (أو الحركات) أن تقوم به في إعادة تشكيل وصياغة الحياة الاجتماعية المعاصرة وفقًا للمبادئ والأفكار التي تعتنقها وتعمل على نشرها.

          وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن الحركة النسوية - الفيمينزم - في أمريكا بالذات, فلاتزال الأبعاد الحقيقية المميزة لها محل جدل ونقاش واختلاف في الرأي, بحيث يرى البعض أن الكلمة - أو المفهوم يشير إلى حركة سياسية محددة سادت في الولايات المتحدة وأوربا إبان الستينيات والسبعينيات لتحقيق مزيد من حقوق المرأة, وبخاصة في مجال العمل, ثم بدأت تنحسر وتفقد جاذبيتها وفاعليتها, وتتخلى هي ذاتها عن أهدافها الأساسية إلى المطالبة بأمور يعتبرها الكثيرون ثانوية, وتمثل تراجعًا ملحوظا في موقف المرأة من المثل العليا التي كانت تنادي بها. بينما يرى البعض الآخر أن المفهوم أوسع من هذا بكثير لأنه يشمل كل الأوضاع المتردية وحالات التمييز والاضطهاد التي تواجه المرأة في مختلف الثقافات, وأن الحركة تهدف إلى إبراز مطالب المرأة في هذه الثقافات وليس في الثقافة الغربية وحدها, ورفع الظلم الذي يفرضه المجتمع الأبوي والثقافة الذكورية على المرأة, وإن لم تتفق الآراء على تحديد نوع أو طبيعة هذا الظلم أو الأساليب التي تكفل القضاء عليه...وهكذا.

          وعلى أي حال, فإن للمفهوم - وليس لكلمة فيمينزم - تاريخًا طويلاً يرتبط بالنشاط النسائي منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقد يكون من الأفضل في رأي بعض المفكرين الفصل بين المبادئ والأفكار, والتوجهات النظرية والأخلاقية, وبين الحركات السياسية التي ارتبطت بها بعض الأنشطة والجماعات النسائية, وبخاصة منذ الستينيات الماضية, لأنه حتى في الأوقات التي لم تكن توجد فيها حركات نسائية سياسية فاعلة كانت هناك دعاوى ونظريات تنادي بضرورة إعطاء المرأة حقوقها الاجتماعية والسياسية كاملة, ودون تردد, ورفع أساليب التمييز والاضطهاد والتهميش التي نخضع لها.

          وثمة شبه اتفاق على أن الحركة النسوية (الفيمينزم) باتجاهاتها المختلفة والمتباينة مرت بثلاث مراحل متتالية - أو حسب التعبير السائد بثلاث (موجات) متكاملة, وتتمثل الموجة الأولى (النموذج) في الصراع الذي نشب منذ منتصف القرن التاسع عشر للمطالبة بالحقوق السياسية للمرأة إلى أن تحقق لها ذلك - أو بعضه - في الربع الأول من القرن العشرين. وقد تراجعت هذه الحركة أو الموجة بين الحربين العالميتين, الأولى والثانية, لكي تحيا من جديد في أواخر الستينيات والسبعينيات, فيما يؤلف الموجة الثانية التي تمثل أوج ازدهار الحركة النسوية بكل فروعها وتوجهاتها المتنوعة والمتضاربة. وفي هذه الفترة, تطورت وتقدمت وتعددت المطالب (النسوية) بتوفير مساحة أوسع من المساواة بين الجنسين إلى حد إزالة كل الفوارق المصطنعة في مختلف مجالات الحياة وبخاصة التعليم, وفرص العمل وتوزيع المسئوليات بين الجنسين داخل نطاق الأسرة, بل ظهرت الدعوة إلى إقرار حق المرأة في التحرر في العلاقات الجنسية. وقد أدى ذلك إلى قيام الحركات والاتجاهات والمواقف المضادة التي تناوئ تلك المطالب وترى فيها ليس فقط خروجًا على التقاليد والأوضاع والقيم المتوارثة, بل تجد فيها أيضًا تهديدًا لكيان المجتمع نفسه, خاصة وأن تلك المطالب كانت تمثل حتى ذلك الحين وجهة نظر المرأة (البيضاء) المنتمية إلى الطبقة الوسطى فحسب, وتغفل حقوق وتطلعات النساء الأمريكيات اللاتي ينتمين إلى الأعراق الأخرى الملونة والسوداء. وهو ما يعتبر تحيّزًا واضحًا لقطاع محدد من (النوع) الأنثوي. وتمثل هذه المواقف المضادة والمناوئة الموجة الثالثة من تاريخ الحركة النسوية, وهي الموجة التي تتزايد قوتها في الوقت الراهن, والتي تعتبر في رأي الكثيرين بمنزلة تهديد مباشر للحركة بوجه عام. وقد يكون المخرج من هذا الوضع الصعب الشائك أن تعتبر الحركة النسوية منظومة من الأفكار والمبادئ والمثل العليا التي تستحق الدراسة والتحليل والفهم والنقد مع توسيع النظرة, بحيث تتمثل كل الحركات (النسائية) على مستوى العالم, ولا تقتصر على حركات التحرر النسوي في الغرب.

          والمهم هنا هو أن الحركة النسوية - الفيمينزم - تتعرض, وبخاصة في أمريكا, لكثير من النقد والهجوم وحركات الرفض التي تحد في المستقبل من اندفاعها نحو تحقيق كل أهدافها - أو على الأقل التي يرى المعارضون أنها تميل إلى المبالغة والتطرف والخروج على كل الأوضاع والقيم السائدة في المجتمع. ولم تسلم من هذا الهجوم بعض الجهود العلمية والأكاديمية ذاتها التي تساند دعاوى الحركات النسوية بشكل من الأشكال. ففي مقال بعنوان (مستقبل الدراسات النسائية والأخطار التي تهدد النسوية الأكاديمية) نشرتها مجلة Surfaces الأمريكية عام 1997, تقول المؤلفة سوزان ستانفورد - وهي أستاذة بجامعة ويسكونسن ماديسون لتدريس مادة (دراسات نسائية) إن الدراسات النسائية تواجه بكثير من التحديات من جانب أعداء الحركة النسوية, وأن كثيرًا من النقد والرفض يأتي من بعض الكاتبات الأمريكيات البارزات من أمثال كريستينا هوف هومرز التي ترفض نزعة المبالغة والتطرف التي تميل إليها بعض تلك الحركات, وأن الدراسات النسائية ذاتها التي تقدمها بعض الجامعات دراسات عديمة الجدوى لافتقارها إلى الطابع الأكاديمي الجاد. وبالمثل تذهب الكاتبة الشاعرة الأمريكية إيف ميريام إلى القول بأن كثيرًا جدًا من الكتابات التي تنادي بتحرير المرأة هي أعمال دعائية سطحية وخاوية, وتقوم على استثارة العواطف, وأن القليل جدًا منها هو الذي يعتمد على البحث والدراسة والفهم. وتلقى هذه الاعتراضات كثيرًا من الترحيب من السياسيين المحافظين, ومن اليمنيين ورجال الدين وبعض الأوساط المالية في الولايات المتحدة, كما تميل وسائل الإعلام بوجه عام إلى المبالغة والتهويل في نشر تلك الاعتراضات وذلك الهجوم والنقد مما يسيء إساءة بالغة إلى الحركة ويلقي عليها كثيرًا من ظلال الشك, بل والسخرية من أهدافها وأساليبها في التعبير عن هذه الأهداف.

          ويستند المعارضون للحركة النسوية إلى بعض الدعاوى والشعارات التي ترفعها هذه الحركة, ويعملون على إبرازها وصياغتها في شكل اتهامات صريحة يستغلونها لتجنيد كل القوى والآراء الممكنة للوقوف في وجه الزحف (النسوي) الذي يهدد - في رأيهم - بناء المجتمع بكل نظمه وأنساقه الاجتماعية. وتتراوح هذه الاتهامات بين الزعم بأن  الحركة النسوية تعطي أولوية مطلقة لاستقلال المرأة اقتصاديًا عن الرجل, وإتاحة الفرصة كاملة لها للعمل خارج البيت حتى وإن كان ذلك على حساب الزوج والأطفال, مما يؤدي إلى التفكك الأسري وانحراف الأطفال, إلى رفع شعار إمكان الاستغناء تمامًا عن الزواج باعتباره نظامًا يفرض كثيرًا من القيود على حرية المرأة وانطلاقها, وأن عدم الزواج لن يترتب عليه بالضرورة حرمان المرأة من ممارسة حقوقها الجنسية أو إنجاب الأطفال إذا أرادت ذلك, وأن الرجل هو - على هذا الأساس - شيء ثانوي أو أحد الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها أو إسقاطها من الاعتبار كلية دون أن يؤدي ذلك إلى توقف الحياة وعدم عمران الأرض. بل إن بعض المعارضين يرون أن ثمة تشابهًا كبيرًا بين دعاوى الحركة النسوية ودعاوى الفوضوية لأن الحركتين تتفقان في التمرد على (السلطة) أيًا كان نوعها. وبعض الكتابات في أمريكا يستخدم بالفعل تعبير (النسوية الفوضوية) الذي يشيع حتى في أعمال بعض الكاتبات من النساء (النسويات) من أمثال بيجي كونيجرز عن (الفوضوية وعلاقتها بالنسوية) حيث تذهب إلى أن الدولة ليست في آخر الأمر إلا تنظيمًا ذكوريًا بطريركيًا متسلطًا يجب التخلص منه مثلما يجب التخلص من الشعور بالاغتراب. وهذا معناه أن الحركة النسوية لا تهدف - في بعض أبعادها على الأقل - إلى السيطرة وامتلاك القوة والنفوذ بقدر ما تهدف إلى القضاء على قوة ونفوذ (النوع) الآخر, كما تدعو إلى إعادة صياغة وتشكيل المجتمع الحالي ولإقامة نمط اجتماعي جديد لا يحقق فقط مطالب المرأة وإنما يقوم على نبذ الثقافة الذكورية التي ظلت تسيطر على الوجود الإنساني خلال كل مراحل التاريخ وبحيث يمكن تفسير الأشياء فيه من وجهة نظر أنثوية, وهو الأمر الذي يثير المخاوف والشكوك لدى الكثيرين ويدعو إلى محاربة الحركة في غير هوادة.

          تصل حالة الرفض إلى ذروتها إزاء بعض الجمعيات النسوية المتطرفة التي تعتنق مبدأ الالتجاء إلى العنف بكل صوره وأشكاله كوسيلة لتحقيق مطالبها عنوة من المجتمع إن اقتضى الأمر ذلك. ويكفي أن نشير هنا إلى إحدى هذه الجمعيات المتطرفة التي نشأت في الستينيات - وهي الفترة التي شاهدت ازدهار الحركة النسوية ولقيت فيها كثيرًا من التجاوب والتعاطف, وقد أطلقت هذه الجمعية على نفسها اسم (جمعية تقطيع أوصال الرجال Society For Cutting Up Men) واتخذت شعارًا لها كلمة SCUM وهي الحروف الأولى من ذلك الاسم الطويل, وهي على أي حال كلمة لها مدلول كريه وممجوج في اللغة الإنجليزية.

          وقامت هذه الجمعية بجهود مجموعة من الناشطات في حقل الحركة النسوية ممن يتميزن بالتمرد والشراسة والميل إلى العنف حتى في حياتهن الخاصة لدرجة أنهن ينظرن إلى غيرهن من أعضاء الجمعيات النسوية الأخرى نظرة استعلاء واستخفاف باعتبارهن (سيدات مجتمع مترفات وسلبيات وعاجزات عن أي عمل ولكنهن يخفين ذلك العجز وراء قناع شفاف وزائف من الرقة والدبلوماسية والنفاق ويؤثرن التعبير عن مطالبهن بالالتجاء إلى الأساليب السلمية بما في ذلك الإضراب السلمي الوديع). وكلها أساليب وطرق لا ترضي جمعية تقطيع أوصال الرجال التي ترى أنه لابد من أن يؤخذ الرجال بل والسلطات الحكومية الرسمية بالشدة والعنف, وأن (الإضراب) الحقيقي هو (ضرب) الرجال في مقتل.

          وليس المقصود بهذه العبارة القتل الأدبي أو المعنوي أو الاجتماعي وإنما المقصود هو القتل الفيزيقي إن احتاج الأمر إلى ذلك. وقد حدث بالفعل أن قتلت بعض العضوات أزواجهن أو عشاقهن من الرجال حين بدا منهن بعض التصرفات التي تنبئ بالرغبة في السيطرة والتسلط. وللجمعية (مانيفستو) يحدد فلسفتها وتعاليمها وينص في بعض بنوده على أن (الحياة الاجتماعية في هذا المجتمع (أمريكا) هي على أفضل الأحوال حياة مثيرة للضجر والملل وتخلو تمامًا من كل ما يتناسب مع المرأة واحتياجاتها بحيث لم يعد أمام المرأة ذات التوجه المدني والتي تعرف معنى المسئولية وتبحث في الوقت ذاته عن الإثارة سوى أن تعمل مع غيرها من النساء على إسقاط الحكومة والقضاء على نظام التعامل النقدي وإرساء قواعد التشغيل الذاتي في مختلف مجالات العمل وتحطيم بل وإبادة نوع الذكور). ويستمر البيان أو المانيفستو النسوي في عرض تعاليم الجمعية فيقرر أنه قد أصبح في الإمكان الآن من الناحية العملية الإنجاب من دون مساعدة الذكور, بل إن من الممكن الاكتفاء بإنجاب الإناث فقط, ولذا فإنه يتحتم على النساء العمل في التو واللحظة على تحقيق ذلك, إذ ليس الذكر إلا (مصادفة) بيولوجية عارضة, كما أن الجينات الذكرية ليست في حقيقتها إلا جينات أنثوية ناقصة.

          فالجينات الذكرية يرمز إليها بالحرف Y بينما يرمز للجينات الأنثوية بالحرف X مما يعني أن الذكور - أو الجينات الذكرية فيها مجموعة ناقصة من الكروموسومات, فالذكر إذن أنثى ناقصة أو غير مكتملة. إنه مسخ يسير على قدمين وقد تم إجهاضه في المرحلة الجينية).

          (راجع ذلك في مقالنا عن: ماذا تريد المرأة? في مجلة الهلال عدد سبتمبر 1995). ومثل هذه الكتابات والاتجاهات هي التي تدفع إلى تكتل الرجال - بل وكثير من النساء المعتدلات من المطالبات بحقوق المرأة - والوقوف موقف الرفض من الحركة ككل مما يدعو إلى التساؤل عن مصير هذه الحركة في المستقبل غير البعيد.

          والطريف هنا هو أن بعض كبار علماء الاجتماع في أمريكا من أمثال ديفيد ريسمان يشككون في (صدق رغبة) النساء (النسويات) أنفسهن في تحقيق كل أهداف الحركة فيما يتعلق بالاستغناء التام عن الرجل وتغيير المجتمع والثقافة إلى الشكل الذي تنادي به الحركة النسوية وأن المرأة الحديثة المتحررة لاتزال - رغم كل مزاعم هذه الحركة - في حاجة إلى الرجل والعيش في كنفه بالطريقة نفسها التي كانت (جدتها) تنظر بها إلى تلك العلاقة, وأن الكثير من النساء (النسويات) يتعرضن للضغوط السيكولوجية نفسها التي تتعرض لها المرأة (التقليدية) إذا ظلت من دون زواج وعاشت بمفردها دون تكوين أسرة, وأنه لو أبدى الرجال قدرًا أكبر من التساهل والتسامح إزاء المرأة فإن ذلك سوف يؤدي إلى القضاء تمامًا على الحركة النسوية التي بدأت في التراجع والنكوص بالفعل.

          وهناك بطبيعة الحال عدد كبير من المفكرين والكتّاب من كلا الجنسين يدافعون عن الحركة النسوية وأهدافها التي لا تخرج تمامًا عن المبادئ الإنسانية والقيم العليا الأساسية وأنها تراعي في مجملها مصلحة المجتمع الإنساني ككل وذلك إذا صرفنا النظر عن مزاعم واتجاهات الجماعات المتطرفة داخل الحركة. بل إن بعض هؤلاء الكتّاب يرون أن الحركة سوف تزداد ازدهارًا وتقدمًا في المستقبل وذلك على ما تقول إيستل فريدمان أستاذة الدراسات النسائية بجامعة ستانفورد الأمريكية في كتابها الطريف الذي نشرته عام 2002 تحت عنوان (لا رجعة إلى الوراء: تاريخ الحركة النسوية ومستقبل النساء), حيث ترى أن الفيمينزم تمثل ثورة عالمية ترمي إلى تصحيح قرون طويلة من الأوضاع الاجتماعية والقيم الثقافية المتأصلة منذ عصور ما قبل التاريخ والتي تهمش دور المرأة في الحياة وأنه ليس هناك في الواقع ما يؤيد المخاوف حول مصير الحركة ومستقبلها لأنها لا تخرج في آخر الأمر عن الدعوة إلى ما هو منطقي وهو طلب المساواة بين الجنسين نظرًا لعدم وجود فوارق جوهرية في تكوينهما, وأنه ليس هناك بناء على ذلك ما يبرر أن يكون الرجل هو المعيار وأن المرأة تمثل الانحراف عن ذلك المعيار, وأن للمرأة الحق في حرية التصرف في كل شئونها الخاصة بما في ذلك حق التصرف في الجسم وحرية العلاقات الجنسية وحق الإجهاض لأن الجسم هو ملك لصاحبه وليس ملكًا للمجتمع. ومع ذلك فإن إيستل فريدمان لا تتمالك من أن تتساءل عما إذا كانت الفترة الحالية أو العالم المعاصر سوف يشهد نهاية - أو مصرع - الحركة النسوية بعد أن أمكن دمج المرأة ومشاركتها في كل أنشطة الحياة اليومية مما قد يوحي باحتمال اعتبار الحركة قد استنفدت أغراضها? وتجيب هي نفسها على ذلك التساؤل في قوة وصراحة بالنفي لأن (الصراع) بين النوعين - الذكر والأنثى - لم يصل بعد إلى منتهاه وأن ثمة تحديات جديدة تطفو على السطح طيلة الوقت وأن ثمة مشاكل كثيرة لايزال المجتمع يرفضها ولم تجد لها حلاً نهائيًا مثل الحقوق الفيزيقية والإنجابية للمرأة خاصة وأن تمتع المرأة بالحرية المطلقة في ممارسة هذه الحقوق قد تكون له آثار سلبية خطيرة على المجتمع مثل انتشار أمراض انعدام المناعة والإيدز فضلاً عن حق الإجهاض الذي تحرمه الأديان.

          وتصل الثقة ببعض الناشطات في الحركة النسوية إلى تأكيد إمكان التغلب على كل العقبات والاحتجاجات والانتقادات التي توجه إلى هذه الحركة لو اهتم المعارضون بتفهم حقيقة أهدافها التي لا تدعو أبدًا إلى الصدام بين الرجل والمرأة وذلك إذا نحن تغاضينا عن ممارسات الاتجاهات المتطرفة وأن الحركة سوف تثبت قدرتها على الصمود في المستقبل مثلما أفلحت في البقاء خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية رغم كل ما أصابها من تراجع. ويصل الأمر بإحدى هؤلاء الناشطات من كندا وتدعى دوريس آرون إلى القول (إذا لم يكن للفيمينزم مستقبل فلن يكون للعالم كله مستقبل) وأن الحركة تهدف في القرن الواحد والعشرين إلى ما ليس أقل من تغيير العالم ككل وأنه على الرغم من أن الحركة كانت تواجه منذ بدايتها بكثير من النقد والسخرية كما كان لها دائمًا أعداؤها الذين يتنبأون بقرب اندثارها وينفرون من الناشطات النسويات كما لو كن يحملن (فيروس) قاتلاً ومميتًا فإن هؤلاء الرجال أنفسهم أفادوا من الحركة مثلما أفادت النساء, فقد ساعدتهم الحركة النسوية على اكتشاف حقيقة وضعهم وقدراتهم وميولهم والتعبير عن عواطفهم في حرية وانطلاق كما أدت إلى زيادة ارتباطهم بأطفالهم كنتيجة طبيعية لتمرد المرأة وخروجها إلى العمل خارج المنزل.

          وكما هو الحال بالنسبة لمستقبل كثير من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المتوارثة والتي تسود في عالم اليوم وتتعرض لكثير من التغيرات فإن الحركة النسوية تخضع للعديد من المناقشات والجدل والتنبؤ حول مصيرها والشكل الذي قد تتحول إليه بحكم الظروف المتغيرة ومتطلبات المستقبل وبحكم الاعتراضات والانتقادات التي توجه إليها الآن والتي لابد أن تتدخل في تحديد الشكل الجديد للحركة إذا قدر لها الاستمرار في الوجود. وهذه كلها مسائل سوف يحسمها الزمن ومن الصعب الوصول فيها الآن إلى تصور نهائي يكون مقبولاً من الجميع.

 

أحمد أبو زيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات