الملك تشارلز الرابع وعائلته

الملك تشارلز الرابع وعائلته
        

          تشكّل لوحة الفنان الإسباني الشهير غويا (الملك تشارلز الرابع وعائلته) التي رسمها عام 1800, علامة بارزة على طريق تطوّر فن الرسم, وخصوصاً في إطار كسر صرامة القواعد الكلاسيكية.

          لقد اكتسبت هذه اللوحة شهرتها من كونها تحفل بمجموعة من القيم التشكيلية التي يتصدّرها الانتقال من تصوير الواقع بصورته المثالية التي يجب أن يكون عليها, إلى تصويره على حقيقته, والاكتفاء أحياناً بما يعين المتلقي على النفاذ إلى عمقه ونبضه الخفيّ, بحيث يؤدي الاستنطاق المتقن للعمل الفني إلى اكتشاف قدرته على اختزال العالم الخارجي وتكثيفه إلى درجة الإعجاز والإدهاش.

          وقد لجأ غويا في تعامله مع موضوع العائلة المالكة إلى تصوير واقعها الداخلي العميق, وليس مظهرها الخارجي الملمّع, معتمداً على عدد من المبادئ التشكيلية الجديدة, فاعتمد مبدأ توزيع الأشخاص داخل فراغ اللوحة, ومبدأ توزيع الإنارة للدلالة على مواقع الأهمية والفعالية التي لكل منهم في الحياة العامّة والخاصّة, فالأهم يتركّز في وسط اللوحة ومقدمتها, والأقل أهمية في الخلفية والأطراف, والأهم تتركّز عليه الإضاءة, بينما يغرق الهامشيون في القتامة والظلال, واعتمد إظهار التعابير المبتسرة الخفيّة المرتسمة على وجوه الأشخاص, وعبر حركات أجسادهم للنفاذ إلى حقيقة كل منهم, فجاءت اللوحة في صياغتها النهائية الكليّة هجاء عميقاً مغلفاً بالامتداح الظاهري, مما يذكّرنا بمدائح المتنبي الشهيرة لكافور, التي كان ظاهرها مدحاً, وباطنها هجاء لاذعاً, حسبما رأى ذلك ابن جني منذ ألف عام.

          الملكة هي التي تتصدّر اللوحة بقامتها الضخمة الفارعة وذراعها القابضة بحزم على يد ابنها الصغير, وتحضن ابنتها بالأخرى, وكأنها بتلك الحركة تحرص على أن تقبض على كل شيء, وكأنها تحرص خصوصاً على ألا يفلت المستقبل المتمثّل بالصغيرين من يديها, وكان وضع الملكة في بؤرة اللوحة وتعريضها لتلك الإضاءة الشديدة إشارة من غويا إلى أن الملكة هي الحاكم الفعلي لإسبانيا, ومن الواضح أنه لم يكن يحمل  لها الإعجاب والولاء, فقد رسمها على مبعدة من الملك, وليس لصقه, جاعلاً ولدهما الصغير في المسافة بينهما, وكأنما يشير إلى أن الملك وزوجته المتسلّطة منفصلان في الحقيقة, ولا يربط بينهما سوى الشكليات والأطفال, وقد رسمها بعينيها الصغيرتين عديمتي الرموش, ووجهها الصغير الذي اتخذ ملامح امرأة سفيهة, أو فاجرة, أو سوقية, وكأنها انتهت من فورها من الصراخ, جاهدة لأن تكتم غيظاً ورغبة مستفحلة في مواصلة الزعيق والصراخ, وقد أراد الفنان من خلال ذلك أن يشير إلى أن الحماقة, والرغبة الجامحة  في السيطرة المطلقة, هما اللتان كانتا الحاكم الفعلي لإسبانيا, عبر تجسيد ما يظهرهما, ويظهر ما لهما من سلطة في صورة الملكة, ذات الجسد الضخم المقترن بذلك الرأس الصغير.

          وبالمقابل رسم الملك بديناً, مفرط البدانة, بأوسمته الكثيرة ووجهه الطافح, وحاجبيه المتباعدين ليشير إلى أن ذلك الملك المتردد الضعيف لم يكن سوى الواجهة, بينما كانت زوجته هي الحاكم الفعلي, وربما شقيقه القابع في ظله, بحيث لا يبدو منه في اللوحة سوى وجهه ذي الملامح الحازمة التي تختزن تعطّشاً واضحاً حادّاً إلى ممارسة السلطة والطغيان, وإضمار الحقد الذي يبدو موجّهاً ضد الملك الذي يتطلع إليه من خلف ظهره, والحقد أيضاً على الظروف التي جعلته وراء الملك وليس محله.

          وبقية أفراد العائلة منح الرسام كلاً منهم ملامحه الناضحة بأعماقه, فارتسمت مقادير من البلاهة على وجوه السيّدات الأكبر سنّاً, فإحداهن التي تبدو زوجة الشقيق - ويمكن أن تكون شقيقة وليست زوجة - تشرئب بوجهها جاهدة لاحتلال موقع ما في الصورة, مواز لموقعها الهامشي داخل نطاق الحياة العامّة والحياة داخل نطاق الأسرة, فالمهم لديها أن تكون موجودة فقط ضمن الصورة, بغض النظر عن قيمة ذلك الوجود. أما الذي يبدو أنه صهر الملك (زوج ابنته) الذي يحتل مع زوجته يمين اللوحة, فقد جعل غويا معظم جسده الضخم في الظل, رغم ثقل الأوسمة على صدره وقامته الضخمة, فلم يبدُ من جسده سوى الملابس الفضفاضة, بينما امتلأ وجهه بغرور منقطع النظير, وكأن الرسّام يشير إلى أن هذا الصهر يحتل موقعاً هائلاً في الحياة العامّة الإسبانية, لا يتناسب مع إمكاناته الذاتية, فالمساحة التي يقف عليها فضفاضة عليه, وكلّ أهميته مستمدّة من زوجته وطفله الذي تحمله الزوجة على ذراعيها, وبالمقابل فإن ابنة الملك رغم مظاهر الغطرسة والغرور على وجهها, فإنها لا تستطيع إخفاء قدر من الشعور بعدم الرضا, والغبن الناجم عن اضطرارها لممارسة الأمومة والأنوثة اللتين تجبرانها على أن تكون ملحقة بزوجها, رغم أنها السبب في جعله واحداً من أفراد العائلة الحاكمة, ورسمها غويا في أقصى يمين اللوحة ليشير إلى قدر من تنحيتها عن الحياة العامّة, وقدر من شعورها بالغبن, وجعلها تتقدّم زوجها بخطوة للإشارة إلى شعورها بالأفضلية عليه.

          وفي أقصى اليسار يقف الأمير ولي العهد وخلفه فتى يبدو شقيقه الأصغر. الأمير المغرور يتطلع إلى العالم بعينين شرهتين للعبّ من الملذات, وموقع شقيقه خلفه يشكل تكراراً موازياً لثنائية الملك وشقيقه قرب وسط اللوحة. والشابّة ذات القامة الفارعة التي تقف قرب وليّ العهد, وتدير وجهها إلى الخلف بحدّة منعتها من ظهور شيء من ملامح وجهها, يصعب أوّل وهلة معرفة موقعها في الأسرة, فهي لا يظهر منها سوى قامتها وثيابها الفاخرة, وعنقها البضّ وصدرها العامر, بحيث يذهب الظن إلى أنها زوجة ولي العهد, وليست شقيقته, أو شقيقة والدته حسبما هو محتمل, ويذهب الظن أيضاً إلى أنها ترى جسدها أثمن ما لديها, وليس عقلها, والتفاتتها الحادة باتجاه الملكة تشير إلى احتمال وجود ملاسنة بين المرأتين (الكنّة وحماتها) ولكن الحرص على المظاهر يفرض على المرأتين إنهاء الشجار.

          الابنة الصغيرة التي تحتضنها الملكة يبرز في وجهها شيء من البلاهة, وشيء من الخراقة اللتين تتصف بهما البنات في بداية مرحلة البلوغ, والتصاقها بأمها, وحرص الملكة على احتضانها يشيران إلى رغبة الأم, وربما رغبة الابنة أيضاً, في أن تكون صورة عن أمها. أما أصغر أبناء الملك الذي يبدو مرغماً على أن تمسك أمه بيده فيبدو عليه الغضب والحنق, وشيء من الشراسة الناجمة عن الإفراط في الدلال والتعايش المباشر مع نزوات الأم الشرسة. والحنق ناجم عن شعوره الطفولي بواجب الانضباط, إلى جانب الشعور بالغبن لأنه الأصغر والأقل شأناً. وفي الخلفية وجه امرأة عجوز يمكن أن تكون الشقيقة الكبرى للملك, أو أمه, فهي عجوز تفرط في تزيين شعرها, وتضع قرطاً كبيراً, وموقعها في اليسار يشبه موقع المرأة الأخرى (زوجة الشقيق) في الجهة المقابلة, فالمهم فقط أن تكون داخل إطار الصورة.

          وفي أقصى الخلفية من جهة اليسار, في الظل الكامل رجل لا يتضح من ملامحه سوى أنه يسير إلى خارج الصورة, فربما كان ذلك الرجل هو الأكثر هامشية بين الجميع, إذ يذهب الظن إلى أنه زوج شقيقة الملك التي تبدو أكبر سناً من زوجها, وتبدو أكثر حرصاً على الظهور في الصورة, مقابل حرص أقل من زوجها, وجعله يقف بالتوازي مع الصهر الشاب (زوج الابنة), وعلى ارتفاع واحد معه, يشي بأن الوظيفة الاجتماعية واحدة لدى الاثنين الملحقين بالعائلة, فوظيفة زوج شقيقة الملك في طريقها إلى الزوال بفعل الشيخوخة والتقادم, وعشرات العوامل الأخرى المرتبطة بالتطور الطبيعي للحياة, داخل الأسرة وخارجها.

          هناك من يرى أن المعرفة القبلية (نسبة إلى قبل) بالموضوع تفسد القراءة السيميائية الصحيحة للعمل الفني, أو تمارس عليه سلطة ما, أو تفرض عليه اتخاذ منحى معين, ومهما حاول القارئ أن ينأى بنفسه عن تلك المعرفة, فإنها تظلّ تفرض قدراً من سلطانها, وقدراً من ظلالها على عملية القراءة. وهذه القراءة يمكن أن تكون قد ابتليت ببعض الأخطاء في تحديد موقع بعض الأشخاص, ولكن ما يرجّح صحتها يتحصّل من خلال الطريقة التي اعتمدها غويا في توزيع الشخصيات ضمن فراغ اللوحة, بالتوازي مع مراعاة موقع الشخصية من الأخرى, ويتحصّل أيضاً من خلال الملامح المائزة المرتسمة على الوجوه, فلو لم تكن الملكة - على سبيل المثال - راضية عن صهرها زوج ابنتها, لما أفرد له الفنان مساحة من اللوحة مساوية للمساحة التي تشغلها هي, حتى لو كان معظمها في الظل, ولو كانت راضية عن (سلفتها) زوجة شقيق الملك, لحرصت على أن يبدو منها أكثر من وجهها المشرئب المحشور بين أكتاف ثلاثة ذكور ضخام (الملك وشقيقه وصهره).

          والأمر نفسه يصح بالنسبة للرجل القابع في ظلال خلفية الصورة, وكذلك المرأة الموجودة قرب ولي العهد المائلة بوجهها كلياً إلى جهة الملكة وكأنها تتحدّاها, وكأن هناك شحنة عالية من العداء بين المرأتين, سواء كانت المرأة ذات الوجه المخفي كنّة أو ابنة أو حتى شقيقة, فمن الجليّ وجود توتر بين المرأتين.

          كان لـ (غويا) أيضاً أسلوبه المبتكر الفذ في توزيع الأضواء, وخرق الطريقة التقليدية المعتمدة في توزيع الظل والنور, فالنور هنا لا يأتي من الخارج, بل هو نور داخليّ ينبع من بؤرة اللوحة التي تحتلها الملكة بوصفها الأقوى, واللوحة محاطة بظلال قاتمة تبدو كأنها تريد التهام شخصيات وأجزاء من المشهد, ولا يجوز فصل ذلك عن القراءة العلاماتية الصحيحة للوحة, حيث تشير قتامة الظلال وطريقة توزيعها التي تشي بأنها تهاجم فراغ اللوحة, إلى عزلة العائلة المالكة عمّا كان يجري في الواقع, وإلى إحاطة نفسها بمقادير متفاوتة من الغموض, وإلى ذلك الزمان الغامض المبهم والوقائع الجديدة التي كان لابدّ لها من أن تلتهم بقية ذلك الفضاء الذي شغلته العائلة المالكة, ولم تكن تلك الظلال القاتمة سوى طليعة لجملة من القتامات التي أودت بتلك المرحلة من التاريخ الإسباني.

 

صلاح صالح   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الملك تشارلز الرابع وعائلته