أصوات أدبية من الكويت

أصوات أدبية من الكويت
        

          ثلاثة أصوات متميزة من الأدب الكويتي. نصوص يمتزج فيها الشعر بالنثر ولكنها لا تتخلى عن روح القص. قصص مستمدة من تراث غني الجذور. أغاني البحر, ورحلات الصحراء, وبقايا من تجارب المعاناة الإنسانية والشظف. هذه هي لمحات من واقع الأدب الكويتي الغني بالتجارب.

ليلى العثمان وقصيدة السرد

          يشكل النسق الشعري صياغة جاذبة في فضاء المنجز السردي للقاصة والروائية الكويتية ليلى العثمان وهي صياغة تتقن تفجير الدلالات الكامنة للمفردات وتكثيف خرائط البوح بحيث يمكن تسميتها تجاوزًا بقصيدة السرد.

          تسهم هذه القصيدة بشكل أو بآخر في تصعيد الإيقاع السردي ونلمح على مراياها ملامح الشخصيات وحركة نموها وتفاعلها مع الحدث والفضاء الزمكاني ونسمع احتدام الحوار, و..., ففي مجموعتها القصصية (يحدث كل ليلة) - الصادرة في طبعتيها الأولى والثانية 1998 و2000 عن دار المدى / دمشق - تكون إزاء قصائد مشفرة تنأى بالمتن السردي عن التقريرية والخرائط الإيحائية الجاهزة, ففي قصة (موت اللبلابة) مثلاً يشكل العنوان عتبة شعرية مشفرة تتمظهر في المعادل السردي المتكئ على انزياح استعاري يفتح نافذة صوب المتن اللاحق تضيء مكابدات بطلة القصة التي تماهت مع اللبلابة (المستعار له) قارن الآتي:

          (هذيان المطر يتواصل, الغيوم عباءات يشق سوادها التماع البرق, الريح مهتاجة تجتث مناجلها رءوس الاعشاب, وتطاير ريش العصافير اللابدة تحت مظلات النوافذ. هي خلف الزجاج المزخرف بخرائط القطرات, تلصق وجهها على سطحه البارد, عيناها مرتكزتان على - اللبلابة - الناتئة من قلب الأرض, متسلقة خيطها إلى حافة السطح, تأملتها, تفرست بأوراقها الخضراء النامية, وتلك الصغيرة المندسة بين الفروع كأطفال يندسون في حضن الأم, يحتمون من البرد ومن أحلامهم المرعبة, الريح تحاصرها, تنتفض كأنثى يطاردها مزاج رجل مجنون, تحاذي الزجاج تصفقه, كمن تود اقتحام الغرفة بحثًا عن الدفء والامان. أثارت اللبلابة المتأرجحة شفقتها, همست بسرها: لا حماية لك داخل غرفتي, لو كنت مكاني لعرفت كيف يكون للغرف المغلقة صقيعها الحارق, تذكرته, نغل الحنين بأعماقها, تمنته يخترق عويل الريح).

          لو حاولنا فك شفرات هذه الاستهلالة المتخمة بالوجع الأنثوي والمتبلورة ضمن الهندسة النصية المتناوبة بين النسق المضمر والنسق الحاضر فإن الشفرة الأولى تضيء ملامح ليلى العثمان وحركة أناملها وهي تستل من الطبيعة (اللبلابة والمطر العاصف) لتجعلهما نصًا سرديًا ومعادلاً استعاريًا وكيانًا أنثويًا وذكوريًا موازيًا يعكس عذابات بطلة القصة وعبر تقابلية انزياحية تتحرك في أكثر من شفرة ترميزية, ولعل أولها هي المتوازية الإيحائية بين الأنثى (بطلة القصة) التي يضيق عليها حدث الغياب والفقد الخناق وبين اللبلابة المتأرجحة تحت عصف المطر وخفق الرعود, ويعكس المطر العاصف الاتجاه الآخر المتمحور حول ملامح المذكر الغائب وحركته الشرسة صوب تفتيت الذات الانثوية, فأنت تسمع لغوًا (هذيان المطر) وتلمح عربدة تخلع عن الأشياء وقارها (البرق يشق عباءات الغيوم) ويدًا مضرجة بالفتك (تحصد رءوس الأعشاب وتطاير ريش العصافير اللابدة تحت مظلات النوافذ) بل إنك تلمح حزنًا شفيفًا ينداح على المرايا الأنثوية المتشكلة من (زجاج النافذة) بسبب من تدميرية هذه الحركة الفوضوية التي نجحت في أن تجعل الذات المتمرئية في مواجهة شروخ راهن مكتظ بالاغتراب, وتكشف الشفرة الثانية الحيز المكاني المشتغل على تقنية (الداخل والخارج) إذ إنك في حضرة هذا البوح الراعف أمام أنثى خارج مسرح النص هي الذات المتكلمة والتي تقوم بعملية السرد بضمير الغائب وأنثى داخل مسرح النص تقوم ببطولة القصة, وثمة أنثى محاصرة بالاغتراب والشتات داخل الغرفة وأخرى محاصرة بالمطر والريح خارج الغرفة (لبلابة), وهي ثنائية تتناسل تحت مناخات سردية متنامية متوترة تستدير في خاتمة القصة لتضيء سطورها الأخيرة النهاية التراجيدية لبطلة القصة التي تذكر بالعنونة (موت اللبلابة) لاحظ الآتي: (فتحت النافذة, هرولت الريح إليها تطاير أوراقها ومفارش الطاولات الرقيقة. بحثت عن اللبلابة, دفعت نظرتها إلى الأسفل, رأتها متكومة كجثة, أحسّت الريح تفتح ثقوبا بكل عظامها فتتكسر بداخلها الأغصان, انتفضت, تهاوت إلى الأرض وأجهشت). ثمة مستويان للموت: الأول جسدي أوقدته اللبلابة المهشمة حين غدت جثة مكومة بعد أن بعثر المطر العاصف جسدها ونفاها من متن المكان (النافذة) إلى هامشه (دفعت نظرتها إلى الأسفل) وأضاء المستوى الثاني الموت المعنوي الذي لفع بطلة القصة التي وقعت صريعة نصال جديدة لشهريار (أحست الريح تفتح ثقوبًا بكل عظامها فتتكسر بداخلها الأغصان) ولا تخفى دلالة تغيب المطر والإبقاء على عصف الريح المدجج بالدمار والجدب.

حالات شهرزاد

          وتفيد القاصة ليلى العثمان في مجموعتها القصصية ذاتها - وأعني يحدث كل ليلة - من الذاكرة الحكائية لألف ليلة وليلة فتنسج قصة عنونتها بـ(حالتان لشهرزاد) تمفصلها طباعيا إلى شذرتين عنونت الأولى بـ(الليلة ترقص شهرزاد) والأخرى (الليلة تسبح شهرزاد) وقد وقف التأويل أمام الشذرة الثانية متأملا الآتي:

          (دائما.. كنت أنت الذي يصدر الأمر:

          - قصي الحكاية.

          ودائما كنت أنا الدمية الجميلة تجلس بوقار مصطنع على طرف السرير عند أعتاب قدميك المشبعتين بعطور العز والرخاء.

          ألف ليلة مرت. لم أعرف ليونة النوم ولا شهية الحلم. أظل بارتعادي أبحث عن رأس حكاية جديدة لأسحرك بأجواء الحكايات, وأحمي عنقي لحظة صياح الديك من سيفك البتّار. الليلة ستكون الليلة الأخيرة. سأتمرد عليك, بعد أن كرهت خضوعي وكل الحكايات. ولأن الموت قادم إليّ, فإنني أشتهي أموت بغير سيفك مزهوة أني حققت لنفسي ولو لمرة واحدة حلمًا بديعًا).

          أي لوعة شاءت القصة أن تذكي جمرها?! وأي حلم تكوّرت عليه شهرزاد القص الأنثوي (ليلى العثمان) لتطلق فراشاته في سعير الراهن الذي يسحق حضورها الأنثوي فكرًا وثقافة, وقد رمزت لهذا السعير بـ(الموت قادم إليّ + أشتهي بأن أموت بغير سيفك), وهي ترميزات تفضح الوعي الحاد بالمحنة وهي محنة الجسد الأنثوي والكتابة الأنثوية الخارقة لأنساق الفحولة الكتابية. أضف إلى ذلك أن الخطاب الزاجر الواخز يشكل الهيمنة الضاغطة على فضاء السرد وهو يفضح تمردًا أنثويًا على صعيدين, الأول التمرد على الجسد الأنثوي الذي صيّره السائد الثقافي (دمية جميلة تجلس بوقار مصطنع على طرف السرير عند أعتاب قدميك المشبعتين بعطور العز والرخاء), ويتشكل الصعيد الآخر من الرغبة في انعتاق الفكر الأنثوي من سلطة التكرار والوقوع في شرك السير في ركاب الثقافة الفحولية بعيدًا عن الخصوصية الأنثوية وتفاصيل عالمها نصف المضاء وصيرورته ظلاً محايثًا. وقد أضاء هذا المعنى, تمظهر الحكاية, وجها آخر من وجوه الجسد الأنثوي (أبحث عن رأس حكاية جديدة لأسحرك بأجواء الحكايات) لذلك أعلن النص صراحة صرخته المدوية في وجه القمع الفحولي بكل أشكاله (سأتمرد عليك. بعد أن كرهت خضوعي وكل الحكايات), ويصل المتن السردي بترميزاته ذروته حين نشهد في خاتمة القصة اشتباكاً بين هذه الشهرزاد المتمنطقة برفض المتون الأنثوية المنقادة لسلطة الاستلاب وبين النسق الأنثوي المستلب والمروج للثقافة الفحولية الساعي إلى ردع تطلعاتها وإعادتها إلى نصابها المعهود في منظومة تقسيم الأدوار: (ألف سوط صار لصوت أمي, كل المدينة أطلقت صراخها حولي, اصطخب البحر, فار الزبد, انخلعت الأشجار من معاقلها واعتلت رءوس الموجات, تحولت ضفائر من الحبال الغليظة, حاوطتني بدائرة متسعة ثم أخذت تضيق, تضيق لتصطادني), تعكس مرايا السرد عمق الجرح الناغر لهذه الأنوثة المحاصرة بثقافة الوأد الفكري المتمظهرة في الرقيب المؤنث (الأم + ضفائر كالحبال الغليظة) وعدائية الأمكنة (المدينة + البحر + الأشجار) لتكون عزلاء في خضم من عارم من الإرهاب نفسي (اصطخاب البحر +  صرخات المدينة) والعنف الجسدي (ألف سوط) حد الوأد (طلقات مدوية) بل إن جحيم المكان المتمظهر في فوران الزبد وبياضه الناصع يرهص بالخاتمة المكرورة ويحيل إلى شراسة تكفين هذه الرؤى بغية تغييبها.

 

وجدان الصائغ   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ليلى العثمان





فوزية الشويش





إسماعيل فهد إسماعيل