إسماعيل فهد إسماعيل.. الرواية والحالة الدرامية

  إسماعيل فهد إسماعيل.. الرواية والحالة الدرامية
        

          الرحلة الإبداعية للكاتب إسماعيل فهد إسماعيل شقّت طريقها مع ولادة أول أعماله سنة 1965 (البقعة الداكنة), وما كان لها أن تتنامى وتجد قرّاءها حتى أيّامنا سنة 2005 لولا أنها مثّلت خطوات في مشروع فكري وفني تطلّع صاحبه بامتداد الآفاق العربية.

          في أدب إسماعيل فهد إسماعيل تنتصب القصص والروايات كمرايا متناظرة تعددت فيها الوجوه وحملت ملامح الكويتي واللبناني والعراقي والفلسطيني والمصري. وكان الركن الآخر في المشروع تقنية أو لغة فنية حداثية بمعنى الدخول في هذا العصر وتجاوز المألوف بغية الوصول إلى دلالة هي بنت الحوادث بانكساراتها وإحباطها وما تستدعيه من مقاومة هي شرط المستقبل.

          الحالة الدراميّة ظاهرة فنية لا تخطئها العين في قصص وروايات إسماعيل وقد تعاظمت على نحو واضح في (الضفاف الأخرى 1973) و(ملفّ الحادثة 67/1947) و(الطيور والأصدقاء 1982) و(يحدث غدًا 1997) وقد نرى الحوار أبرز دليل عليها إلا أنها أبعد غورًا في تفاصيل المسرحية والعرض المسرحي, ونستدرك ههنا لأن مفهوم الدرامية يتسع في هذه الأعمال ليشمل السينما وتجلّياتها, ودعانا إلى الوقوف عند هذه الظاهرة أمران, الأول هو المساحة التي حلّت فيها داخل بنية الرواية والآخر هو التواتر عبر عدّة عقود من الإبداع ممّا يدلّ على استقرارها في الذات المبدعة أي هي بعض من وعي الكاتب بالعالم من حوله وأداة تواصل وتوصيل.

          لعلّ الروابط بين القصّة والدراما - بالمفهوم الواسع لهما - أغرت عددًا من المبدعين بالانتقال من ضفة برعوا فيها إلى الضفة الأخرى وتفاوتت الإسهامات في مقدارها وأهميتها في حركة الانتقال فقد كتب القصصي محمود تيمور بعض الأعمال المسرحيّة التي مرّت هادئة, بينما أثارت كتابات يوسف إدريس المسرحيّة زوبعة من النقاش والاختلاف حول شخصيّة عربية للمسرح (الفرافير) وجاءت حادة في تعبيرها السياسي (المخططين) مع أن إدريس يظل علامة بارزة في القصّة العربية المعاصرة, وقد يكون وليد إخلاصي متفردًا في توازن إنتاجه في القصة والرواية والمسرح وبلوغه مراتب فاعلة في الجانبين.

          ويظل المؤلّف يتحرك على أرض هي القصّة أو الرواية رغم استعارة طاقات تعبيرية من المسرح أو السينما, فنحن أمام تكامل وإغناء للأدوات الفنية, وبشيء من التأمّل ندرك أن الدافع يمكن إرجاعه إلى طبيعة الموقف أو الحالة الإنسانية في العمل القصصي أو إلى الجمهور المتلقي والرغبة في تحقيق درجة عالية من التوصيل.

          قبل الشروع في تحليل الروايات الأربع نقف مع المصادر المعرفية للدراميّة في تكوين إسماعيل فهد إسماعيل, لأن من حقّ المبدع أن نقرأه على نحو شمولي تتجاوب الأصداء فيه, وذلك أن الظاهرة التي نلحظها في أعماله قد تجد تفسيرها أو مؤشرات التأويل في نتاجه أو في سيرته الكاشفة عما تطويه جنبات الرواية, ونلحّ على أننا ندرس النصوص أولاً من الداخل بتحديدنا للظاهرة, ثم نستطلع خارج النصّ طلبًا لتنوير التفسير.

مرجعيّة الدراميّة

          يحكي لنا إ.ف. إسماعيل في شهادة موجزة أطرافًا من الأحداث أو المواقف التي كان لها أثرها في مسيرته الأدبية والفكرية (2002), وتلفت الانتباه علاقته بالسينما فقد عرفها أوّل مرّة وهو في السابعة عندما اصطحبه خاله إلى دار تعرض الأفلام في بغداد ولم يكن الانبهار سمة اللقاء, وإنما هو التفاعل الذي حوّل الخيال على الشاشة حقيقة, فاتجه الطفل شيئًا فشيئًا نحو هؤلاء! متقدمًا الصفوف لعله يشاركهم حياتهم إلا أنّ جمهور المتفرجين أيقظه من الحلم بأن طلب منه الجلوس! قد يكون ردّ الفعل مشابهًا لما داخل نفوس كثير من أطفال ذلك الجيل إلا أن الحادثة كان لها شأن آخر مع إسماعيل فهي لم تزايله وتغلغلت في أعماقه وازدادت مع المعرفة والثقافة رسوخًا وأخذت شكل طموح إلى مهنة الإخراج السينمائي, ونقرأ كلماته - وهي بصيغة الخطاب الذاتي - (مخرج سينمائي التوق لدرجة الحرقة. تمنيت لو تسنح لك فرصتك كي تساهم بصناعة نمط من حياة منتقاة. ولأن الحياة تصنعنا ليس بقدر ما نصنعها, ولأن ظروف الصناعة السينمائية في الخليج عامّة كما نعرفها, ولأنك وجدت تعويضك في الكتابة عندما توافرت لك منحة لدراسة الإخراج السينمائي وكنت شارفت الأربعين آثرت أن تجير المنحة لحساب دراسة النقد الأدبي في الكويت).

          إنّ التحليل النفسي يعيدنا إلى سنوات الطفولة لنكتشف المؤثرات الأساسية في تكوين شخصية الإنسان وطبيعة تعامله مع المجتمع والعالم ذلك أن أحداثًا معينة أو شخصيات تدخل نفس الطفل في إطار مركّب من الشروط الموقعية فترسم قسمات لا تمحى بل تقترن به في سلوك ظاهر أو رغبات كامنة تبرز عندما تتاح لها الفرص, وقد تصاعدت السمة الدراميّة في شخصية إ.ف إسماعيل من خلال متابعته الدائبة للعروض ومناقشتها وعندما توافرت وسائل التسجيل الحديثة (شرائط الفيديو) غدت يوميّة ومبرمجة تختار الأعمال الفنية المميّزة في بنائها وجمالياتها, ولكن المحطة الأكثر دلالة هي الاستفادة من الممكن بدلاً من السفر, فقد انتسب إسماعيل إلى معهد الفنون المسرحية بالكويت وأمضى أربع سنوات متجوّلا وباحثًا في النقد والأدب المسرحي (1976 - 1980), وأثمرت هذه المرحلة أعمالاً ثلاثة هي نتاج القراءة الجديدة للنصوص المسرحية والمنهجية العلمية في دراسة الظواهر الدرامية وتحليلها, وجاء العمل الأوّل إبداعيًا في مسرحية حملت عنوان (النّص) وأمّا العملان الآخران فهما دراستان: (الفعل الدرامي ونقيضه - دراسة في أوديب سوفوكليس) و(الكلمة - الفعل في مسرح سعدالله ونّوس).

          كانت مرحلة معهد الفنون المسرحية غنيّة بلورت لدى إسماعيل رؤى وأدات فنية لكنها لم تكن بداية الدراميّة في أعماله الروائية والقصصية, فقد أصدر بين 1965 و1976 مجموعتين قصصيتين وست روايات تجلّت أبعاد الدراما في اثنتين منها (الضفاف الأخرى 1973) و(ملفّ الحادثة 67/1974) لذلك فنحن نستعرض كتب المسرح المباشرة, لأن اختيار الخوض في قضاياها دلّ على نزوع في أعماق صاحبها وهموم تشغله وجدت متنفّسًا في كتابات له, ومن الجهة الأخرى تعطينا هذه الأعمال المسرحيّة مؤثرات تعاظمت في الروايات اللاحقة (الطيور والأصدقاء 1982) و(يحدث أمس 1997).

          تتبع إسماعيل في دراسته (الفعل الدرامي ونقيضه) الصراع التراجيدي في توتّر متلاحق لا مفر منه فالأب لايوس تخلّص من ابنه الوليد ظنًا منه أنه بهذا يغالب النبوءة ويقهرها فهي تقول إن موته سيكون بيد ابنه إن خالف إرادتها وتزوّج, وبعد سنوات يقتله شاب في منعطف جبلي. إن هذا القاتل هو أوديب ابنه الهارب من نبوءة معبد دلفي فقد ترك مملكة كورنثة حيث أبوه وأمّه هائمًا كيلا يقع في الخطيئة قاتلاً أباه ومدنّسًا دياره فإذا به يحقّق أوّل طرف في هذه الفاجعة ثمّ يدخل طيبة ويغدو ملكها بعد انتصاره على الهولة فتكتمل النبوءة وهو غافل عنها حتى يحلّ الوباء ويسعى ليعاقب قاتل لايوس ومدنس المدينة وكلما تقدّم خطوة اقترب من هزيمة تحلّ به ومأساة حتمية فهو لم يكن ابن ملك كورنثة كما ظنّ وإنما هو ابن لايوس.

          إن إسماعيل استحضر في هذه الدراسة وهج الصراع التراجيدي في الحياة ومواجهة الخصوم, وتأمّل البناء الفني الذي صاغه سوفوكليس بشكل محكم إضافة إلى أنه ركّز مناقشته على مفهوم السلطة الدكتاتورية ممثلة بأوديب والصراع بينه وبين كريون شقيق جوكاستا, الذي بدا تنافسًا على كرسي مملكة طيبة وفي زاوية أخرى نرى شعب المدينة, وهكذا حاول إسماعيل أن يستشعر إشكالية سياسية في هذه المسرحية.

          كان الكاتب سعدالله ونّوس بأعماله المسرحية ونهجه مثار إعجاب شديد لدى إسماعيل تمخّض عن مسرحية يرتسم فيها ما أحبّه وتعلّق به من خصائص جديدة عُرف بها ونّوس. لقد كتب إسماعيل عمله الإبداعي المسرحي الوحيد (النص 1977) وحاول الالتحام بالجمهور عندما كسر الجدار الرابع ومشى خطوات ليحلّ التغريب وإيقاظ المتفرّج بدلاً من وهم الحكاية البعيدة, وأدار الصراع في إطار اقتصادي سياسي اجتماعي في اشتباك مصالح الملاّك أصحاب العقارات والمستأجرين محدودي الدخل.

          إن كتاب (الكلمة الفعل) يقدّم تحليلاً لمسرحيات ونّوس وخاصّة: (حفلة سمر من أجل 5 حزيران), و(مغامرة رأس المملوك جابر) و(سهرة مع أبي خليل القباني) و(الملك هو الملك) وبيّن إسماعيل محاور النهج المسرحي الجديد فيها وأصولها في المسرح العالمي: المسرح داخل المسرح - بيراندلّو, الملحمية والتغريب - بريخت, المسرح السياسي - بيتر فايس وبيسكاتور, وعبّر بصورة مركزة قائلاً: إنه - ونّوس - أدرك الوظيفة الاجتماعية للمسرح ودوره المهم  في تغيير الحياة عن طريق معالجة عصرية لقضايا اجتماعية وسياسية وجماهيرية في الوقت نفسه كقضايا الحرية وعلاقة الشعب بالسلطة), وفي موضع آخر يشير إلى نجاح هذا المؤّلف في خلق نوع من الفرجة المسرحية يكسر الحاجز النفسي القائم بين الجمهور والممثلين, وبهذا يصل إلى معادلة صعبة هي أن تغدو الكلمة - فعلاً بهذا الدفق بين ساحة التمثيل وأرضية الواقع الاجتماعي والسياسي.

          ويبرز في التحليل مزاوجة ونّوس بين السرديّة والمسرح عبر الحكواتي في (مغامرة المملوك جابر) وسرد ليسبق ويختم الأحداث (الملك هو الملك), وكذلك تعدد مستويات العرض المسرحي إضافة إلى التغريب بحوار بين الجمهور والممثلين.

الضفاف الأخرى

          استخدم إسماعيل في رواية (الضفاف الأخرى 1973) الحوار على نطاق واسع مما يجعله حاملاً بعدًا دراميًا من المسرح والسينما, وقسّم العمل أجزاء أقرب إلى مشاهد السيناريو, وعمد إلى تعدد زوايا الرؤية لهذه المشاهد بحسب عدد  شخصيات الرواية إضافة إلى استرجاع متكرر لمشاهد سابقة مع حوارها تختلط بانفعالات وتفسيرات مختلفة مع كل عين تستعيدها.

          تدور أحداث الرواية في ستة أيام, وفي موقع رئيسي هو المصنع حيث يدبّر العمال سرًّا إضرابًا إن لم يُستجب لمطالبهم, ويتربّص المدير ليحبط هذه (المؤامرة) التي تستهدفه وتنال من الاقتصاد الوطني!

          لم يكن هدف الرواية سرد الأحداث بمقدار كشفها عن ملامح الشخصيات من خلال علاقتها وانتمائها في زمن عصيب في المصنع وفي البصرة زمن عبدالكريم قاسم. إن الأوراق تتبعثر وتبقى لعبة السلطة مع المثقفين والعمال احتواءً وقمعًا, وتتوضح جوانب من بنية الحزب السري بمناضلين يعتقلون وانتهازيين يحومون حوله ومتعاطفين توحدهم وإيّاه المعاناة. فاطمة سكرتيرة مدير المصنع والمعلمة السابقة وصاحبة تجربة مريرة مع فوضوي ثوري عدمي تركها مع ابنه من زوجته الأخرى, إنها تنحاز إلى العمال وتستفيد من موقعها في الإدارة لمصلحة العمال وفي الوقت نفسه تكشف مواقف الآخرين من حيث هي أنثى وصاحبة نفوذ في العمل, كاظم عبيد موظف سابق وعامل فني اعتقل مدة على هامش السياسة إذ هجا الزعيم قاسم عبثًا ويحاول أن يتقرب من حزب العمال, كريم البصري صحفي خرج من المعتقل ويحاول أن يلعب أدوارًا متعددة مع المدير ومع العمال ومع جهات أخرى, والزاير رئيس السجانين السابق والفرّاش في المصنع يغدو ورقة كاشفة لشخصيات الرواية.

          كانت كل شخصية بمنزلة السارد في الأقسام التي تحمل اسمها في الرواية إلا من حضور قصير للسارد الخارجي, وهكذا نجدها تقودنا إلى الأحداث عبر الحوار مع الآخرين ومع الذات وبطبيعة الحال من وجهة نظرها, وممّا يؤكد رغبة المؤلف في إعطاء فاعلية مشهدية السينما ما وضعه من تعليمات في مطلع عدد من مقاطع الرواية من مثل: (المكان: غرفة السكرتيرة, الحالة: مشروع توظيف, المرفقات: ملف, الأشخاص: 1 - فاطمة, 2 - الزاير), ونراه يعرفنا في هامش لاحق بشخصية الزاير, وكريم البصري.

          إن الدرامية في هذه الرواية تؤدّي عددًا من الوظائف:

          1 - إنها تشعر المتلقي ببعد المؤلف/ السارد الخارجي ليبقى أمام الشخصيات الروائية في مواجهة مباشرة يحاكمها أو يقبلها من الواقع الذي تمارس فيه الصراع أو المخاتلة أو محاولة النهوض, وذلك بالحوار الذي اختصر السرد سواء كان مع الذات أو الآخر.

          2 - إنّ توزيع الرواية إلى فصول - مشاهد بحسب كلّ شخصية يتيح فرصة رؤيتها بتركيز إضافة إلى أن استرجاع المشاهد المكررة أعطى إمكانية البوح بالهواجس والمطامع فتعرّت الرغبات وخفايا النفس على نحو قريب - حقيقي وليس وصفًا من السارد الخارجي.

          3 - إن هذه المشاهد - اللقطات المختلفة بتعدد الشخصيات كوّنت مجموعة من المرايا استطاعت أن تتقصى الملامح من الجهات كلها, ولم يعد الخداع قادرًا على التضليل, ولعل هذا يلائم حالة الاضطراب وتقلّب الوجوه والانتماءات في تلك الحقبة الروائية - التاريخية.

سيناريو الملف 67

          تبدو رواية (ملفّ الحادثة 67) تجربة متقدمة في صياغة درامية سينمائية بعد (الضفاف..) فقد تمّ تقطيع العمل الذي بلغ 125 صفحة إلى 30 مشهدًا يسبق كلاً منها موجز في كلمات يحدّد معالمها: (الزمان, الآن, المكان: غرفة تحقيق مع المحقّق الأولّ, الحالة: استجواب)/ (المكان: صالة واسعة مع الكلب, الحالة: على حافة الهذيان), وناب الحوار عن السرد في كلّ المشاهد.

          إنّ العمل يصلح لفيلم بوليسي محفوف بالرعب والعذاب, ويمكن لمسرح حديث تقديمه بأساليب متطورة تتجاوز المشاهد على الخشبة أو يستعان بشاشة جانبية, فالمتهم بقتل رجل في الليل يوضع في حالة يائسة, فالأدلة الظاهرة تدينه والمحقق الجنائي يستخدم براعته وفراسته في تحديد القاتل, ولا سبيل إلى توضيح ملابسات الحادثة التي تفسح مجالاً لاحتمالات مغايرة أو بحث عن متهم آخر.

          إنّ هذا الخبّاز يصادف في طريقه إلى الفرن من يطلب نجدة فيهرع إليه ويكتشف أنه تعرض لاعتداء بخنجر وقبل إسعافه يموت وتباغت الموقع دورية الشرطة وهكذا تتلبس الجريمة الخباز فهو يحمل آثارًا من القتيل وكان يركض قرب الموقع.

          إن المكان الأساسي لا يغادر غرف التحقيق والتوقيف والسجن إلا مرّات محدودة في سيارة الشرطة إذ ينقل المتهم, والحوار لا يتجاوز المحقّق أو الشرطي, وبهذا تنقل الرواية أجواء الحصار المادي والنفسي, ويبدو الصراع محسومًا عندما تضيع كلمات الخبّاز وهي تشرح سيرها في الليل وما كان من محاولة العون والإسعاف, ويبدو المحقّق واثقًا من خبرته الجنائية في أمثال هذه الجريمة.

          إن الخطأ التراجيدي المعاصر الذي وقع فيه الخبّاز هو نجدته واقترابه من مسرح الجريمة خاصّة بعد أن اتضح أن المتهم والقتيل فلسطينيان مما يرجح علاقة ما بينهما, وبعد سلسلة طويلة من التحقيق الذي أنهكه يقرّ بجريمة لم يقترفها وهنا يتوصل فريق آخر من المحققين إلى القاتل الحقيقي.

          يلجأ إسماعيل إلى اللقطات الاسترجاعية لنرى الحادثة كما هي في الحقيقة بعين الخبّاز, ويعود كذلك إلى طفولته الشقيّة في مخيم اللاجئين ووكالة الغوث, وتتوالى الحياة البسيطة التي قنع بها, زوجة وأولاد وعمل يبدأ في الثانية صباحًا وبهذا يتجلّى البعد الإنساني لهذا المتهم, وقد جمعت الرواية التناقض بين القهر وكابوسية المشهد والحلم, وتطورت اللقطات إلى التوازي الذي يجمع في اللقطة الواحدة مشهدين أو شخصيات في مواقف مختلفة.

          ربّما كان هذا العمل الروائي استجابة لرغبة إسماعيل القديمة والتي لازمته وهي أن ينجز عملاً فنيًا يلتقي بالناس مباشرة بلا وسيط - سارد, فهم يتابعون الحوار والوجوه ويجدون أنفسهم محاصرين معها, ثم تأتي النهاية مباغتة بكوميديا سوداء فالمحقّق يتّهم الخباز بأنه اعترف كذبًا!

          إنّ آثار مرحلة معهد الفنون المسرحية واضحة في هذه الرواية فهي حالة متطورة لما سبق تناوله في مسرحية (النّص) إضافة إلى قضية جوهرية حملها إسماعيل من تجربة ونّوس الفكرية والفنية وهي الطموح إلى الكلمة الفعل:

          1 - إن الشخصية الرئيسية هي ذاك الكاتب والصحفي الذي يتمسك بالمبادئ العادلة ويدافع عن الإنسان ولكنه في هذه الرواية الجديدة يهادن ويبدي مرونة تتيح له الاستمتاع بالرفاهية والصلات المزيّفة على المستوى الإنساني والعاطفي وفي أطر السياسة والعمل وإن يكن يعاني التناقض الداخلي.

          2 - تعاود الرواية مناقشة قضية الملاّك العقاريين وتطلعات الاستثمار الجائر ولا يخفى تنامي مشاريعهم وشراسة الصراع على المكاسب.

          3 - تطرح الرواية قضايا الفن التمثيلي ولكن في المسلسلات والتلفزة وتشير إلى اضطراب المعايير والعلاقات, وكأنما يتحوّل ممثل (النّص) إلى مخرج اتسعت أعماله ونفوذه من غير رسالة يحملها.

          إنّ الرواية حصرت المكان بالقاعة الذهبية حيث يقام حفل غنائي لمطرب مشهور, وحدّدت الزمان بساعات السهرة, واستندت إلى الحوار أرضية أساسيّة لها, وشكّلت المشاهد في ست لوحات كبرى, ولجأت إلى اللقطات التي توزّعت على: اللقطات العامة والبعيدة (البانورامية), واللقطات القريبة التفصيلية, واللقطات المتوازية والمتنقّلة بين حضور الحفل الموسيقي, وثمة لقطات استرجاعية أعادت الأديب إلى زمن آخر وأنماط مغايرة لما عليه الناس في ترفهم وسطحيّتهم وقيمهم المادية.

          استفاد إسماعيل من الحيّز المحدود للمسرح ومن الحوار ليضع أمامنا التناقضات التي تحفل بها الحياة المعاصرة, وعبّرت اللقطات عن تسارع الإيقاع والتشابك والتناظر.

إضاءة مسرح مظلم

          إن البعد الدرامي الأوّل في رواية (يحدث أمس) هو السرداب المظلم الذي سجن فيه ثلاثة عراقيين يجسدون شرائح من الشعب قبل ثورة تموز (يوليو) 1958 وبعدها وهكذا رتّب المؤلف خشبة المسرح, فلم يشاركهم أي سجين آخر المكان فيما يزيد على السنة وذلك في مطلع الستينيات من القرن العشرين.

          ورغم أن كلاً من سليمان وهادي وحاكم يستحضر المشاهد الماضية فقد ظل المسرح مهيمنًا, فلم نرَ حكاية متكاملة لكل واحد منهم يمكن فصلها, وإنما تقاطعت هذه المشاهد موزّعة مما أتاح التعليق عليها فغدت مشتركة, ووضعت في إطار تجربة الأمة, وبرهن هذا اللقاء على ضرورة الاستفادة من القواسم المشتركة بعيدًا عن التفكك الناتج عن الصراع على السلطة وبث الفرقة بين أبناء الشعب.

          أما البعد الدرامي الآخر فهو الحوار الذي غلب ونقل الوقائع حيّة مع شخصياتها وجاء صلةً بين ثلاثة تباينت مستوياتهم في الخارج لكن المصير وترقّبه وحّدهم وتضاءلت مساحة السرد.

          وثمة بعد درامي هو تراجيدية هذه الشخصيات فكلُّ ارتكب خطأ فادحًا متجاوزًا النبوءة - الإنذار فجاء سقوطه فاجعًا. إنّ هادي جواد يتورّط بتهريب مجموعة إيرانية تهدّد أمن البلاد بعد أن نجا مرّات من خفر الحدود علي طرفي شطّ العرب, فكانت المغامرة الأخيرة والقاضية, وحاكم سلطان باع أسلحة حرس الثورة وكانت في طريقها إلى المتمردين الأكراد بعد أن لقي التكريم إثر ثورة 1958 وهو الذي انغمس في الفساد واللهو سنوات, أما سليمان يوسف فقد أخطأ مرتين: الأولى عندما لم يستجب لتحذير البيك صاحب الشركة التي يعمل مديرًا لها بالكويت وعاد إلى العراق ليتحوّل سجينًا في سرداب الإدارة العامة لأمن البصرة, وحين كتبت له - بجهود البيك ونجوى - النجاة من السجن سلك الطريق ذاته إلى قريته حيث استقبلته فوّهات اعتقال جديد!

          قد لا يكون من الإنصاف لعمل إبداعي تناوله نقديًا بقدر من الإيجاز إلاّ أننا رغبنا في إحاطة أولى تدعو إلى قراءة هذه الروايات من الزاوية الدرامية ثم تفسير لمحات مقاربة في سائر القصص. وتبقى إشارة أخيرة إلى التغريب الذي أراده إ.ف إسماعيل بإدخال هذه المكوّنات الدراميّة في الروايات فهي تقطع الطريق على الاستسلام لإيقاع الحكاية نستمتع بها, وتقحم المتلقي في بؤرة الفعل, وبهذا يتجلّى التناظر بين إسماعيل وسعدالله ونّوس.

 

فايز الداية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إنتاج أدبي متنوع ولكن الرواية لها الانجاز الاكبر





إنتاج أدبي متنوع ولكن الرواية لها الانجاز الاكبر





إنتاج أدبي متنوع ولكن الرواية لها الانجاز الاكبر