فوزية الشويش.. ثالوث البحث عن الذّات

 فوزية الشويش.. ثالوث البحث عن الذّات
        

          إنها مؤلفة ذات اهتمامات متنوعة, فقد عُرفت كشاعرة ومسرحية وروائية, وفي كتاباتها المتنوعة تمتزج النصوص وتتشابك الأنواع الأدبية. 

          صدرت لفوزية الشويش ثلاث روايات متعاقبة (النواخذة - مزون / وردة الصحراء - حجر على حجر) وهي تلفت انتباه الباحث لما يربط بينها من ظواهر فنية متنوعة ودلالة فكرية وثقافية, فهي لا تمثل ثلاثية بالمعنى الاصطلاحي المعروف إذ لا تترابط أحداثها وتختلف الشخصيات من رواية إلى أخرى ولكنها - مع ذلك - تمثل ثالوثا روائيا محكم البناء تحكمه رؤية فنية واحدة ودلالة فكريّة وثقافية موحدة.

          ما يجمع بين هذه الروايات الثلاث بناؤها المقطعي, فهي - جميعا - تقوم على عدد مهم من المقاطع المستقلة وهي أشبه بالمشاهد المسرحية أو اللقطات السينمائية منها بالمقاطع السردية التقليدية, فالحكاية تترابط مشهديًا أكثر من ترابطها سرديا, وتنمو الأحداث وتتقدم في الزمن عبر المشاهد واللقطات, ذلك أن السارد في هذه الروايات يحدد لنفسه ضربا من التباعد يسمح له بمحاكاة عين الكاميرا أو وقوف المخرج المسرحي وراء الستار, يحرك الأحداث أو يرسم المشهد دون أن يكون طرفا فيه وبحيادية تامة تمنح المشهد حضورًا متميزًا في السرد.

          تقوم رواية (النواخذة) على أربعة فصول هي بمنزلة المقاطع الأربعة الكبرى التي تشد الوظائف السردية الرئيسية التي تستند إليها الحكاية. في المقطع السردي الأول يعرض السارد صورة عن حياة الجدّ الأول (إبراهيم العود) تنتهي بتعرضه لهجوم القراصنة في عرض البحر. وفي المقطع الثاني يقدم السارد الشخصية الثانية (جنة) وهي الفتاة التي اشتراها إبراهيم العود ربّان السفينة وقد عاد إلى البحر ليسترجع نفوذه المالي والاجتماعي ولكن الأَمَة تصبح أم ولَدٍ وعندئذ تتحول إلى الزّوجة الحبيبة سيدة البيت - أم عبدالله - وفي المقطع الثالث يموت الجدّ الكبير بعدما عين خليفته من نسله وهو أحد حفيديه (شاهين) وبموته ينتهي عهد وينبثق عهد جديد. يموت النوخذة العظيم حاملا معه موت عصر انتهى بقوانينه, وأعرافه, وتقاليده ونكهته. يُدفن معه الرق والقرصنة, ليبزع على المدينة فجر جديد, وفي الفصل الأخير يعرض السارد ملامح هذا العصر الجديد عندما يتخذ الأخوان: شاهين وسلطان سبيلين مختلفين, يظل الأول نوخذة, يركب البحر بين الهند, وبلاد الخليج وسواحل إفريقيا يتعاطى تجارته, في حين ينخرط الثاني في مشاريع جديدة هيأتها صناعة البترول وفتحت المدينة لتستنشق رائحة الحداثة التي تحملها رياح الحضور الغربي. إن هذه المقاطع الكبرى أو الفصول الأربعة: النواخذة وجسد الملح - النواخذة وجسد الرق, النواخذة وجسد الصحراء, النواخذة وجسد السفينة توزّع الحكاية وفق مجموعة من التيمات (تيمة البحر, تيمة الرق, تيمة الصحراء, تيمة المدينة بمعانيها المختلفة), وهي تيمات تشخّص مراحل التحول التي مرّت بها مدينة الكويت عبر تاريخها الطويل من مدينة بدائية انبثقت بين الصحراء والبحر تتحكم فيها قيم القبيلة وتقاليدها الموروثة إلى مدينة عصرية تواجه تحديات الحداثة والمعاصرة.

          بيد أن هذه المقاطع لا تترابط ترابطا سرديا تقليديا, فالسارد لا يهيئ لانتقاله من سرده لقصة (إبراهيم العود), وما ألمّ به في نهاية المقطع السردي الرئيسي (النواخذة وجسد الملح) إلى سرد قصة هذه الفتاة الإفريقية التي ستدخل حياة إبراهيم العود في نهاية المطاف ويجب أن ننظر نهاية المقطع العاشر حتى ندرك وظيفة هذه الشخصية في الحكاية وعلاقتها بإبراهيم العود. فالسارد بسبب هذا البناء المشهدي يباعد بين الوظائف السردية على غير عادة السرد الروائي الذي يلتجئ في مثل هذه الحالة إلى تقنية الاسترجاع, وعندما تدخل شخصية جديدة مجرى الأحداث تبدأ المؤلفة في سرد حياتها بصفة مستقلة إلى أن تصل نقطة التماس التي تصلها بالشخصية الأخرى.

وردة الصحراء

          وتكاد لا تختلف الرواية الثانية (مُزون) وردة الصحراء عن هذه الرواية من حيث بناؤها المقطعي, فقوام الرواية أربعة فصول أو مقاطع كبرى هي باب الميلاد وباب الحب وباب المعرفة وباب الموت. في المقطع الأول يروي السارد قصة الميلاد, وهي قصة ثلاث نساء يمثلن ثلاثة أجيال وهنّ الجدّة والأم والحفيدة.

          إن ما تتميّز به هذه الرواية عندما نقارنها بالرواية الأولى وأسلوب توزيع هذه المقاطع, أنها تترابط فيما بينها ترابطا موضوعيًا وعناوين المقاطع الكبرى تعلن عن المواضيع التي تدرج المؤلفة في إطارها مقاطعها السردية المختلفة وهي مواضيع الميلاد والحب والمعرفة والموت, وبالتالي تنتهك المؤلفة التتابع الزمني الذي تفرضه القصة وتبني حكايتها وفق مجموعة من المواضيع تسرد فيها الشخصيات النسائية الثلاث, وهو ما يتيح تنشيط الزمن السردي. فالأحداث عندما تروى لا تتتابع في الزمن ولا يتبع سرد الأحداث سيرا خطيا واضحا, بل تقوم الرواية على مجموعة من الاسترجاعات الداخلية تتلاعب المؤلفة في إطارها, بالزمن تلاعبا واضحا. يتم خلاله إدراج الحكاية ضمن وظيفتين سرديتين تترابطان ترابطا منطقيا هما وظيفتا البداية والنهاية أي ولادة زوينة في بداية الرواية وموتها في نهايتها. فإن بقية الوظائف لا تخضع للترتيب الزمني. فالسرد وهو يتقدم يترك ثغرات أو ثقوبا سردية تتولى الأصوات السردية ملأها وتأثيثها عن طريق الاسترجاع, وإذا كان كسر الزمن من أبرز سمات الرواية الحديثة فإن طرافة هذه الرواية تتمثل في الأسلوب الذي تتوخاه لتحقيق هذا الهدف وهو أسلوب توزيع التقاطعات السردية حسب المواضيع, ففي إطار موضوع الميلاد يروي السرد ولادة زيانة (الأم) وولادة مزون (البنت) وإجهاض مزون بعد زواجها, وهي وظائف سردية تتصل بأزمنة مختلفة, ولكنها تتصل بالموضوع ذاته.

حجر على حجر

          في الرواية الثالثة تُجري المؤلفة تعديلا طفيفا على نظامها المقطعي, فالرواية (حجر على حجر) تقوم على أربعة مقاطع رئيسية شأن الروايتين السابقتين, لكنها موزعة هذه المرة توزيعا فضائيا إذ تدرج الوظائف السردية في كل مقطع من هذه المقاطع ضمن إطار مكاني محدد. فالمقطع الأول (الحجر الأول) عنوانه (غرناطة) وهو يحوي مقطعين ثانويين هما( إسدال سدل المسرة) و(هالة لن تضيع) والمقطعان يرويان حكايتين مختلفتين, فالمقطع الأول (إسدال سدل المسرّة) يروي حكاية اليهودية (راشيل اسحاق شلومو) ابنة اليهودي (حيات جبريال بن زكاي) التي قرّرت الهجرة من الأندلس إلى اليمن على إثر سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر. والمقطع الثانوي الثاني (هالة لن تضيع) يروي حكاية الأم موضي, وهو في الحقيقة يوميات كتبتها موضي في زمن مغاير, وهو عام 1980 (11 مايو - 13 مايو - 14 مايو - 15 مايو) - ولكن الفضاء أو الإطار المكاني - غرناطة - هو الذي يجمع بين الحكايتين. في كل مقطع من هذين المقطعين السرديين تتعدد الأصوات السردية, يبدأ المقطع الأول بصوت السارد (هذا الكائن الورقي) (من أين الفراق? وإلى أين يذهب? إنه حركة, حركة الفراغ في الفراغ,  لكنه سرعان ما يختفي لينبثق صوت الأب وهو ينادي ابنته (راشيل): هيا أسرعي, الشمس أوشكت على المغيب. لكنه يختفي بدوره ليظهر صوت راشيل التي تتسرع في رواية قصتها. ويروي المقطع الثانوي الثاني (هالة لن تضيع) صوتان هما صوت البنت نورا التي تقدم اليوميات التي كتبتها أمها (من يقرأ أوراق ماما يحلّق في سماء وردية, يشعر أنه عاشق وإن لم يجرب الحب, رومانسية حارة تقطر من حروفها), ثم ينطفئ هذا الضوء ليترك المجال لصوت الأم موضي من خلال يومياتها المؤرخة تروي تجربتها الأندلسية (1 مايو 1980 القصر الأحمر غرناطة) على وقع خطواتنا المسموع فوق المرمر الأبيض سرنا متحاضنين بين فتنة المكان واشتعال الرغبة, نتوارى بين أعمدة الرخام الرشيقة الحاملة سقف البلاط كسماء عالية. (ص32).

          أما عنوان المقطع الثاني فهو الهند وهو يتضمن بدوره مقطعين ثانويين هما: (وداع لسحب محايدة) و(ذاكرة ترشح بالعفن) من هذين المقطعين يعود السرد إلى حكاية اليهودية راشيل التي كان قد بدأها في المقطع السردي الأول, فتحت عنوان (وداع لسحب محايدة) تروى قصة راشيل وقد أقامت في الهند مع عائلة هندوسية بعدما أفلتت من القراصنة البرتغاليين الذين أغرقوا السفينة العربية التي كانت ستقلها إلى اليمن, وتحت عنوان (ذاكرة ترشح بالعفن) تروي قصتها مع النجار اليمني (ميهرحب بن هام), الذي امتطت سفينته لتواصل رحلتها إلى اليمن. كانت راشيل واحدة من اليهود الذين غادروا لتصل إلى الهند في الوقت ذاته الذي غادرت فيه سفينة (ميهرحب بن هام) عدن إلى كالكوت في الوقت الذي دمر فيه البرتغاليون المركب العربي. ولولا ضربة من الحظ لكانت سفينته الآن في قاع المحيط الهندي غارقة, فأحيانًا سوء الحظ هو نفسه طالع للسعد (ص84). يروي المقطع الأول صوت (سردين) واحد هو صوت راشيل. وتترك صوتان سرديان في رواية المقطع الثاني.

          يظهر السارد في البداية ليقدم بعض المعلومات التاريخية, القرن الخامس عشر, مفصل مهم لكل التحولات التي أتت فيما بعد, بدأ بأهم أحداثه وهو سقوط آخر معاقل دولة الأندلس العربية, غرناطة واستسلامها في سنة 1492, وبدء تأسيس إمبراطوريات الرياح الموسمية التي سيطرت على إفريقيا والساحل الهندي, وحوّلت جميع تلك الدول إلى مستعمرات لها, (ص83). ثم يختفي ليظهر صوت راشيل من جديد لتروي مغامرتها العاطفية مع النجار صاحب المركب (ومع ذلك اهتزت وجاءت تلك الرجة كأنها منام أوغل بجسدي, رغم النأي والباب الموصد, سمعت طلقة الإصابة, رجة القلب واضطراب البدن) (ص97), ويعود صوت السارد في نهاية المقطع ليروي موقف البحار من اليهودية العاشقة (سار خلف امرأة تلتف بالظلام وتتوخى الحذر, ظنها في أول الأمر وهما أو خيالا), وتبين أنها امرأة تتسلل من السفينة بخفة ورشاقة نمر هندي)(ص103).

          كذلك يقدم المقطع الثالث وعنوانه (الكويت) على مقطعين من الدرجة الثانية وهما فصل يستدعي الدموع ويتناوبه صوتان لروايته هما صوت البنت نورا وصوت الأم موضي, تروي الأم الأحداث التي عاشتها وتعلق البنت على هذه الأحداث وما أثارتها في نفسها (لم أغفر لها أبدا انفصالها عن أبي, رغم المبررات كلها, ورغم معرفتي بالخيانة, لكن لم يكن لدي قدرة على المسامحة, كان بإمكانها الغفران)(ص111). كذا الشأن بالنسبة إلى المقطع الموالي (خيشة دود) إذ يرويه صوتان سرديان هما صوتا البنت والأم, تروي البنت حكاية العم جوري, وتعود الأم لتروي التفاصيل المتعلقة بطلاقها, ولكن الأحداث كلها في هذا المقطع الرئيسي تجري في الكويت.

          والمقطع الأخير يحمل عنوان (اليمن) وكل أحداثه التي تروي علاقة (اليمن) وقوامه بدوره مقطعان ثانويان هما في (أصبحت كل المسافات كاذبة) و(الامتداد في الظلمة والعتم) وسينهي المقطع الأول حكاية اليهودية راشيل التي أنهت رحلتها البحرية وارتبط مصير إقامتها في اليمن بمصير البحار اليمني, ويصل المقطع الثاني حكاية اليهودية بحكاية موضي وابنتها, إذ تكتشف الكاتبة الكويتية جذورها اليمنية وجذور سلالتها العريقة المتصلة بمغامرة البحار اليمني مع هذ اليهودية المهاجرة من غرناطة وأندلس العرب وتصل بين هذه المقاطع الرئيسية الأربعة, أربعة مقاطع شعرية قصيرة, يقفل المقطع منها المقطع السردي الرئيسي, وينفتح على مقطع جديد وهي حجر للنسب وحجر للزمار وحجر للألم وحجر للوجع.

          بيد أن هذه الرواية تتميز بحضور السارد الأول أو السارد من الدرجة الأولى الذي يربط بين بعض النقاط السردية أو يهيئ لظهور الصوت السردي وقد يؤدي وظيفة التمهيد هذه الصوت السردي نفسه, شأن القطع السردية التي ترويها (نورا) التي تسعى في غالب الأحيان إلى الإعداد لظهور صوت أمها موضي.

النواخذة

          في رواية (النواخذة) تروي المؤلفة قصة عائلة كويتية (قصة ثلاثة أجيال متتابعة من عصر الرق وخطف العبيد والإماء من غابات إفريقيا وبيعهم في أسواق النخاسة إلى عصر انبثاق البترول. لكنها هنا نخاسة (شاعرية) مموهة بعبارات (مذهبة) أي مجمّلة محلاة بعذوبة النوستالجيا وشجن أشواق الحلم بنوع من أنواع (اليوطوبيا).

          وفي الحقيقة لا تقدم المؤلفة أي إشارة زمنية دقيقة تؤرخ لهذه العائلة الكبيرة ولكنها تحصر مدينة الكويت بين عصرين كبيرين هما عصر قديم - عصر الرق والعبودية, حيث كانت الكائنات البشرية (تصطاد) في أدغال إفريقيا, ثم تباع في أسواق النخاسة بين الهند وبلاد الخليج العربي - وعصر حديث انبثق فيه البترول وحوّل الحياة تحويلا كليا, وأخرج المدينة من ذاتها لتنفتح على العالم.

          بين هذين العصرين عاشت عائلة إبراهيم العود شيخ النواخذة وربّان الربابنة, وعماد المدينة, جده العظيم - رحمه الله بواسع رحمه - شيخ النواخذة وقبطان أعالي البحار, المدرك, المتبخر, الفذّ والجبّار صلب ومهيمن) (ص296).

          ومن خلالها تؤرخ المؤلفة كسلالة من السلالات امتدت بين نهاية القرن التاسع عشر, والنصف الثاني من القرن العشرين. إنها ثلاثة أجيال متعاقبة (جيل الجد الأكبر وجيل الأبناء وجيل الأحفاد). تبدأ رحلة هذه السلالة بتشخيص حياة رئيس هذه العائلة الكبيرة إبراهيم العود الذي تقدمه المؤلفة وهو يمارس عنفوانه وجبروته ربّانا لسفينته الكبيرة ويجوب البحر بين أرض الخليج وبلاد الهند وسواحل إفريقيا السوداء, فهو شيخ النواخذة مالك البحر وأعناق البحارة, صاحب العمارة وأجود الأخشاب. لو زجر البحر لخاف منه وجفت أمواجه)(ص48) وهو بالرغم مما يلحق به البحر أحيانا من أذى فإنه قادر على استرجاع أنفاسه والعودة إلى مسرح الحياة قويا, فقد تعرض لهجوم القراصنة الذين ألحقوا ضررا بسفينته الكبيرة وبممتلكاته (مات الكثيرون (قتلا وغرقا وحرقا خسرت مالك, خسرت اسمك, خسرت ابنك... الآن يا (إبراهيم العود) آن لك أن ترتاح, ارتكزت المصيبة على ساقها الثالثة وعن كتفك حلت, يا (إبراهيم العود) آن لك أن ترتاح يا إبراهيم العود, إنا وضعنا عندك وزرك (ص94). ولكنه مع ذلك عاد إلى البحر ليبسط نفوذه ويشتري بحرّ ماله (رحِما) يزرع فيه بذرة سلالته وتتقدم السفينة بهدوء ترود الموج, تتحسس طريقها تقيس وتقتحم أعماق البحر, تروض الجسد الوحشي الجاهل, والأرض التي لم تطأها قدم, تمتلك السفينة البحر, تروضه, تحكمه وتدجنه, ثم تطلقه حرّا ومأسورا ويبقى النواخذة ملك البحر وسيده, قبطان أعالي البحار وبيده قبضته (ص155), إنه فعل يقترن بالخصوبة تطوره الكاتبة على سبيل الاستعارة. وهكذا يظل إبراهيم العود رمزا لهذا الجيل الذي يتمتع بالقوة والفعل ولكنه جيل يرث عهد الرق والعبودية والتقاليد المنغلقة التي تتحكم في مصائر الأفراد وتنفي الحرية الفردية وتكرس مجتمع الذكورة, فلا يحق للمرأة أن تحب وأن تختار. ولقد اضطهد إبراهيم العود ابنته (هيّا) لأنها أحبت واختارت (وحدي خارج المعنى, لا حيّة مع الأحياء, ولا ميتة مع الميتين, ألتصق بالجدران, أرتجف خوفا, من رأسي لقدمي, تهزّني رعدة, ألتزق بالجدار, رعب يزلزلني, عرقي), بيد أن السلالة ستخضع لحكم التاريخ وقانون التعديل الجيني. فعندما جاء عبدالله ثمرة لتعالق ثقافتين وقارتين وولدا لإبراهيم العود وفلسفته الاجتماعية, إنه جيل جديد يؤمن بالحب وحرية الاختيار ويمنح المرأة موقعا جديدا لم تكن تحتله من قبل. فقد تزوّج عبدالله الفتاة البدوية التي أحبها وقد خرجت على ناموس القبيلة وتسرعّت لسلطان الحب, ولكن هذا الزواج الذي قام على الحب وحرية الاختيار سيثمر جيلا جديدا يحمل معالم التواصل والتجاوز, لقد أنجبت (نافية) توأمين هما شاهين وسلطان, سيرث الأول حياة جدّه الذي علمه حياة البحر وسيصبح نوخذة يحمل تقاليد العائلة, وسيندفع الثاني في حياة جديدة تقوم على المغامرة والانفتاح على الحياة العصرية في عصر البترول ومشروعاته الجديدة (برغم أننا توأم) ومن بطن واحدة, إلا أن نظرتنا للأمور تماما مختلفة, كل عشقه موجّه للبحر وعشقي للمدينة, حيويتك وطاقتك موجهة له, وحيويتي وطاقتي موجهة لها, أنا وأنت نصنع الحياة بشكل مخلتف, لا تظن أو تعتقد مثلهم أن أفكاري بلا فائدة, وقيمة كل ما في الأمر, إني شايف أبعد منكم, ولا تفتكر أني تخليت عن فكرة مصنع الصابون أو المطبعة والجريدة, ولا تحسب أن مشروع الاسمنت بار وكد, ولكن لكل شيء أوانا)(ص315)

          وكذلك الشأن في رواية (مزون) فقد بنت المؤلفة شخصياتها بناء ثلاثيا: زيانة, زوينة ومزون, إنهن ثلاث نساء تشخصن ثلاثة أجيال: الجدة والأم والحفيدة, يواصلن بدورهن الثلاثة, وكما حدث في الرواية الأولى خضع السلالة - في هذه الرواية - إلى التعديل الجيني.

          وفي رواية (حجر على حجر) يتحول السّرد إلى ضرب من البحث في السلالة والسعي إلى تعقّب حلقات السلسلة عبر التاريخ, فالكاتبة الكويتية (موضي) تشعر أنها في لحظة من لحظات حياتها, وقد خانها الزوج الذي أحبته في حاجة إلى البحث عن ذاتها, وهذا البحث عن الذات لا يتحقق إلا بالبحث عن الحلقة المفقودة في سلسلة السلالة, وعندما تسافر إلى اليمن تدرك أنها حفيدة تلك اليهودية الجميلة (راشيل) التي استوطنت اليمن برائحتها الأندلسية في القرن الخامس عشر الميلادي. وعندئذ تستكمل سلسلة حلقاتها الثلاث راشيل - موضي - نورا - وتتجسد في تلك الصورة التي انتقلت عبر التاريخ من الجدّة البعيدة إلى الأم فالبنت. (241)

          يتضح لنا إذن من خلال هذا التحليل أننا مع فوزية شويش السالم إزاء ثالوث روائي وداخل هذا الثالوث, إزاء ثلاثة أصوات سرديّة, وهي في حقيقة الأمر صدى لثلاثة أصوات جيلية تمثل بدورها ثلاث حلقات في سلسلة السلالة. وهذا يعني أن لهذا الثالوث الروائي خطابه الفكري الذي يمكن أن نختزله, في هذه النزعة الإنسانية العميقة التي تجسد رؤية المؤلفة للوجود. فهي تعتقد أن السلالة البشرية هجينة منفتحة على كل الأجناس البشرية وكل الطوائف والثقافات, وأن العالم قرية صغيرة تختلط فيه العناصر وتتلاقح وتمتد إلى كل الاتجاهات وإن الاختلافات الثقافية محدودة الأثر ولا تحول دون اللقاءات الإنسانية العميقة (عبقرية السلالة اجتازت القارات والبحار رغم صعوبة الانتقال, (إن السلالة استطاعت أن تمتد وتنتشر/ سلالات قاربت ومزجت كل الأجناس مع بعضها البعض بحيث يستحيل أن نجد اليوم جنسًا نقيًا, وعندئذ يطرح هذا السؤال: ألا تندرج هذه الأعمال الروائية في إطار ثقافة (العولمة) التي نرى تجلياتها في مجالات مختلفة اقتصادية وسياسية واجتماعية, فالدنيا كما ترى المؤلفة (على اتساعها صغيرة) ولا فضل لثقافة على أخرى, وتضرب المؤلفة على ذلك مثلا يتعلق بهذا التشابه في الموسيقى والفن المعماري بين اليمن وبربر المغرب العربي (وهو ما أكده الأستاذ فون هورن بوستل بأنه مستمد من الموسيقى المنغولية).

          ومع ذلك, فإن أهمية هذه الأعمال الروائية الي تكتبها فوزية شويش تبدو لنا في نزعتها التجريبية الواضحة, فهي لا تنفك تبحث عن دربها الخاص في الكتابة أعلنته في نصها الروائي عندما قالت على لسان إحدى شخصياتها: (العمل الإبداعي يسير وفق الأساليب المسبوقة, إنه يعتمد على الإحالة والابتكار لتصل إلى النجاح) عمل سوف يمضغني كل ساعة وكل دقيقة لأجل أن يفتح لي طريق التميّز والصعود), وجسدت ذلك إلى حد بعيد فيما أصدرت إلى حدّ الآن من أعمال إبداعية.

 

محمد الباردي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات