راهن اللغة العربية في أوطانها «حكاية غنيمة الحرب»

راهن اللغة العربية في أوطانها «حكاية غنيمة الحرب»

يتردد في بلادنا، عند الحديث عن اللغة الفرنسية، تعبيرٌ يصفها بأنها «غنيمة حرب»، والمقصود هو (Butin De Guerre، وليس Putain De Guerre، لطفًا) وهو ما يعيد إلى الذاكرة أيامًا، أو على الأصح قرونًا خلت، كان المُقاتل فيها يخوض غمار حرب شرسة، فإذا ظفر فإنه يعود بغنائم ربما كان من بينها سبيّةً يجعل منها محظيّة أو خليلة إذا كانت شابة وجميلة ومتألقة، أو يكلفها بمهام الخادمة أو ما دون ذلك، إذا كانت غير ذلك.

عندنا نعيش العجب العُجاب، فالسبيّة، التي لم تكن «بريجيت باردو» أمس ولا «نانسي عجرم» اليوم، استولت على عقل مالكها وخلبت لبّه، فسلمها لحيته وأسلم لها قيادَه، ولأنها لم تكن تؤمن بالتعددية وكانت ترفض المساواة فقد طردت زوجه وأبناءه، وجاءت بأهلها فأسكنتهم المنزل وسلمتهم مفاتيحه، وأرغمت بعلها «الجايح» على أن يكتب كل أملاكه باسمها، وتعطفت عليه في نهاية الأمر فخصصت له غرفة مهجورة يلفظ فيها أنفاسهُ الأخيرة، وراحت تقضي نهارها هائمة ومساءها راقصة وليلها عاشقة لأي عابر سرير.

وهكذا سادت في بلادنا لغة «سانت آرنو وبيجار ولاكوست»، التي كان مولود قاسم رحمه الله يردد أنها أصبحت لغة متخلفة، مقارنة باللغات الأخرى كالإنجليزية، وهي اليوم لغة العلم وأداة العلماء، والإسبانية التي تتحدث بها نحو ثلاث قارات، والصينية التي يتعامل بها خمس سكان العالم، والألمانية التي تشق طريقها نحو العالمية.

وبأموال الدولة، التي استعادت استقلالها بدماء ملايين الشهداء واسترجعت ثرواتها بتضحيات أجيال وأجيال، ازدهرت لغة الخادمات (Femmes De Ménage) والكونسييرجات (Concierges) وازدادت صفاقة من تحولوا من الفرانكفونية إلى الفرانكوفيلية ثم إلى «الفرانكومانيا» الممتزجة بالأرابوفوبيا والحساسية المرضية من كل ما تفوح منه رائحة العروبة والإسلام.

ونتيجة للتراخي المعيب لمن يعنيهم الأمر أو يجب أن يعنيهم الأمر، استطاع «التسونامي» الفرنسي إغراق معظم المجالات، خصوصًا مجالات الإعلام والثقافة، وأصاب المُحيط الاجتماعي والاقتصادي ومعالم العمران ومجالات البيئة بأسوأ مظاهر الاستلاب.

وأصبحت بلادنا فريسة للفرنسية السوقية (Registre Familier, Argotique Et Grossier) وأبعدها عن المستوى الرفيع (Registre Soutenu) وحتى عن اللهجة العادية (Registre Courant) ِللُغةٍ لعلها من أجمل لغات العالم، وسيطرت على التعاملات الاجتماعية فاحشة لغوية هجينة أفسدت اللغتين، ونددت بها القيادة العليا علًنا، ثم نسي الأمر كله في اليوم التالي.

تراجع التعريب

هذه هي وضعية «راهن اللغة العربية» في واحد من أهم بلدان الوطن العربي، وقد يكون هذا واقعها في سنوات مقبلة في بلدان أخرى عندما يشتد عود المهاجرين إليها، فتسود الأوردو ولغات البنغال والباشتون والهازارا, وتكون الكلمة الأخيرة لكل من يكتب من اليسار إلى اليمين وربما أيضا من أعلى إلى أسفل.

ولقد شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة تراجعًا رهيبًا في الوجود المُؤثر للّغة العربية، يكفي للتأكد منه متابعة الحصص القديمة التي تقدمها التلفزة الجزائرية من حين لآخر وتبرز بوضوح تقهقر اللغة العربية اليوم، وجودًا ونوعية وانتشارًا، مقارنة بالستينيات والسبعينيات وحتى بعض الثمانينيات، وتكفي للدلالة عليه أيضا جولة في الشوارع الرئيسية للعاصمة الجزائرية، حيث توسع استعمال اللغة الأجنبية على واجهات المحلات العامة وأصبح نوعًا من الفجور اللغوي، حتى تندّر البعض بأن محيط بعض الأحياء في بعض مدن بريطانيا وفرنسا قد يكون أكثر تعريبًا منه في العديد من أحياء عاصمتنا العربية.

وأعترف بأنني عندما تقدمت في بداية الألفية إلى مجلس وزراء الثقافة العرب باقتراح أن تكون الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007، كنت أتصور أن الاحتفالية التي ستدوم سنة كاملة، ستكون فرصة سانحة للقيام بتعريب المحيط تعريبا كاملاً، وحاولت قبل انطلاقة السنة بشهور طويلة أن ألفت النظر إلى التقصير الملحوظ في هذا المجال، ولكن صيحاتي ذهبت أدراج الرياح، وعشنا فضائح يندى لها الجبين، حتى بالنسبة لقوائم الطعام في معظم الفنادق التي تستقبل الضيوف في عاصمة الثقافة العربية.

ثم لاحظت طوال السنة، بكل مرارة، قلة عدد المسئولين، صغارًا وكبارًا وكبارًا جدًا، الذين اهتموا بمتابعة الحفلات الرسمية لتظاهرة ثقافية وطنية لا يعيشها جيل واحد غالبا أكثر من مرة واحدة طوال حياته المُثمرة, بالرغم من أن الدعوات كانت توزع بانتظام على جل القيادات، وقصر الثقافة كان مفتوح الأبواب على مصاريعها.

وطاشت آمال تعريب المُحيط، وأعطى أصحاب القرار في المواقع التنفيذية ظهرهم للقوانين المتعلقة بتعميم اللغة العربية، ولعلهم تصوروا أنهم بذلك ينسجمون مع إرادة مواقع عُلا، تملك لهم نفعًا كثيرًا وضُرّا أكثر.

القشور الخارجية والمضمون

وأتذكر هنا أن مسئولاً ساميًا، كنت أحاول دعوته للمساهمة في مجال تعريب المحيط، قال لي، باستعلاء واضح، إن هذا كله قشور خارجية وأن علينا أن نهتم بالجوهر والمضمون، مما جعلني أسأله متهكما، بوضوح لم أحاول إخفاءه، عمّن منعه من الاهتمام بالجوهر والمضمون، ومجال نشاطه المهني يعرف العجز الواضح في جل الممارسات.

ولم تتحرك الأحزاب والهيئات والمؤسسات المعنية لتفرض كلمتها التي تجسد إرادة جماهير تدعي أنها تمثلها، ولم نعرف مظاهرات مليونية هدد بها البعض يومًا لكي تفرض إرادة الشارع في استرجاع عنصر رئيسي من عناصر الهوية الوطنية، والقاعدة الرئيسية لأمن البلاد القومي، ولم يخرج بعض مثقفينا، ممن جعلوا العربية بضاعتهم، عن اجترار الكتابات الروتينية التي كانت، في معظمها، استعراضًا للعضلات اللغوية ومحاولة للاستفادة الشخصية، ولم تتحرك معظم صحفنا التي تكتب من اليمين إلى اليسار لتقرع أجراس التنبيه بشكل مؤثر ومتواصل ومُستنفر بل ومستفز، أما مُعظم الصحف الخصوصية المكتوبة من اليسار إلى اليمين فقد عتمت على جل عناصر التظاهرة، وأكّدت بذلك أن الأمر يتجاوز التراخي واللامبالاة والإهمال ليكون اختيارًا عقائديًا وفكريًا وسياسيًا.

من المسئول؟

إذا كنت توقفت طويلا عند تلك التفاصيل فلكي يتضح أن المسئول هو غياب الإرادة السياسية الجماعية ونقص الوعي القومي في جل المستويات، فالطبقة السياسية، سلطة ومعارضة، لم تدرك، كما لم يُدرك المجتمع المدني والنخبة المُثقفة، أن اللغة الوطنية، وبالإضافة إلى أنها هي خط الدفاع الأول في ميدان الأمن القومي لأي بلد كان، هي إسمنت الوحدة الوطنية التي تعطي لأي بلد قوته الحقيقية في مواجهة الآخر والتعامل معه بمنطق الندّية، والتمسك بها هو، في حد ذاته، تجسيد لهيبة الأمة وتعبير عن كرامتها ورمز لمكانتها ودعم لإرادتها عندما تتصارع الإرادات الدولية.

ولم يتوقف من بيدهم القرار التنفيذي عند الصور التي يقدمها دائما وزراء العالم المتقدم، بل غالبا المُتخلف، ومسئولوه في التعامل مع لغاتهم الوطنية، والذي وصل أحيانا إلى تجاوزات قد تكون محل مؤاخذة ديبلوماسية، ولكن نتائجها كانت دائما تقديرًا متزايدًا لمن يحرص على التعامل بلغته الوطنية ولا يتشدق بغيرها، خصوصا إذا لم يكن يتقنها.

ولا أنكر أن مأساة اللغة العربية، كلغة وطنية ورسمية، ليست احتكارًا للجزائر وحدها، بل إن أقطارًا عربية متعددة تعاني صورًا مختلفة من الاستهانة باللغة الوطنية، ويمكن القول إن العديد من عواصمنا تعيش تلوثا لغويا يأخذ أشكالا متعددة، فقد يكون خليطا هجينا يشبه «الشكشوكة» اللغوية التي تجترها جموعنا، ويستعملها، بكل أسف، أساتذة جامعيون بل سياسيون عبر البرامج المُتلفزة، وقد يكون تلوثا شبه كامل بلغة أجنبية يفرضه الخدم الوافدون على أطفال البلاد الذين يُكلفون برعايتهم في غياب الأم، وربما مع أشكال أخرى من التلوث الأخلاقي، وقد يكون غزوًا واضحا يتعرض له أبناؤنا في المدارس الأجنبية التي تسربت إلى العديد من الأقطار، وغالبا نتيجة لنشوء رأسماليات طفيلية، عبّر عنها توفيق الحكيم بأنها تمثل «انتفاخ الجيوب وفراغ العقول»، وهي فئات مُترفة إلى حد السفه، استغلت ثغرات التنمية الوطنية والكفاءة المحدودة للقائمين عليها كما استفادت من وضعية الإرهاب الإجرامي، ولا أعرف على وجه التحديد دورها في اندلاع ناره، وتحالفت مع مراكز نفوذ مستفيدة من المستنقع السياسي الذي ألقينا فيه أو انزلقنا إليه، لكي تفرض، بجهلها وجاهليتها، الثقافة التي تتناسب مع مستواها الفكري، حتى في مجال الفنون بكل أنواعها.

ولكيلا يبدو حديثي تلذذا بالبكاء على الأطلال، سأتوقف عند الأسباب التي وصلت بنا إلى هذا الوضع، لأن تقرير الواقع الذي يتلوه التشخيص الصحيح هو الطريق نحو العلاج الناجع.

وأتصور أن المرض الرئيسي الذي يعاني منه الوضع الثقافي العربي، فكرا ولغة وممارسة سيادية، هو تعدد مناهج التعليم في الوطن العربي بتأثير إقليمية مَرَضيّة تطلِق على العملية ألقاب مملكة في غير موضعها، فهي جزأرة وسعودة ولبننة وتونسة وما إلى ذلك.

شوفينية مناهج التعليم

وكان من المتوقع، على ضوء ما أفاء الله به على الوطن العربي من ثروات هائلة، أن ينعكس هذا على واقع التعليم والتكوين، فنجد تطورا في الكتب والبرامج الموجهة للكبار وللصغار على حد سواء، لتتمكن من اجتذاب القارئ بكل الوسائل التقنية التي وفرها التطور العلمي، ولكن المؤسف أن ما حدث هو تصاعد النزعة الشوفينية التي هيّجها الدخل المالي المُرتفع، ومتاجرة بعض رجال التعليم بالمعرفة، وبغض النظر عن نوعية المادة المُقدمة للمُتمدرس وشكلها وأسلوبها، مقارنة بما تقدمه اللغات الأخرى للباحثين عن التفوق فيها.

وأصبح لكل بلد كتبُه التعليمية الخاصة به، وكان معظمها، خصوصا في البلدان ذات الكثافة السكانية المرتفعة، إنجازات متخلفة لا تشجع الطالب على الدراسة ولا تحبب المواطن في القراءة، وإلى هذا يعود حجم كبير من السقوط الرهيب للتعليم، ثم للتربية.

ولتوضيح أبعاد الأمر أدعو لإلقاء نظرة سريعة على واقع الثقافة الفرنسية، لنجد أن المُتمدرس الفرنسي يتلقى المنهج نفسه في المدرسة نفسها ومن نفس الكتاب والأسلوب نفسه، سواء كان ذلك في باريس أو واغادوغو أو مونتريال أو سيدني أو نجامينا، وهكذا تنتج المدرسة الفرنسية مثقفين يتمتعون بالانسجام الكامل الذي يحقق وحدة الفكر، مع تعدد التفكير، وتوافق الرؤية بغض النظر عن اختلاف المنطلقات، كما يضمن النظرة الإستراتيجية الواحدة من دون تناقض مع الممارسات التاكتيكية المتغيرة، ليصبح الجميع جنودًا في جبهة «الفرانكفونية».

فعندما يرتبط الإنسان بلغة ما تصبح جزءا من حياته، لأنها تحدد الصحيفة التي يقرؤها وبرنامج التلفزة السياسي أو الثقافي الذي يُتابعه، وربما الفيلم السينمائي أو حتى الاستعراض الغنائي الذي ينسجم معه، وشيئا فشيئا تدفعه، من دون أن يشعر، إلى تبني نظرة معينة تقدم بتلك اللغة، قد تكون اجتماعية أو اقتصادية، وقد تصبح اتجاها سياسيا يحمل خلفيات نجحت مخابر مختصة في إعدادها ليشربها مُستهلك حسن النية خالي الذهن.

والقوم هناك لا يلعبون، وابتسامتهم يجب أن تذكرنا ببيت الشعر المشهور عن ابتسامة الليث، ومن هنا أشرت إلى أن اللغة من أهم عناصر الأمن القومي لأي شعب وأي أمة.

وسنفترض، جدلا، حدوث تناقض سياسي بين الجزائر وفرنسا، فإن من المنطقي أن من يرتبطون بالمصادر الإعلامية الفرنسية، سيكونون بعيدين، إلى حد كبير، عن تفهم المنطق الجزائري في التعامل مع الأمر، خصوصا في غياب مؤسسات وطنية تمدهم بالأساسي من المعلومات، وفي سيطرة إعلام وطني يخلط بين الخبر والتعليق، ولا يتابعه إلا العاجز عن متابعة القنوات الأجنبية أو الباحث عن أمر مُعين قد يكون ما ارتكبه هو من تحركات.

وهكذا تتحدد صياغة مواقف أولئك تجاه بلادهم أو تتأثر بعض جوانبها.

تبادل الاتهامات

وهنا يأتي سبب آخر في حدوث الخلل الذي أصاب وضعية اللغة العربية، وهو ما ابتليت به مسيرة الفكر القومي العربي نتيجة لسلسلة الأخطاء والعثرات التي أصابت المشروع القومي العربي، والذي تأثر في بداياته بما سُمي ثورة عربية كبرى، وهي عملية مخابراتية بريطانية كلف بها «لورنس» في مطلع القرن الماضي للإجهاز على الإمبراطورية العثمانية، وفتح الطريق أمام الجنرال «ألِنبي» لدخول القدس، واستكمال تحقيق وعد «بلفور».

وهكذا أخذ تعبير الفكر القومي مع نهايات القرن الماضي معنى قدحيا، أو أعطيَ ذلك، وهو ما أحسنت استغلاله مؤامرات الاستعمار القديم المتواصلة وأطماع الاحتكارات الدولية المتنامية، بالإضافة إلى قنابل موقوتة جسدتها شرائح القوة الثالثة التي كان المستعمر السابق قد أعدها لتضمن وجوده المستقبلي، وكنت أطلقتُ عليهم في الثمانينيات صفة «الطلقاء»، بكل ما تعنيه وتدل عليه.

وفي ظروف لا أريد أن أتوقف عندها، حدث الشرخ بين الفكر القومي والتيار الديني، والإسلامي على وجه الخصوص، حيث إن المسيحيين في شمال المشرق كانوا جزءا من الحركة القومية التي رأوها علمانية تنسجم مع شعار: «الدين لله والوطن للجميع» الذي رُفع في مصر آنذاك.

وراح كلٌّ يُحمّل الآخر مسئولية الانهيار الشامل لحال الأمة، ولم يُدرك أيّ من الذين يجسدون الفكر القومي والذين يرفعون اللواء الإسلامي أنهما جناحان لطائر واحد، وأن الوطنية الحقة لها، كالعملة المعدنية، وجهان، واحدٌ قومي وآخر ديني، وأن الممارسة الدينية التي لا ترتبط بأرضها وقومها وتاريخها هي سباحة في الهواء، والمولى عز وجل يقول لنبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم): قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ، لأنه تعالى كان يعرف حب سيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم)، لبلده، أم القرى.

ومن جهة أخرى فإن الفكر القومي من دون انتماء روحاني يضمنه الدين وطاقة روحية يُوفرها الإيمان بالله واليوم الآخر هو إبحار بلا بوصلة في بحر لُجّيْ تتشنج أمواجه، وتحت سماء غائمة لا تظهر فيها نجوم وعبْر ضباب يحجب كل الآفاق.

والفكر القومي من دون لغة قومية هو كائن يفتقد كل الحواس، وبالتالي فإنه يفقد صفة الفكر.

النظرة المُستقبلية

يبدو هنا أن طريقنا نحو التألق الحضاري العالمي المنطلق من نهضة ثقافية وطنية شاملة مرهون بأمرين، أولهما توحيد مناهج التعليم في الوطن العربي كله، بحيث تكون لغة العلم القاعدية هي العربية، ومن هنا أشرت إلى منهج تعليم الفرنسية، وثانيهما أن ندرك أن الإسلام يضم قوميات متعددة يزداد تألقها يوما بعد يوما، بينما لاتجد أهم القوميات طريقها نحو موقف موحد يضمن لها مكانها ويكفل لها مكانتها، لأنها لم تفهم ضرورة التكامل بين القومية والدين، وما زالت أسيرة أحقاد الجمال الجرباء ورهينة الخلفيات الظلامية وحسابات أشباه الزعماء.

وأنا أعرف أن هناك من يزعمون أن كلاما كهذا هو من قبيل «لغة الخشب»، لكن الحقائق عنيدة، والدراسة المتأملة للواقع تثبت أن من يرددون هذه المزاعم هم جزء من أسباب نكبتنا، لأنهم جزء رئيسي من جموع «الطلقاء»، الذين سرقوا الإسلام بالأمس ويسرقون اليوم أوطانًا تهاونت في الحفاظ على مقومات وجودها.

والخروج من هذه الوضعية التي تختلط فيها المأساة بالمهزلة، بحيث لا يعرف الإنسان هل يضحك أم يبكي، منوطٌ أولا بالطبقة السياسية، سلطة ومعارضة، وبجمعيات المجتمع المدني التي تدرك دورها في خلق الانسجام الاجتماعي العام, ويتلخص الأمر هنا بكل بساطة في أن يجعل الانتماء الحضاري العربي الإسلامي جزءا أساسيا من برنامج عمله ونظام حياته، يسهر على رعايته ويراقب فعاليته ويحاسب كل من هم تحت سلطته على أدائهم لمستلزماته.

وربما كان أهم الأدوار هنا ذلك المنوط بالتجمعات الوطنية، أحزابا أو جمعيات، التي تنادي باللغات أو اللهجات الجهوية، والتي يتحتم عليها أن تدرك أن اللغة الوطنية والرسمية هي تلك التي تجسد تواصلا حضاريا يمتد من الأمس إلى الغد، وجسرا وجدانيا يربط بين كل أبناء الأمة، وساحة فكرية تلتقي فيها جموعهم، وقاعدة لبناء مشروع المجتمع الذي يعكس الإجماع الوطني الواعي، ويترجم الإرادة الوطنية في المجالات الداخلية والخارجية.

ولغة التواصل بالتالي ليست مجرد موروث صوتي، تجاوزه الزمن والعلم والتطور ويتعصب له البعض بحكم انغلاق مفتعل، ولا هي مجرد حنين لوجودٍ سكاني قديم، ينطبق عليه قوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ، أو توقف عند لحظة تاريخية، كانت جنينا نما وتطور فتغيرت معالمه، يتجاوز الاعتزاز المشروع بالطفولة إلى تشبث ببعض صورها، والنتيجة شروخ وطنية تفتت الأمة وتعرقل بناء المجتمع الواحد.

وهنا لا بد أن نسترشد بتعامل بلدان العالم المتقدم مع تاريخها وثقافتها وحضارتها وتطور لغاتها، ونقتدي ببرامجها المستقبلية التي تحقق ديناميكيتها المتواصلة، حتى لا نكون شيئا مثل الهنود الحمر في المُحتشدات الأمريكية.

وهذا يفرض أن يكون التعامل مع اللغات المحلية ولهجاتها المختلفة كجزء من كل، يُهتدى في ممارساته بتجارب الأمم التي تملك شعوبها جذورا مشتركة وثقافات متعددة وتاريخا واحدًا ومستقبلا متكاملا، ولست أرى في بلادنا مجالا للخلط بين الاعتزاز بالأمازيغية كعمق تاريخي ولغة وطنية والانزلاق إلى اعتبارها عرقا مستقلا عن عرق باقي الأمة.

ومن جانب آخر فإن وطنية اللهجات في بلادنا يجب ألا تنطلق من الكره المرضيّ للعربية (Arabophobie) والذي زرع الاستعمار بذوره في بعض مناطقنا ويتأكد دور المخابرات الأجنبية في محاولة استغلاله، ومن معالمه قصر الثنائية اللغوية على اللهجة المعنية واللغة الفرنسية دون غيرها، ثم يأخذ الأمر طابعا مستفزا هدفه مجرد إثبات الوجود وتسجيل المواقف بما يُحوّل اللهجة أو اللغة المستعملة إلى «غيتو» ينغلق حول نفسه ويستثير عداء لا مبرر له.

والواقع أن قضية اللهجات تحتاج إلى دراسة واعية.

وأنا لست خبيرًا في اللسانيات لكنني أتصورُ أن ما يُقصد به، غالبا، من تعبير اللهجة (Dialecte) هو في واقع الأمر لكنة (Accent) وهو اختلاف في نطق كلمة لا يُغيّر من كتابتها، فكلمة: «مشينا» تنطق في الجزائر بجزم البداية، بينما تفتح الميم في النطق المشرقي، ولا اختلاف جوهريا عن الفصحى في الحالتين.

ويُمكن أن تحرّف بعض الكلمات نطقًا وكتابة، كأن تقول «فيروز» ... «نطرتك» في الصيف، وتقصد ...«انتظرتك» في الصيف، ومثلها كلمة «المسيد» في الجزائر والدالة على المدرسة والتي هي تحريف لكلمة «المسجد» بتحويل الجيم ياء، ومثلها كلمة «الحيّة» في الغرب الجزائري والتي يقصد بها «الحاجة»، ولكن تغير الكلمة الدالة على معنى مُعيّن هو الذي يُحول اللكنة إلى لهجة، ففي لبنان مثلا نجد كلمة «العجقة» التي تعني «الزحام» أو كلمة «بلّشنا» وتعني «ابتدأنا»، وهو ما يُضاف إلى طريقة النطق لتكون اللكنة لهجة.

وبالرغم من أن العامية، بلكناتها ولهجاتها، يمكن أن تكون مصدر إثراء للغة الفصحى، فإن الفصحى هي دعامة الوحدة اللغوية، وهي التي تجعل من الشعوب أمّة، ومن هنا فإن المطلوب هو الالتزام في الحياة العامة بلغة تقترب من الفصحى، اكتفاء بتسكين الأواخر وابتعادا عن استعمال الكلمات المُغرقة في إقليميتها، خصوصا في المواد الإعلامية التي تسوق عبر التلفزة والإذاعة والأفلام السينمائية.

وأذكر من جديد، ونحن نعيش أمطار الشمال الثقافية والإعلامية، بأن اللغة الوطنية هي جزء أساسي في إستراتيجية الأمن القومي (Sécurité Nationale) وهو ليس أمرًا يحتكره رئيس أو وزير أو مؤسسة سيادية بل مهمة الجميع لأنه مسئولية الجميع، والمثقفون الوطنيون هم النخبة المنوط بها السهر على نقاء اللغة وانتشارها عبر التعامل اليومي، خصوصا عندما يكون بجانبهم قانون يدعم نشاطهم ويحمي حركتهم من كل اتجاهات التلوث اللغوي، وتكون وراءهم طبقة سياسية واعية، بالمعنى الحقيقي لكلمتي الطبقة والوعي.

الشيطان الكامن في التفاصيل

يبقى أمر قد يعتبره البعض تفصيليًا مما جعلني أتركه لآخر هذا الاستعراض، وهو نقائص بعض الجهود المبذولة لتعريب المحيط، والتي تعاني أحيانا من تجاوزات لا يُمكن تبريرها، ولست أقصد هنا ما حدث يوما من تشويه للكلمات المكتوبة باللغة الأجنبية على لافتات المرور باستعمال طلاء بشع وساذج، وهو ما نسب القيام به لأعضاء لجنة التعريب التي كان يرأسها أخونا عبد القادر حجار، وثبت أنها كانت عملية دبرتها عناصر استعملت الأساليب الإسرائيلية في تشويه الخصم، وأضافت يومها لذلك تكسير شواهد القبور المكتوبة بالفرنسية ثم تصوير حطامها وإرسال الصور إلى الرئيس هواري بو مدين لاستعدائه على دعاة التعريب، ومن حُسن الحظ أن الرئيس رحمه الله لم يكن ممن تجوز عليه هذه الممارسات.

وما أقصده هنا أمرين، أولهما التحذير من الاستجابة لمن لا يملكون ناصية التحكم في اللغة العربية ويقدمون اقتراحات سطحية يدعون أنها تبسط اللغة العربية وتسهل استعمالها وبالتالي تحبب الناس فيها، ومنها اقتراح تقدم به صحفي مصري أخيرًا بإلغاء صيغة المُثنّى، وكأنه لا يعرف أن القرآن الكريم هو المرجع الرئيسي للغة العربية، وإلغاء صيغة المثنى، والتي لا تعرفها فعلا لغات أجنبية، يعني ببساطة إلغاء عشرات الآيات القرآنية، أي المساس بقاعدة الدين واللغة في آن واحد، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

وفي الوقت نفسه فإن المُقارنة بين العربية واللغات الحية الأخرى تثبت أن لغتنا ليست أصعب اللغات، خصوصا في التعامل اليومي.

والأمر الثاني هو إثراء العربية آليّا بتعريب المصطلحات الأجنبية أو ترجمتها، وهو ما لفتت نظري إليه الرسالة التي تلقيتها من الدكتور محمد العربي ولد خليفة، حيث ترجمت كلمة «فاكس» (Fax) لتكون «الناسوخ»، فسارت على درب كلمة «الحاسوب», ولعلي كنت أفضل كلمة «الناسخ»، بالرغم من أنني لست مَرْجعًا.

لكنني أذكر هنا من يرفضون ذلك بأن الفرنسيين لا يستعملون كلمة «الفاكس» لأنها رجس من عمل الشيطان الأمريكي، وهم يترجمونها إلى «تيلي كوبي» (Télécopie) كما فعلوا بكلمة «بايب لاين»، التي جعلوها «أوليودوك»، وكلمة «كاميرا مان»، التي جعلوها «كادرور» (Cadreur)

غير أنه من الضروري أن يكون من يتصدون لترجمة الكلمات الأجنبية ممن يتحكمون في اللغتين، وربما قبلت كلمة «شطيرة» لترجمة كلمة «ساندويتش»، وهي اسم مخترع الأكلة السريعة المشهورة، بدلا من الترجمة الفكاهية:» شاطر ومشطور وبينهما كامخ»، لكنني لا أجد ضرورة لترجمة كلمة «باشاميل»، وهي اسم طاه روسي اخترع الصلصة التي تستعمل في العجائن، ولا أجد مبررا لترجمة كلمة «تلفزة»، ليحل محلها، كما يرى العقيد القذافي، تعبير «الإذاعة المرئية»، وأرفض أن استعمل عبارة «شهية طيبة»، التي يستعملها البعض كترجمة لتعبير(Bon Appétit)، لمجرد أن التعبير العربي:»هنيئا»، هو أجملُ وأصحّ، وأثق في أن الترجمة الصالحة تفرض نفسها على الاستعمال، تماما كما فرضت كلمة «الهاتف» نفسها وحلت محل كلمة «المسرة» في الدلالة على «التيليفون»، لأنه لا أسرار في الهاتف اليوم.

ولعلي أنتهز الفرصة لكي أسجل التقصير الرهيب في برامج «الحاسوب» العربية، والتي يبدو أن من يُعدّونها هم تقنيون غير أكفاء، لا يفهمون من اللغة العربية وفنونها ونحوها وصرفها أكثر بكثير مما يفهمه بعض «النُّدل» في فنادقنا، وهو ما يعاني منه المثقف العربي، مقارنة بزميله في الثقافات الأخرى، وهذه مهمة مشتركة يجب أن تسهر عليها الحكومات، وكان من المفروض أن تتولاها الأقسام الثقافية في جامعة الدول العربية، لولا أنها مجرد تكايا للمتقاعدين ومصدر دخل لبعض العاطلين من أقارب هذا المسئول أو ذاك.

ونظرة إلى الموسوعات العالمية التي تصدر تباعا على شكل أقراص مضغوطة ومدعمة بالرسوم المتحركة والصور الملونة والموسيقى الجميلة ستجعلنا نحس بأننا ما زلنا في العصر الحجري، ويكفي لتأكيد ذلك أن نحاول فتح» لسان العرب» الذي يُباع على شكل قرص مضغوط، بمقدمة موسيقية بائسة وبأسلوب عرض يكفي لإصابة الباحث بالقرف والإحباط.

ويدفعني هذا إلى القول إن دور المجتمع المدني وجمعياته قد يكون أحيانا أكثر فعالية، ولأن الفرنسيين هم قدوتنا وتاج رأسنا وقرة عيننا، وبالإضافة إلى ما سبق أن أشرت له، فإنني أذكر بأن مواطنين فرنسيين رفعوا قضية على شركة «سيتا» للدخان لأنها استعملت في كتابة كلمة «مُرشِّح» على علب السجائر الكتابةَ الإنجليزية للكلمة، أي (Filter) وليس الفرنسية (Filtre) وخسرت الشركة القضية، وعُدلت الكلمة بعد إتلاف كل الأغلفة التي كانت تحمل الكتابة القديمة، وانتصر عشاق الفرنسية.

وأذكر بأن الرئيس جاك شيراك خرج غاضبا من لقاء اقتصادي لأن متعاملا فرنسيا ألقى خطابه بالإنجليزية.

مقارنات

اللغة الوطنية الواحدة والمُوحِّدة هي عصارة الثقافة الوطنية في البلد المعني وعنوانها، بل إنها اختزال لصفة الوطنية، وهي صورة لوحدة الأمة أيا كانت أصولها وأعراقها، وتجسيد لهيبتها وتأكيد لعزتها وتعبير عن كرامتها، ومن هنا كنت أرفض دائما مفهوم «الازدواجية» اللغوية الذي يجعل من الفرنسية آليّا الطرف الآخر من الثنائية المُستعملة، فتخلق للّغة الوطنية «ضُرة» تقوم بدور السبية سالفة الذكر، وكنت وما زلت أفضل الحديث عن «التعددية» اللغوية، التي تكون العربية قاعدتها الرئيسية، ولن أضيع وقتا طويلا في اجترار ما سبق أن تناولته، والذي أكدته المشاكل الأخيرة في بلجيكا، وأكتفي بالقول إن وحدة اللغة الوطنية هي ضمان وحدة الوجدان الوطني، وهو ما لا يتناقض مع الاستفادة بأي فنون شعبية أو ثقافات محلية، لا تتجاهل الرمز المُوحَّد والموحِّد للأمة، وما لا يمنع من الانفتاح الواعي على ثقافة العالم وفنونه.

والجماهير في جل بلاد العالم تلتف حول رمز واحد تجمع عليه دون أن يعني ذلك سحق رموز أخرى، جهوية أو مزاجية، أو تجاهل رموز أخرى عالمية، وهكذا نجد «إديث بياف» في فرنسا و»أم كلثوم» في مصر و«فيروز» في لبنان و «إلفيس بريسلي» في أمريكا و«البيتلز» (وليس الخنافس) في بريطانيا، وكلها رموز تمثل مرجعية فنية لكل مواطن، لا تحول بينه وبين أن يحب «عبد الوهاب» ويعجب «بعبد الحليم» ويعشق «بيتهوفن» ويسهر مع «فردي» وينسجم مع «تشايكوفسكي» ويرقص مع «كوستاغوفيتش» ويُغني مع «آزنافور» ويطرب «لدحمان الحراشي».

وتبدو أهمية هذا المثال عندما نسجل أننا لا نجد عندنا مطربا واحدا يجمع عليه كل المواطنين، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وربما كان الاستثناء الجدير بالانتباه هو بعض الأناشيد الوطنية، ربما لمجرد أنها تجسد الوحدة الوطنية.

لكن المثير للأسى هو أن بلادنا لم تعرف أغنية وطنية واحدة جديرة بهذه الصفة منذ أنشودة «عيد الكرامة» في منتصف الثمانينيات، ولعل المسئول الأول عن هذا هو خلل وحدة الوجدان الوطني بفعل الشروخ اللغوية التي تفاقم أثرها وتأثيرها.

كارثة وطنية

أما في المجال الأدبي فإننا سنجد أن روسو وفيكتور هيجو وبلزاك وديماس، الكبير والصغير، عند الناطقين بالفرنسية هم رموز للاعتزاز بالوطن مثل شيكسبير وألدوس هكسلي وإدجار ألان بو وتينسي وليامز وغيرهم عند الناطقين بالإنجليزية، كما أننا نجد كل مصري يحرص، مهما كان اتجاهه السياسي، على قراءة «الأهرام» حرص الفرنسي على قراءة «لو موند» والبريطاني على قراءة «التايمس» والأمريكي المُسيّس على قراءة «الواشنطون بوست» واللبناني الماروني على قراءة «النهار» وزميله السني على قراءة «الأنوار»، وهي هنا ثنائية تستحق التوقف عندها عندما نعرف أن «الفلامان» في بلجيكا لا يقرأون صحيفة «لو سوار».

وفي بلد يُصدر أكثر من ستين صحيفة، بعضها لا علاقة له بالهدف الحقيقي لوجود الصحافة، لعلي أتساءل عن خريطة توزيع القراء على الصحف، وأقصد أساسا القراء الذين يشترون الصحف، وبالتالي عن نسبة مقروئية كل صحيفة وكل مجلة، وعن الكتاب الذين يتابعهم جل المواطنين ويتأثرون بما يكتبون، وأتساءل هل عندنا أمثال «غسان تويني» في لبنان و«حسنين هيكل» في مصر «وفونتين» في فرنسا «وروبرت فيسك» في بريطانيا و«سالزبيرجر» في بلاد الأمريكان وغيرهم من خلق الله في بلاد الله؟

وربما دفعت السكين في الجرح أكثر فأكثر لأتساءل عن عدد الناطقين بالفرنسية الذين يتابعون ما يُكتب بالعربية ويتتبعون كُتابا بعينهم في مجال الثقافة العربية، وهو أمر لا يُطرح كثيرا بالنسبة لعدد من قراء العربية يحاولون، بانتظام يكاد يكون رتيبا، الاطلاع على ما يُكتب بالفرنسية، استزادة للمعرفة، أو فضولا يبحث عن جديد، أو تقربا من أهل «السبية» الجائرة.

لكنني لا أدري لماذا يريد البعض عندنا أن يكون كاتب ياسين، وله قدره واحترامه في مجال تخصصه، مرادفا وحيدا لاسم الجزائر، في حين يجري تجاهل رموز وطنية لمجرد أنها تكتب بالعربية، ويراها الوطن العربي تجسيدا للجزائر وتعبيرا عنها، بينما يجهلها ويتجاهلها بضعة آلاف تعطى لهم الصدارة لأنهم اخترعوا أسطورة «غنيمة الحرب» ثم صدقوها ويريدون منا أن نسلم لهم بالريادة، ونهمل رموزا من أمثال عبد الله شريط ومزيان وخرفي ووطار وركيبي وزهور وولد خليفة وسعيدي، وقبلهم ابن باديس والميلي ثم عبد الرحمن الجيلالي، ومعهم دودو وبو عزيز والعربي الزبيري، ثم بو عقبة والعقاب ورزاقي وبو القرون ورحايلية أو البرناوي وخمار وعشرات آخرون. بل ويريدنا البعض أن نتجاهل كتابا وطنيين عبروا بالفرنسية مثل مالك بنابي ومالك حداد ولكن التزامهم بحضارتهم جعلهم رموزا تاريخية.

ولا أعرف كيف لا يتوقف أحد عند مأساة المسرح الوطني الذي أدت انعكاسات الشرخ اللغوي إلى تدمير دوره، فلم يعد هناك مسرح وطني يكون تجسيدا لمشاعر أمة وتعبيرا عن إرادتها السياسية وانسجاما مع ذوقها الفني وترجمة لوجهتها الاجتماعية.

ولن أتوقف عند الأغاني فقد تكفلت الأعراس بتلويث الواجهة الغنائية للبلاد، ولم تنتج الجزائر منذ الاستقلال، ودائما نتيجة للشرخ اللغوي، مطربا يُمكن أن يُجسد الوطن كله، وهكذا ظللنا عالة على ميراث قبل الثورة، وفيه ما يُمكن أن يُقال، وتصدرت الساحة صور من الغناء المُبتذل الذي تمكنت الآلات النحاسية من جعله أداة صاخبة لإلهاء الجمهور بالرقص المتشنج.

أما الفنون التشكيلية فقد تحولت غالبا إلى مجرد مصدر رزق يعتمد التقليد تلبية لرغبة أثرياء جدد يريدون «تزويق» منازلهم بما يتصورون أنه لوحات فنية أو لتوفير سلعة فولكلورية رخيصة يأخذها السواح معهم وهم يعودون إلى بلادهم.

ذلك كله أمر يثير التساؤل حول المنطلقات ويستثير الشكوك حول الخلفيات، وبحيث أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم على خلفية قضايا الثقافة والفكر واللغة الوطنية وعند الحديث عن النخبة وموقعها ودورها: من يمثلُ من، ومن يُعبّرُ عن من، ومن نشلت منه بطاقة تعريفه فأصبح شبحا بغير وجود، ومن ينتحل دورا مزيفا وينتزع مكانة غير مشروعة ببطاقة مزورة؟

ومن الذي يتآمر على تزوير الإرادة التاريخية للأمة وعلى تشويه دورها الحضاري؟

الصورة الثقافية إذن قاتمة، ولعلها أكثر ظلاما مما قدمته باقتضاب، والوضعية اللغوية كارثة وطنية، وهذا كله يهدد بتحول الشعب إلى مجرد سكان (Population).

وأنا أعرف أن كثيرين كانوا ينتظرون مني أن أكتفي بأن أصب جام غضبي على تقصير الحكام وتقاعس القيادات السياسية، لكنني أكرر بأن المسئولية هي مسئولية الجميع، وهو ما يجعلني أسجل تقديري للقلة التي ثبتت على المبدأ، أفرادا أو مؤسسات، والتي تحاول أن تحافظ على ضوء شمعة يخترق الظلام ويحافظ على الأمل، ولهم أقول: فليكثر الله من أمثالكم.
-----------------------------
* وزير الثقافة الجزائري الأسبق.

-----------------------------------------

لئن جاء شدوي حبيب الصدى
يوافيكِ رغم انغلاقِ الرحاب
فذاك لأني نشرتُ جناحي
يعانقُ في جانحيكِ العذاب
ويجمعني فيك سوءُ المصيرِ
وما ضمّنا في الأَذى والمُصاب
كما تحتويني بك الذكرياتُ
وطيبُ الأَماني، وبيضُ الرِّغابِ
أتاني كتابكِ يا أُختَ روحي
فصافحتُ روحكِ بين الكتابِ

كمال ناصر

 

محيي الدين عميمور*