قضايا. حضارة الغرب.. هل هي آيلة للسقوط؟

قضايا. حضارة الغرب.. هل هي آيلة للسقوط؟

يتهم البعض الحضارة الغربية بأنها تنظر إلى أسفل حيث الطبيعة والمادة ولم تنظر إلى أعلى حيث الوحي والإلهام. فإلى أي مدى يصح هذا القول, وهل هي فعلاً حضارة آيلة للسقوط?

الشرعية الوحيدة التي يمكن أن نلتمسها لتساؤل فولتير هي إنسانيته وآدميته, فمن حقه كإنسان أو آدمي أن يطرحه أمام انبهاره بالمدنية التي بلغها الإنسان بعد الهمجية, ولنا أن نستأنس بقول السير جيتر كإجابة أولية لهذا التساؤل, لكونه ابن المدنية ذاتها التي بهرت فولتير, فهو يرى - أي جيتر - أن الآدمية نفسها تقتضي استكشاف العالم الذي يحتضنها, ويبلغ به الأمر إلى حد حصر هذه الإمكانية للمعرفة والاستكشاف لما يحيط بالإنسان في منهج واحد (هو منهج العلم) والذي هو ببساطة - في رأيه - استجواب مباشر للطبيعة بالمشاهدة والتجربة.

والآدمية إن تميّزت عن الحيوانية بشيء, فإنما تميزت بملكة الإنسان في قدرته على اكتساب المعرفة, أي: ملكة العقل, إلا أنه يؤكد على أن منهج العلم الوحيد هو منهج المنهج القائم على (المشاهدة والتجربة) أي: على الحس والمادة.. وطبعاً على آلة الفهم: (العقل).

إن اعتراف العقل الغربي بضياعه وتضييعه للآدمية الغربية لهو خير وسيلة لوصف النهاية الحتمية لهذه الحضارة, إنه لمن الأهمية بمكان أن نجد لهذه القضية شهوداً من الغرب ذاته, لذا فإننا سنقتصر هنا على إيراد أقوال وآراء بعض العلماء الغربيين حول هذه المسألة بدلاً من إجراء أي مقارنة أو دراسة للخصائص الحضارية للغرب ومدى تناقضها وتضاربها بدءاً من العقلانية القديمة (الفلسفة ونظيرتها السفسطة) انتهاء بالمادية العلمية الإلحادية المتطرفة.

إن مؤلفات مثل (الغثــيان) لجــان بــــول ســارتــر, و (العقل في منتهى حدود الاحتمال) لولز, و (حفارو القبور) لروجيه غارودي, و (تدهور الغرب) لشبنغلر, و (سقوط الحضارة) و (اللامنتــمي) لكــولن ولســن, و (أزمة العالم المعاصر) لرينيه غينون... كلها تنبؤات بالنهاية وشيكة الحدوث للحضارة الغربية على حد تعبير الكثير من أصحاب تلك المؤلفات.

البشر والأقزام

في معرض حديثه عن سقوط الحضارة يستشهد كولن ولسن برأي شبنغلر قائلاً: وإذا أردنا أن نلخص الأشياء التي نتعلمها من شبنغلر فإنها تتمثل في أن حضارتنا متدهورة وأن أعراض تدهورها تتمثل في (الفلسفة التجريدية) التي (كما عرّف بليك) تحول البشر إلى أقزام. إن الحضارة الغربية هي في جوهرها حضارة لاإنتمائية, أما مادية اليوم فهي علامة على تصلّب شرايينها, بيد أن شبنغلر يقول إنه ليس هنالك مهرب, إننا في آخر مراحل التدهور, ويجب علينا أن نؤمن بهذا, وليس هنالك أي احتمال في ظهور دين جديد أو فلسفة جديدة, لأن تربة الغرب (منهوكة ميتافيزيقيا) والشك هو الطريق الوحيد الذي ينفتح أمامنا, هذا الشك - كما يعتقد شبنغلر - يجب أن يرتكز على (تدهور الغرب). إن فكرة حتمية النهاية وعدم وجود مخرج من مثل هذا المأزق الحضاري الذي يصرّ عليه شبنغلر نجدها عند رينيه غينون حيث يرى أن الدورة التاريخية الحالية للحضارة الإنسانية قد دخلت العصر المظلم الذي يطلق عليه اسم الكالي يوغا (Kali Yuga) في الديانة الهندوسية, ويتساءل عن إمكان النجاة: (فيا ترى! هل سيصل العالم إلى غاية قعر هذا الإنحدار الحتمي المميت, أم أنه سيحدث فيه إصلاح جديد وذلك قبل بلوغ أسفل الهوّة التي ينجر إليها هذه المرة? يبدو أن التوقف في منتصف الطريق أصبح أمراً نادر الحدوث, وحسب كل الإشارات الواردة عن العقائد القديمة, فإننا قد دخلنا حقا في المرحلة الأخيرة من الكالي يوغا, أي في الفترة المظلمة من العصر المظلم, أي في حالة الانحلال التي يصعب الخروج منها إلا بانقلاب جذري, لأن مجرد إصلاح بسيط لن يكون مجديا. إن الفوضى والاضطراب يسيطران على كل المجالات, ولكن أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة, فإن ذلك يبدو علامة على أخطر وأعظم أزمة عرفتها البشرية في دورتها الحالية. ويواصل التعبير عن سخطه الشديد على الحضارة الغربية المعاصرة واصفاً انقلاب الأمور فيها رأساً على عقب (ولكن أين يمكن في العالم المعاصر أن توجد فكرة ترتيب تسلسلي حقيقي? فلا يوجد أي شيء ولا أي شخص في المكان الذي يجب أن يكون فيه, فالبشر لا يعترفون بأي سلطة فعلية في النظام الروحي, ولا توجد أي سلطة شرعية في النظام المادي, و (الدنيويون) يسمحون لأنفسهم بمناقشة الأمور المقدسة, والطعن في خاصيتها وحتى في وجودها, إن الأدنى هو الذي يحاكم الأسمى, والجهل هو الذي يفرض الحدود على الحكمة, والخطأ هو الذي يتصدّر الحقيقة, والإنسان هو الذي ينوب عن الله, والأرض هي التي تحمله فوق السماء, والفرد يجعل من نفسه معياراً لكل شيء بزعمه إملاء قوانين على الكون مستخرجة كلها من عقله النسبي غير المعصوم من الخطأ, (الويل لكم أيها القادة العميان), كما جاء في الإنجيل, وبالفعل فإننا اليوم لا نرى سوى عميان يقودون عميانا آخرين والذين - إذا لم يتوقفوا الآن - سيجرّونهم حتماً إلى الهوة التي سيهلكون فيها جميعا)ً.

الحكمة والجهل

إن فكرة تسلط الجهل على الحكمة والغباء على الذكاء هي الفكرة ذاتها التي حذّر منها كولن ولسن لأنها في نظره ناقوس بداية الفناء للحضارة, لأنه يرى أن النوابغ وحدهم يمكنهم النظر إلى ما هو خارج عن روتين الحياة اليومية, إنهم يبحثون عن هدفية الحياة, ووحدهم يحاولون إنقاذ آدميتهم من المادية والبحث عن مغزى تميزها عن الحيوانية, بينما أذكياء المادة ما هم إلا عبيد سخّروا عقولهم لها, ويؤكد أن وجود النوابغ يعني بداية الاستيقاظ في وسط الفوضى والاضطراب من حيث فقدان القيم والأخلاق وعبادة المادة - كما أشار غينون إلى ذلك في فقرته السابقة - ويؤكد ويلسن (أن النظام الاجتماعي المثالي هو ذلك الذي ينظر بعين الاعتبار إلى نوابغه, فإذا تجرّد المجتمع من مثل هذا النظام صار النوابغ لامنتمين أي: أنهم يشعرون بالضياع, ولا يعودون متفقين مع الكيان الاجتماعي...) وهذا ما يحدث حقاً في الحضارة التي ترفض النظر إلى غير ما تدركه الحواس ويتحقق منه بالتجربة, وتنبذ كل من يحاول أن يتسامى فوق ذلك, وفي وسط كل هذه المعاناة يدخل النوابغ في اللاانتمائية, وتفقد حياتهم هدفيتها أيضاً, وهنا يصرّ ويلسن من جديد: (إن المسألة التي أرمي إلى بحثها من وراء هذا النقاش هي: أن اللامنتمين هم أعراض الحضارة المتحضرة. إذ لا يمكن أن تكون هناك حياة دون معنى الهدفية. والمجتمع يبدأ بالموت من الرأس إلى الأسفل, وهكذا ففي البداية يفقد النوابغ معنى الهدفية, وحين يحدث هذا يبدأ السقوط والتدهور), إن اللامنتمي عند ويلسن هو حقاً إنسان استيقظ من المادية الجارفة التي تجرد الحياة من الهدفية لأنها تصبغ كل شيء بخصائصها وتتركز فيها الأفكار حول الشيء بدلاً من أن تتركز الأشياء حول الفكرة). فيصبح العلم خادماً مطيعاً لما تحت الأقدام, وهذا ما أشار إليه ويلسن عن حقيقة العلم الذي بلغته المدنية الغربية: (قد قال العلم للإنسان في القرن العشرين إنه مجرد حزمة من الشهوات والمدارك, وأما النتائج فليست مفاجئة ولا تتصف بالمأساة وإنما تؤدي إلى انحلال بطيء في مجتمعنا, وحتى إذا أدرك اللامنتمي أن المادية العلمية هي أساس الشر..) وربما هذا ما أدى بجان جاك روسو إلى ازدراء الفكر ذاته بقوله: (فإني أكاد أجترئ على القول إن حال التفكير هي حال مضادة للطبيعة, وأن الرجل الذي يفكر هو حيوان مفسد). مع أن المادية قد سعت إلى التكامل وتحقيق الرفاهية الحسّية إلى أقصى حد ممكن, ومن طبع الإنسان أن يسخر ما يحيط به ويسعى دائماً إلى الكمال وتعويض ما ركّب فيه من نقص, وهي خاصية تميزه حقاً عن بقية الحيوانات, إلا أن روسو نقم على هذه الميزة أيضاً: (ومن المحزن لنا أن نكون مضطرين إلى الموافقة على أن هذه الخاصية المميزة, خاصية قابلية التكامل, الخاصية التي لا حدود لها تقريباً, هي مصدر جميع ويلات الإنسان, وأنها هي التي تجعله, يعامل الزمن, من ذلك الوضع الأصلي الذي كان يعيش فيه أياماً هادئة بريئة, وأن هذه الخاصية إذ كشفت له, على مرور الأجيال, أنوار هديه وظلمات ضلالاته ورذائله وفضائله هي التي جعلته, مع تراخي الزمان, طاغية نفسه, وطاغية الطبيعة).

الغرب ومراجعة النفس

إن العقل الغربي يعلن عجزه عن مواصلة المسير, وأن المزيد من السير نحو الأمام لن يزيده إلا تحجّراً كتحجّر المادة, وأنه بحاجة إلى ما هو أعلى منه, لأنه لم يعد قادراً على مراجعة نفسه, ناهيك بالنتائج التي توصل إليها, وربما لهذا السبب ذهب كل من برناردشو وأرنولد توينبي إلى (أن الحضارات تسقط في اللحظة التي تكون فيها قوة الإنسان أشد من قوة الدين). ويضيف ويلسن: (إن هنالك قوة أعلى من الإنسان في هذا الكون, وأن الإنسان يبلغ أسمى أهدافه بخدمة تلك القوة), إلا أن نوابغ الغرب اللامنتمين الذين يمثلون أعراض الحضارة الآيلة للسقوط - في نظر ويلسن - يرفضون أي فكرة دينية ذلك لأن اللامنتمي (يميل إلى التعبير عن نفسه بمصطلحات وجودية, ولا يهمه التمييز بين الروح والجسد, أو الإنسان والطبيعة, ذلك أن مثل هذه الأفكار تنتج تفكيراً دينياً وفلسفة في حين أنه يرفضهما معاً), إن سبب رفض اللامنتمي الغربي للدين هو - في الحقيقة - رفض للمسيحية لا أكثر لأنها الوحيدة التي تمثل الدين عنده, لقد هاجم الفيلسوف نيتشه - ولم يكن الوحيد في ذلك - المسيحية بكل قواه, (فقد ذهب في كرهه لها إلى حد أنه فضح أخطاءها, وقال إن هذه الأخطاء جوهرية فيها, ولذلك فإنها, أي المسيحية, تستحق النبذ شكلاً ومضموناً... لقد صرّح نيتشه بـ (أن المسيحيين عموما غشّاشون من الناحية العقلية منحطون من الناحية الخلقية, وأن ذلك راجع إلى ما يعتقده الفرد المسيحي).

لقد تدهورت آدمية اللامنتمي الغربي فهو لم يعد يعرف نفسه, (... فقد وجد (أنا) إلا أنها ليست (أنا) حقيقية, أما هدفه الرئيسي فهو أن يجد طريقاً للعودة إلى نفسه), أي أن السقوط قد بدأ فعلاً...!!

وربما هذا ما أدى إلى جنون نيتشه لأنه لم يعرف طريق العودة إلى نفسه لا من خلال مسيحيته ولا من خلال عقله الذي فقده في نهاية المطاف, الوحيد الذي أكد ضرورة العودة إلى المسيحية وبالتحديد إلى الكاثوليكية لإنقاذ سقوط الغرب ممن سبق ذكرهم هو (رينيه غينون) إلا أنه فضّل اعتناق الإسلام, وعاش بقية أيامه في القاهرة باسمه الإسلامي (عبدالواحد يحيى) إلى أن مات ودفن فيها.

ولكن ما تجدر الإشارة إليه أخيرا هو تأكيده الاجتياح الحضاري الغربي للعالم الشرقي في فصل: (الاجتياح الغربي) الذي ختم به كتابه (أزمة العالم المعاصر) الذي ألفه قبل إسلامه حيث يرى فيه (أن هناك شرقيين قد صاروا (مستغربين) وتركوا تقليدهم ليتبنوا ضلالات العقل الحديث), ويشير إلى عموم الفوضى وانتشارها بصورة رهيبة (إنه يحدث الآن أمر لا يمكن إخفاء شدّته: وهو أن اللانظام والفوضى يمتدان إلى كل مكان ويبدو أنهما قد بلغا حتى الشرق, وهذا التعميم والشمول للانظام والفوضى هو مما يجب أن يحدث في المرحلة الأخيرة من (الكالي يوغا) (العصر المظلم)), ويضيف متسائلاً: (إن القضية الوحيدة التي تطرح نفسها هي: هل سيتلقى الشرق بسبب العقل الحديث أزمة سطحية عابرة, أم أن الغرب سيجر معه أثناء سقوطه البشرية جمعاء?), هنا ربما لو كان يعرف مصطلحاً للتعبير عن هذا العموم والشمول كالعولمة Mondialisation لاستخدمه بدلاً من Generalisation.

فهل العولمة بكل ما تحمله من معاني الغزو التقني والحداثي المعلوماتي للعالم الغربي هي آخر مراحل هذا السقوط? أي بتعبير غينون هي (بداية النهاية) التي تلتهم فيها المادية بكل تطوراتها المذهلة كل الأبعاد الروحانية والإنسانية للعالم..??? وهل هي حقاً علامة اللارجوع من رحلة السقوط...??!!!

 

نورة سعادنة