الأنساب العربية حقيقة.. أم وهم?

  الأنساب العربية حقيقة.. أم وهم?
        

          تعود وجهة النظر العربية, عن أصل العرب وطبقاتهم وأنسابهم, إلى حقبة قديمة من تاريخهم, لا نستطيع تحديدها بالضبط,لأن المصادر التي نستقي منها معلوماتنا عن هذا الموضوع, متأخرة نسبيًا. فما مقدار الصدق فيها? وما مقدار الوهم?

          كان العرب قبل ظهور الإسلام عندهم آراء ونظريات تشرح أصلهم وتبين نسبهم. وقبل أن نبدأ بشرح وجهة النظر العربية هذه, يجب أن ننبه إلى أن جميع معلوماتنا عن العصور التي سبقت ظهور الإسلام مستقاة من مصادر إسلامية متأخرة دوّنت بعد مدة طويلة من الحوادث نفسها, وأن المؤرخين المسلمين نظروا إلى الكثير مما يتعلق بعصر ما قبل الإسلام من خلال إيمانهم الجديد, وربما عدلوه بما يتفق مع نظرتهم التي اصطبغت بالصبغة الإسلامية. وهكذا لابد لنا من التحفظ في استعمالنا للمعلومات الواردة في المصادر الإسلامية عن عصر ما قبل الإسلام. هذا فضلا عن أن وجهة النظر العربية في أصل العرب دخلها التعديل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والعصور التي تلت. وأخيرا فإن الإسلام وما دعا إليه من فكرة الإخاء بين جميع المسلمين بقطع النظر عن عرقهم, والتساوي بين العرب وغير العرب, قد زعزع الكثير من الأركان التي كانت تقوم عليها وجهة النظر العربية في أصل العرب, ولم تعد نظرية العرق الصافي المتحدر من جد واحد هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع.

          لقد وضع النسابون العرب نظاما مفصلا دقيقا يشرح أصل أمتهم, وعلى الرغم من كل ما في هذا النظام من بعض النقاط الضعيفة أو الغامضة, والفجوات التي لا يمكن سدها والمتناقضات التي لا يتم معها انسجام النظام لا سيما بالنسبة للعصور القديمة من تاريخ العرب, فإن النظام بمجموعه يبدو متماسكا إلى حد ما في صياغته, ومقبولا لدى الكثير من غير المختصين, في الأقل,والأكثر شيوعا بين عامة الناس. ولا تأتي قيمة هذا النظام من كونهِ نظرية وضعها علماء الأنساب العرب, بل تأتي, أيضا من كونه الإطار الذي انتظم وأثر في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة العربية خلال مراحل تاريخها قبل الإسلام وبعده.

طبقات العرب

          يكاد الرواة والإخباريون والنسابون العرب يتفقون على أن العرب ينقسمون إلى ثلاث طبقات:

          1 - العرب البائدة.

          2 - العرب العاربة.

          3 - العرب المستعربة أو المتعربة.

          والطبقتان الثانية والثالثة يطلق عليهما اسم العرب الباقية. ويعنون بالعرب البائدة الشعوب العربية القديمة التي كانت تعيش في جزيرة العرب, ثم بادت ودرست أخبارهم بفعل الكوارث الطبيعية والحروب وعوامل أخرى.

          والعرب البائدة في نظر النسابين هم السكان الأصليون للجزيرة العربية: عاد وثمود وإرم, وجرهم, وطسم وجديس, التي انقرضت كلها قبل الإسلام. أما معلوماتنا عن هذه القبائل فقليلة جدا, ويكتنفها في أغلب الأحيان الغموض, وكل ما يمكننا أن نقوله إن هذه القبائل كانت قبائل عربية وتعرف باسم العرب البائدة. وقد أوقع الله بهذه القبائل العقاب وأبادهم لأنهم عصوا أنبياءهم ولم يسيروا في الطريق السوي التي أمر بها الله.

          أما العرب العاربة فهم الراسخون في العروبية وكانوا أول أجيالها وينسَبون إلى قحطان أو يقطان أو يقطن الذي ورد اسمه في التوراة, وهو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وكان موطنهم اليمن.

          وأما العرب المستعربة أو المتعربة فينسبون إلى عدنان, بن أدد من ولد نابت بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم, فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم أو المعديون من ولد معد بن عدنان. وقد سموا بالعرب المستعربة, لأن إسماعيل عندما نزل مكة كان يتكلم العبرانية, فلما صاهر اليمنية تعلم العربية.

          إن عدنان, جد عرب الشمال, تكتنف قصة حياته ظلال تجعلها أكثر غموضا من قصة حياة قحطان, لذلك كثيرا ما أرجع عرب الشمال نسبهم إلى معد بن عدنان, أو حتى إلى حفيده (أي حفيد عدنان) نزار, وإلى مضر وربيعة ابني نزار, وينتسب الفرعان الرئيسان لعرب الشمال, أما أحفاد الابن الثالث لنزار وهو إياد فقد طمس ذكرهم ولم نعد نسمع عنهم منذ قيام الإسلام. وتحتل قيس عيلان - أحد القسمين الكبيرين اللذين تنقسم إليهما مضر - مكانة كبيرة في تاريخ عرب الشمال لدرجة أن كلمة قيس كانت تستعمل في كثير من الأحيان للدلالة على عرب الشمال بكاملهم. وكان يتبع قيس عيلان قبائل هوازن وسُليم. وإلى هوازن تنتسب قبائل ثقيف ومجموعة قبائل عامر بن صعصعة التي من قبائلها قشُير وعقيل وجعده وكعب وكلاب وهلال. أما خندف, وهي ثاني القسمين اللذين تنقسم إليهما مضر فتضم قبائل هذيل وتميم وكنانة (وقريش أحد فروع كنانة). وعلى الرغم من أن عرب الشمال - بحسب تلك الروايات - لا يتمتعون بدم عربي أصيل كعرب الجنوب, وانهم مستعربون لا عاربة فإن ظهور محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من بينهم (من قريش) رفع مكانتهم بعد الإسلام وجعلهم في مكان الصدارة بين القبائل العربية.

          ومن ربيعة تحدرت قبائل عنَزَة, عبد القيس, النمر, تغلب ومجموعة قبائل بكر بن وائل التي كان منها قبيلة حنيفة. وقبل ظهور الإسلام بزمن غير قصير - القرن الثالث لميلاد المسيح تقريبا - هاجرت قبائل من ربيعة ومضر وبكر من شبه جزيرة العرب, فسكنت بعض قبائل مضر قرب الفرات في الأرض التي سميت بديار مضر نسبة إليهم - شمال شرق سورية حاليا - وسكنت بعض قبائل ربيعة قرب دجلة في الأرض التي عرفت باسم ديار ربيعة - منطقة الموصل في العراق - في حين استقرت قبائل بكر عند منابع دجلة والفرات شمالا, فسميت المنطقة بديار بكر نسبة إليهم أيضا, والتي مازالت تحتفظ باسمها وملامحها العربية حتى اليوم. وتخلفت بعض القبائل في شبه الجزيرة ولم تهاجر, فاستقرت هذيل قرب الطائف, وسُليم في الجبال التي تقع بين مكة والمدينة, بينما استقرت تميم وحنيفة وبعض قبائل عامر بن صعصعة في الوسط, وعبد القيس في الشرق

          إن هذا التقسيم الذي أوردناه مختصرا, هو التقسيم الأكثر شيوعا بين النسابين, وهناك تقسيمات أخرى تعطي اسم العرب العاربة للعرب البائدة وللذين تحدروا من نسل قحطان. وهناك تقسيم ثالث يسمي العرب المتحدرين من نسل قحطان باسم العرب المتعربة والمتحدرين من نسل عدنان باسم المستعربة.

تساؤلات وشكوك

          لقد أشرنا في بدء حديثنا إلى أن نظام الأنساب هذا - على الرغم من أهميته - فيهِ الكثير من نقاط الضعف والغموض فضلا عن الفجوات التي لا يمكن سدها, ذلك أن المعلومات النَسَبِّية الجاهلية بقيت شفهية لمدة طويلة بعد ظهور الإسلام, ثم أخذت تحوم حولها شكوك وتساؤلات كثيرة, وأن بعض هذه التساؤلات والشكوك تستند إلى الحقائق الآتية:

          - لسنا نملك من الأدلة العلمية ما يثبت صحة هذا التقسيم أو بطلانه, وهناك بعض المعلومات الثابتة الصحة التي تتناقض مع بعض تفاصيل هذا التقسيم. فمثلا: هناك ما يثبت أن السبئيين كانوا يسكنون الشمال في أول الأمر وهاجروا من شمال الجزيرة واستقروا في الجنوب وأقاموا مملكتهم في اليمن, في حين أن النسابين العرب يقولون إن سبأ هو حفيد قحطان ووالد حمير وكهلان الفرعين الرئيسيين لعرب الجنوب. والشعوب التي عاشت في كنف الدول التي قامت في جنوبي الجزيرة -كسبأ ومعين وغيرهما - كانت تعد كأحفاد لحمير, ولم يكن لهؤلاء الذين تحدروا من صلب حمير دور مهم في الحقبة الإسلامية, بل إن من لعب الدور المهم في هذا العصر كان لأحفاد كهلان الذين كان من بينهم قبائل الأزد. ومن فروع الأزد قبيلتا الأوس والخزرج اللتان سكنتا المدينة (يثرب) وأصبحتا بعد قيام الإسلام تعرفان باسم الأنصار. أما لخم وغسان وكنده وقبائل أخرى من نسل كهلان فقد استقرت في الوسط وفي الشمال قبل ظهور الإسلام بمدة طويلة. وهكذا نرى أنه في القرن السادس ومطلع القرن السابع الميلاديين كانت قبائل كثيرة من أصل جنوبي تقيم في الشمال.

          - إن هذا النظام يقسم العرب أفقيا تقسيما ثلاثيا (عاربة - مستعربة - بائدة) ثم يقسمهم عموديا إلى أقسام منفصلة (قبائل) وهذا يعني أن العرب ليسوا شعبا واحدا وإنما جماعات إنسانية استمرت خلال العصور الطويلة محتفظة بعناصرها المكونة, دون تفاعل أو امتزاج, إن هذا القول لا يمكن أن ينطبق على عرب الجنوب في اليمن, مثلا, الذين أمضوا في حياة الاستقرار والحضارة ما يزيد على العشرين قرنا, كما لا ينطبق ذلك إطلاقا على عرب الشام والعراق.

          - لا نجد ذكرا لأي من عدنان وقحطان في أي نقش أو أثر يمني قديم, أو ثمودي أو صفوي وهي نقوش تعد بعشرات الألوف.

          - إن الشعر العربي قبل الإسلام (الجاهلي) - والذي يحتل فيه التفاخر بالأصل والنسب مكانة مهمة - لا يذكر إطلاقا عدنان ولا قحطان.

          - لو أجرينا عملية حسابية بسيطة لأجداد القبائل الواردة في سلاسل النسب حتى ظهور الإسلام على أساس معدل معقول الأعمار (50 سنة) مثلا, لوجدنا أن أقدمها لا يتجاوز في الوجود أكثر من (500 سنة), وهذا ـ بحد ذاته ـ يدعو للشك في صحة تلك الأنساب.

          - إن ما نعرفه من الأنساب, بشكل فيه بعض التوسع والتفصيل هو ما يتعلق بقريش وبعض قبائل الحجاز, وتضعف المعلومات بوضوح ثم تضطرب كلما ابتعدنا عن هذا المركز وخاصة إذا وصلنا إلى اليمن أو العراق.

          - لم يلاحظ علماء الأنثروبولوجيا وجود فوارق جثمانية بين (العدنانيين) و(القحطانيين).

  • إلى جانب كل ما ذكرناه, لم يصلنا أي أثر يشير إلى انقسام بين العرب في حياة النبي  محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى تجمعين رئيسيين.
  • لم يظهر أي انقسام من هذا النوع بين العرب في عصر الخلافة الراشدة.
  • لم يرد في الروايات الخاصة بتنظيمات عمر بن الخطاب لديوان العطاء, الذي تم ترتيبه على أساس القرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - والسابقة في الإسلام, ما يشير إلى انقسام أو تمييز بين القحطانية والعدنانية,
  • كذلك لم نشهد مثل هذا التقسيم في توزيع الجيوش العربية في زمن الفتوحات.

          وفوق كل هذه الشواهد فإن القرآن الكريم, وهو أهم مصدر عربي عن تلك الحقبة لم يفرق بين عرب قحطانية وعرب عدنانية, وكل ما جاء فيه أن العرب يرجعون إلى جد واحد هو إسماعيل بن إبراهيم, وأن إبراهيم عليه السلام هو أبو العرب, قال سبحانه وتعالى: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم

          إن الحجة التي استند إليها دعاة الانقسام إلى عدنانية وقحطانية هي تأصل العداء بين الجماعتين في الجاهلية والإسلام, وهي حجة ضعيفة لأنه كان هناك عداء أيضا بين القحطانيين بعضهم بعضا وبين العدنانيين بعضهم بعضا, وكيف يجوز لنا أن نتصور انقسام العرب إلى قسمين: قحطانيين وعدنانيين, انقساما حقيقيا, وقد كانت القبائل تتحالف فيما بينها وتتحارب مع بعضها البعض بأحلاف قد تكون مزيجة من قحطان وعدنان? فإذا كان الأمر كذلك, وإذا كان العرب قحطانيين وعدنانيين بالأصل, فكيف تحالفت جديلة وهي من طي من بني شيبان وهي من عدنان لمحاربة بني عبس? وكيف يفسر تحالف قبائل يمنية مع قبائل عدنانية لمحاربة قبائل يمنية أو لعقد محالفات دفاعية هجومية معها?

          وننتهي إلى القول إن تقسيم العرب إلى عدنانيين وقحطانيين أو (قيسية ويمنية), كما يسمى أحيانا, عرف في العصر الأموي, إبان النزاع الحزبي, وبعد شيوع نظرية التوارة في الأنساب, ورجوع النسابين إلى أهل الكتاب للأخذ منهم ـ كما يؤكد ذلك العلامة جواد علي - رحمه الله - إذ إن الانقسام المذكور لم يظهر في العصر الإسلامي السابق لظهوره في زمن الخليفة الأموي مروان بن الحكم (64 -65هـ /683 -684 م).

 

عبدالحكيم الكعبي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات