لطيفة الزيات.. حضور في الغياب

لطيفة الزيات.. حضور في الغياب
        

كان التواصل مع الأجيال دون فقدان للذات هدف حياة بالنسبة للكاتبة والأديبة والمناضلة لطيفة الزيات.

          ولدت لطيفة الزيات في 8 أغسطس عام 1923, ورغم مرور حوالي 9 أعوام على رحيلها (رحلت في ستمبر1996) فثمة حضور متجدد لامرأة تكاملت فيها المبدعة والناقدة والمناضلة لتصنع إنسانة يحق لنا أن نزهو بها كنساء, ونتباهى بفرادتها التي ترد على كل التحيزات ضد المرأة, بل ويعتز بها وطنها وأمتها أيما اعتزاز.

          أتذكر الآن مشاهد ووقائع ونحن في سجن القناطر للنساء سبتمبر 1981 ضمن الحملة التي شنها الرئيس الراحل أنور السادات على كل معارضي سياسات الصلح مع إسرائيل بعد اتفاقيات كامب دافيد بثلاثة أعوام, وكانت العلاقات المصرية - الأمريكية بدورها قد وصلت إلى طريق مسدود. وتحضرني مرة من مرات اشتباكنا نحن السياسيات مع مأمور السجن من أجل مطالب خاصة بحاجتنا لتغيير ظروف سجننا البائسة وإذا بي أنفجر فيه قائلة بغضب:

          - هل تعرف من هي (لطيفة الزيات) لا بد لك أن تعرف أن أمة بكاملها تنفق سنين وجهدا مضنيا حتى تأتي بامرأة مثلها.

          كان لا بد أن نغالي في تقديرنا لذاتنا دفاعا عن النفس, ولكنني مع ذلك لم أبالغ.

          في لحظة الغضب تلك استدعيت صورتها وهي في ثوبها الأسود مقبضة على الميكروفون في مقر حزب التجمع قبل ستة شهور من واقعة المواجهة مع مأمور السجن, كان مكتب الكتاب والفنانين في الحزب يحتفل بمرور خمسة وثلاثين عاما على انتفاضة عام 1946 الشعبية التي سقط فيها شهداء من الطلاب والعمال برصاص الاحتلال الإنجليزي الذي حاصر المتظاهرين فوق كوبري عباس, ثم فتح الكوبري فسقط متظاهرون في النهر وهي التجربة التي سجلتها (لطيفة الزيات) فنيًا حين وصفت في (الباب المفتوح) انتشال جثث الطلبة من النهر وأخذت (ليلى) تلفها بعلم مصر.

          واختار اتحاد الطلاب العالمي تاريخ 21 فبراير الذي حدثت فيه هذه الواقعة ليكون يومًا للطالب العالمي.

          كانت (لطيفة الزيات) هي الطالبة الجامعية الوحيدة التي انتخبها زملاؤها لتكون عضوًا في اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التي قادت النضال الوطني في طول البلاد وعرضها لبضعة شهور, وأخذت هي تتقدم المظاهرات, وتلقي بالخطب النارية التحريضية, وتقوم بأعمال التنظيم لتعبئة البلاد كلها من أجل إضراب شامل ضد الاحتلال والقصر والرجعية, وكانت البلاد تموج بالمنظمات السياسية والثقافية التقدمية, فإضافة إلى اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التي أدركت مبكرًا ضرورة التحالف بين المثقفين والعمال والكادحين كافة حتى تتشكل قيادة عامة للنضال الوطني الديمقراطي كانت هناك (دار الأبحاث العلمية), و(لجنة نشر الثقافة الحديثة), و(الجامعة الشعبية) ومجلات وصحف (الفجر الجديد), و(الجماهير) و(الملايين) و(الكاتب) إضافة إلى آلاف المحاولات والتجارب التي نجح بعضها وذوى البعض الآخر في زمن نهوض وطني ديمقراطي عارم.

          أخذت (لطيفة) أثناء الاحتفال بذكرى الانتفاضة التي شاركت هي في قيادتها تستدعي تلك السنوات البعيدة بصوتها القوي العذب المبحوح قليلاً وتقول للجمهور الحاشد بثقة: أنا لن أبكي على الأطلال رغم أن الأطلال كثيرة, وتعاهده أنها ستواصل الطريق الطويل في قلب الجماعة في مرحلة الهجوم الاستعماري الجديد.

لا وقت للبكاء

          وكانت صادقة, ذلك أن جماعة من المثقفين الوطنيين المصريين كانوا قد اجتمعوا قبل عامين بدعوة من مكتب الكتاب والفنانين في الحزب ليناقشوا دورهم عشية توقيع اتفاقية الصلح بين مصر وإسرائيل بعد كامب دافيد, وشكلوا (لجنة الدفاع عن الثقافة القومية) والتفوا حول (لطيفة الزيات) رئيسة للجنة وأما للجميع هي التي حرمت من الأمومة الطبيعية فبدت كأنها (صفية زغلول) زوجة الزعيم الوطني (سعد زغلول) قائد ثورة 1919 التي لم تنجب فأطلق الشعب عليها اسم أم المصريين الذي عرفت به بعد ذلك.

          استمر نشاط اللجنة لعشرين عامًا متصلة في مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني, وتعبئة جهود المثقفين والشباب بخاصة من أجل هذه المهمة, ويرجع الفضل لهذه اللجنة في منع إسرائيل حتى هذه اللحظة من المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب, وفي مهرجاني القاهرة السينمائي والمسرحي.

          وفي ذروة نشاط اللجنة ضد إسرائيل تلقى أعضاؤها رسائل تهديد من منظمة كاخ الصهيونية والتي كان يتزعمها مائير كاهانا رجل الدين اليهودي وأحد غلاة المتطرفين الصهاينة.

          وتعاونت اللجنة مع عدد من مؤسسات العمل الثقافي والشخصيات العامة في الوطن العربي وبشكل خاص المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي كان لايزال محتلاً, وسافرت (لطيفة) مع وفد من اللجنة لتحاضر في الجنوب اللبناني وتزور الحدود عنوانًا على الوشائج الفكرية والنضالية مع حركة التحرر العربي, وأوفدت اللجنة مجموعة من عضواتها إلى بيروت المحاصرة عام 1982 ليكن في وداع الفلسطينيين الذين غادروا لبنان تباعًا بعد احتلال إسرائيل للعاصمة اللبنانية.

          بلورت اللجنة برئاسة (لطيفة الزيات) صورة المثقف العضوي الذي ينخرط في مشروع جماعي لتغيير الواقع ويخرج من أسطورة البرج العاجي التي كان يدعو لها بعض كبار المثقفين وعلى رأسهم توفيق الحكيم.

          وكان التواصل مع الجماعة دون فقدان الذات هدف حياة بالنسبة لها, وموضوع التوتر الغني في عالمها الفني بين الذات والموضوع, الأنا والآخر, الفرد والمجتمع, وبين هذين الطرفين ولع مضن بمصالحة التناقضات, (والشجن الموجع يصل إلى مرتبة النشوة), وهي في الشيخوخة تسعى إلى (كمال لا طاقة لي به, أو كمال لا وجود له في هذه الدنيا).

من السياسة إلى الأدب وبالعكس

          ولم تكن مصادفة أنه من بين النساء الأربع والعشرين المعتقلات في أحداث سبتمبر 1981 كانت هناك خمس من عضوات لجنة الدفاع عن الثقافة القومية.

          وبعد عشرة أعوام من إطلاق سراحنا الذي كان قد تم عقب اغتيال الرئيس السادات كتبت لطيفة الزيات تجربة حبسها للمرة الثانية في (حملة تفتيش أوراق شخصية), وكانت قد تعرضت للسجن في المرة الأولى عام 1949 كعضو في منظمة شيوعية وكتبت تجربة اختفائها مع زوجها الأول وزميلها (أحمد شكري سالم) في رواية (صاحب البيت) التي طبعتها بطابع رمزي عن القهر الكوني, وصراع الإنسان للانفلات منه, والصعوبة الإضافية حين يكون الإنسان المنخرط في هذا الصراع امرأة.

          لم تبك (لطيفة الزيات) على الأطلال إذن, فلم يكن لديها وقت للبكاء هي التي اختارت أن تكون مبدعة بالمعنى الشامل, أي خلاقة تعيد تشكيل العالم على ثلاثة مستويات, مرة حين انغمست مبكرا في الفعل الجماهيري الثوري ضد الاحتلال والقصر والرجعية, (وملأت الزحمة وعيها بألوانها وأشكالها وروائحها) وعادت بعد انقطاع وهي في شيخوختها تواصل الفعل الجماهيري من جديد بعد أن أنهت زواجها من الكاتب المسرحي والأستاذ الجامعي (رشاد رشدي) الذي كان اختياره الفكري نقيضًا لاختيارها.

          وكانت (لطيفة) مبدعة مرة ثانية حين استجمعت طاقاتها الشعورية وخبرتها الحياتية وتناقضات حياتها لتكتب أدبًا جميلاً, (وأسندت رأسها بيديها حتى لا يطير, يؤرقها دائمًا شوق للتواصل ولإعادة بناء هذه اللحظة واستدعائها في أفق جديد أحيا الصبية من جديد, وأنا الآن هي, كياني وهج جسدي, وهج يشع, يزغرد بتشوقات الصبية المكتومة, التي لم تعد مكتومة, وأنا الآن أنا ومسام جسدي الخامد تتفتح, ترق تعمق, وأنا أتواصل في لحظتي الراهنة مع سامي...) وسامي هو حبها الأول في الماضي الجميل وهو بيتها الذي أزهرت فيه شجرة المشمش في (حملة تفتيش أوراق شخصية).

          وأبدعت مرة ثالثة كأستاذة جامعية تنسج علاقات حميمة مع طلبتها, وناقدة تقرأ الأعمال الأدبية بعين فاحصة وتضيئها لتكشف الأفق الاجتماعي للعلاقات الجمالية وكيفية تخلقه وتشكّل الدلالات فيه.

          وأتوقف هنا أمام لحظة الفعل الجماهيري كعمل إبداعي لأنها انشغلت أيّما انشغال بها على هذا النحو باعتبارها خلقًا.

للإبداع أكثر من معنى

          تقول هي في تعريفها للحرية:

          (وتبقى الحرية المصاحبة لعملية الإبداع حرية فريدة لا يوازيها عندي إلا الحرية التي يمارسها الإنسان في أثناء العمل الجماهيري في حال مد ثوري, وهو شرط لم يتوافر في الفترة الأخيرة, ففي الإبداع والعمل الجماهيري, دون بقية النشاطات, ينشغل الإنسان بكليته مجتمعة بكل قدراته الإنسانية, سواء منها العقل أوالحسّ  أو الوجدان, وفي كل من المجالين يعيد الإنسان في حرية إنتاج ذاته وإنتاج واقعه ويمارس أسمى أنواع حريته...).

          وتحتاج هذه الفكرة إلى بحث وتأصيل في كل من ميادين السياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاتصال لعلها تفتح ميدانًا جديدًا للبحث يتوسع فيه معنى الإبداع.

          في اللحظة الجماهيرية يتحول الفعل السياسي إلى يوتوبيا رغم حقيقة أنه فعل, لكنه كفعل يتجاوز كل حدود الحسابات النفعية الضيقة قافزًا فوق الممكن إلى الاحتمال لجعله ممكنًا, وهو يجذب هذه اليوتوبيا إلى الأرض, إلى الواقع الذي تستهدف اللحظة الجماهيرية تغييره إلى الأفضل حين تستلهم قيمًا عليا نبيلة أساسها العدل والمساواة وكرامة كل البشر, وفوق كل شيء حريتهم التي تبلغ في هذه اللحظة ذاتها ذروة من ذراها, وحين يكون المجتمع الأجمل أقرب إلى البشر من حبل الوريد وكأنه في حال تشكّل, وحين تتفجّر الأضواء السحرية لأعياد المقهورين حيث يتجادل الواقع الموضوعي الذي أنتج اللحظة وجسّدها في حشود جماهيرية فاعلة مع الاختيار الذاتي للمناضل ومع حريته الطليقة أخت الحلم وقاعدة إطلاقه, حينها يكون الفاعل هنا رجلاً أو امرأة إنسانًا مبدعًا قادرًا على أن:

يمد إيده في الضباب يشد أنوار الصباح


          على حد تعبير الشاعر أحمد فؤاد نجم.

          وفي لحظة الكتابة الإبداعية ثمة عملية احتشاد للطاقة الشعورية للمبدع, هدم وبناء نشدان نزيه للجمال والحرية, وتكثيف ثم إطلاق يُحدث لقاء سعيدًا بين الحلم والخيال وتشدهما خيوط غير مرئية لواقع يتحول, وتتوافق نبضات القلب مع إيقاع العمل الذي يتلقى إشاراته من هذا الواقع الاجتماعي - الاقتصادي وهو يعيد تركيبه مستهدفًا تجاوزه وهو يمد يديه إلى النجوم فيطالها, والمبدع في هذه الحال هو جزء من كل كوني يتحرّق شوقًا للتواصل معه.

          هل هذا هو ما قصدته (لطيفة الزيات) بالتشابه بين العملية الإبداعية والفعل الجماهيري الثوري.

          لطيفة الزيات الحاضرة حضورًا آسرًا في هذه اللحظات الإبداعية الثلاث رغم غيابها, لا أدري إن كان هذا هو بالضبط مقصدها لكنها قراءتي.

 

فريدة النقاش   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لطيفة الزيات