ثلاثة دولارات ثمن تذكرة الدخول وخمسة دولارات لاستخدام الكاميرا
العادية وفوقهما 25 دولارا ثمنا لكاميرا فيديو بحجم كف اليد ودولاران أيضا للسائق
المرافق, المجموع الكلي هو 35 دولارا أمريكيا يدفعها الزائر ثمنا لمشاهدة مزرعة
الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي في كوبا. عفوا. عفوا لقد نسيت احتساب ثمن تذكرة
زميلي المصور, إذن يصبح المجموع النهائي 38 دولارا فقط لا غير, مع العلم أن الدخول
والتصوير محظوران في بعض المواقع بعد تمادي أصحاب الأيدي الخفيفة في إخفاء بعض
محتويات همنجواي تحت ملابسهم, أو خشية تلفها بحجة الاطلاع عليها لبرهة.
عاش الكاتب والروائي الأمريكي إرنست همنجواي (1899 - 1961) حياة حافلة
بالتنقل والمخاطرات المميتة, فمرة كاد أن يقضي في الحرب العالمية الأولى, وفي
الثلاثينيات ناطح ثيران إسبانيا, ووسط أدغال إفريقيا هوت به طائرة خفيفة ونجا منها
بأعجوبة, وركب بعدها طائرة ثانية فسقطت به ونجا!!!
وأخيرا استقر به المقام في كوبا لعشرين عاما مارس فيها أجمل هواياته -
وهي صيد أسماك المارلين - التي أوحت له برواية (العجوز والبحر), التي أوصلته لنيل
جائرة نوبل عام 1954, وكانت تلك هي الفترة الذهبية في حياة إرنست همنجواي.
شخصية همنجواي
مغامر أقرب إلى الجنون, برأينا هذا هو الوصف المناسب لشخصيته التي لم
تتغير حتى مع تقدمه في السن وانتقاله من مرحلة إلى أخرى, كان عصبيا ومحبا للشجار -
مارس رياضة الملاكمة وفشل - وشجعه بصورة خاصة جسمه العملاق ومنكباه العريضان. وكانت
لهذه الطباع الحادة انعكاساتها على حياة همنجواي الزوجية إذ ارتبط بأربع زيجات
فاشلة, وأشيع أنه تزوج للمرة الخامسة عندما كان في إفريقيا من زوجة كانت تنتمي إلى
إحدى القبائل الوثنية.
ويمكن القول إن همنجواي هو (قط بسبعة أرواح), إذ نجا من الموت المحقق
عدة مرات, فخلال الحرب العالمية الأولى انفجرت بالقرب منه قذيفة مورتر قتلت ثلاثة
جنود كانوا بجانبه وكان وقتها يعمل لحساب الصليب الأحمر على الجبهة الإيطالية,
وخلفت تلك القذيفة عشرات من الشظايا التي استقرت في ركبتي همنجواي وسببت له عرجا
خفيفا ظل يلازمه أثناء المشي. وفي إسبانيا شارك همنجواي في لعبة مصارعة الثيران دون
خبرة سابقة بتلك اللعبة الخطيرة ولولا حظه الجيد لكانت قرنا الثور الذي تلاعب معه
قد اخترقت بطنه ولكنه أصيب بجروح خطيرة. وأخطر الحوادث التي مرت على همنجواي هي
سقوط الطائرة به مرتين متتاليتين في إفريقيا.
وإلى جانب إسرافه في الشراب الذي لم يكن يفارقه, حتى وهو يمارس هواية
الصيد, كان همنجواي مقبلا على الطعام بكل جوارحه, وخصص لتلك المتعة جيشا من الخدم
والطباخين الكوبيين ليقدموا له أشهى وألذ الوجبات الكوبية, والمأكولات التي تعد على
الطريقة الصينية.
وفي لحظاته الأخيرة مع الحياة أغرت (المغامرة) همنجواي فأقحم عليها
(الجنون) باختياره وأطلق على نفسه رصاصة النهاية ليوقف مسلسل عذابه مع الأمراض التي
فتكت به.
لماذا كوبا بالذات?
لم تكن جزيرة كوبا الواقعة في حوض البحر الكاريبي مجرد ملهى خلفي يقع
بالقرب من الولايات المتحدة الأمريكية, فما أكثر الدول التي تتوافر فيها وسائل
الترفيه لجميع الأعمار والأذواق وأمريكا نفسها متخمة بنوادي القمار والملاهي
الليلية. فحتى شواطئ الفاراديرو ذات الرمال البيضاء, التي تظللها أشجار جوز الهند
ذات السيقان الطويلة, يوجد شبيه لها في أغلب جزر الكاريبي, ولكن كوبا كانت حالة
خاصة من التناقض المضحك, إذ ساهمت في جذب عشاق السيجار والمتزوجين حديثا ومدمني
المقامرة من جهة وكبار رءوس عصابات المافيا والقتلة المأجورين من جهة أخرى, وبين
هؤلاء وهؤلاء سياسيون وفنانون ومطربون ولاعبو بيسبول وملاكمون وكتاب ومؤلفون مثل
همنجواي.
وقد قدم فيلم العراب (الجزء الثاني) لمحة سريعة وعميقة الدلالات عن
تلك الفترة حينما استعرض واقع النفوذ الذي تتمتع به عصابات المافيا على حكومات ما
قبل ثورة فيديل كاسترو في الأول من يناير 1959, ذلك النفوذ الذي تلاشى بفضل نجاح
ثورته.
لم يكن اختيار همنجواي لكوبا موطنا له ما بين عامي (1940 - 1960)
نابعا من الصدفة أو مغامرة من مغامراته المتسلسلة, فقد اجتمعت أسباب كافية هيأت
الأجواء وكثفتها, حتى يتخذ قراره بالاستقرار. أولها تعلقه الشديد بهواية صيد سمك
المارلين, والثاني حاجته إلى مكان هادئ يصلح للكتابة, والثالث قرب كوبا من موطنه
الرئيسي أمريكا فهي لا تبعد عن ميامي أكثر من 90 ميلا. في الرحلة لوصوله إلى كوبا
مع زوجته الثالثة الصحفية مارثا جيلهورن. ظل همنجواي يدرس قرار الانتقال خلال وجوده
بفندق امبوس موندوس, الذي لا يزال إلى يومنا الحاضر يفاخر باختيار همنجواي الطابق
الخامس منه كمحطة أولى قبل استقراره بكوبا, ولم يتأخر القرار طويلاً, إذ استأجر
همنجواى مزرعة كبيرة مساحتها أربعة هكتارات في منطقة خارج العاصمة هافانا, ما لبث
أن اشتراها, واشترى إلى جانبها يختا باهظ التكاليف اسمه (بيلار). ولعل الـ 150 ألف
دولار التي دفعتها شركة بارامونت السينمائية لشراء رواية (لمن تقرع الأجراس?) عجلت
في اتخاذ همنجواي لقرار البقاء في كوبا.
عالم همنجواي
كانت محتويات مزرعة همنجواي مكونة من منزل بدور واحد صبغت جدرانه
باللون الأبيض, وبالقرب منه يوجد حمام سباحة وملعب تنس لم يستعمل قط, وبرج شيد
لاحقا من قبل الزوجة الرابعة لهمنجواي ماري ويلش ليكون المكان الذي سيكتب فيه,
ومصيره كان كمصير ملعب التنس. لم يستعمل قط اللهم إلا للنظر من بعيد على معالم
العاصمة هافانا.
ولأن التصوير كان ممنوعًا داخل الصالة ظل زميلي يحوم حول المنزل ويطل
من النوافذ التي تطل على الداخل عله يصطاد منفذًا يلتقط منه الصور المناسبة,
والغريب أن بعثة تلفزيونية يابانية كانت تصول وتجول ليس داخل المنزل, وإنما في
المزرعة بأسرها ولكن هيهات أن يتساوى العالم الأول مع العالم الثالث, وحتى على أرض
دولة اشتراكية عتيقة ككوبا, وبعد محاولات عديدة غير مجدية أشفقت علينا إحدى
المرشدات وسمحت فقط لزميلي المصور بأن يدخل بسرعة ويلتقط ما شاء من الصور, المهم
بسرعة قبل أن يأتي المراقب, وبخبرته العريضة في هذه المواقف التقط سليمان ما نحتاج
إليه من الصور وأكثر.
وفي داخل البيت - الذي يحتل وسط المزرعة - يمكن مشاهدة العديد من
خزائن الكتب منتشرة في كل زاوية من زواياه, وعلى الجدران علقت رءوس الطرائد التي
أصابتها بندقية همنجواي في أدغال وسهوب إفريقيا. أرضية المنزل لم تكن مفروشة بأي
قطعة سجاد كحال أي بيت في كوبا نظرا لارتفاع درجات الحرارة والرطوبة طوال العام وما
عدا بعض قطع الفراء لحيوانات متوحشة ألقيت على الأرض هنا وهناك فلا يوجد ما يذكر.
وتطل جميع غرف المنزل على صالة المنزل الفسيحة التي أثثت بعناية, لتتناسب مع نمط
الجلسات الطويلة التي كان يفضلها همنجواي, وهذا الشيء متوقع, فمن يرد زيارة مزرعة
همنجواي البعيدة عن هافانا فلابد أن يكون قد خطط لزيارة طويلة تتضمن وجبة رئيسية.
وتحتوي الصالة على أريكتين كل منهما تحمل شخصًا واحدًا وأريكة عريضة تكفي ثلاثة
أشخاص وكرسيين وأمام بعض الأرائك وضعت قطع إسفنجية مستديرة على قاعدة خشبية لتوضع
عليها الأقدام الممددة.
ومن خلال نافذة مفتوحة تطل على حمام همنجواي أرشدتني الموظفة الحنون
نفسها التي سمحت لنا بالتصوير, إلى الأرقام التي كان همنجواي قد سجلها في أيامه
الأخيرة في كوبا وكأنها جداول إحصائية, كتبت في منطقة محددة خلف باب الحمام, وشرحت
لي المرشدة أن تلك الأرقام هي وزن همنجواي الذي أخذ بتسجيله بصورة يومية بعد أن
تعرض لحالة من عدم الاستقرار في وزنه, ولكي يتمكن من رصد تلك التغييرات اشترى آلة
لقياس الوزن وأخذ يستعملها بصورة دورية, كي يتابع حالته الصحية المتدهورة.
ووسط غابة كثيفة من الأشجار الاستوائية تحولت مزرعة همنجواي إلى مركز
مهم لالتقاء أشهر زوار كوبا, وأشيع خلال الحرب العالمية الثانية عن تحول مزرعة
(فييخا) - كان ذلك هو اسم المزرعة - لمنظمة تكافح النازية, وهمنجواي نفسه انشغل في
البحث عن السفن الألمانية التي تجوب المياه القريبة من كوبا للإبلاغ عنها دون نتائج
إيجابية تذكر, وبسبب كثرة هذه المشاغل تدهورت علاقة همنجواي بزوجته مارثا التي فضلت
الطلاق وهذا ما كان.
كنز سياحي
آلت مزرعة همنجواي بعد وفاته إلى الشعب الكوبي, وذلك تنفيذا لوصيته
التي طلب فيها إبقاء كل شيء في المزرعة في مكانه, وقد استثمرتها الحكومة الكوبية
كمصدر يدر عليها الأموال وبالعملة الصعبة, بعد أن حولت تلك المزرعة إلى متحف مفتوح
للزوار, يشاهدون فيه جميع مقتنيات همنجواي, كما أصبحت زيارة منزله ركنا أساسيا في
برنامج الوفود الإعلامية والرسمية لكوبا. ويندر أن يتجاهل السياح الأمريكيون ـ
الذين يتجاوزون الحظر الفيدرالي على كوبا ـ زيارة مزرعة همنجواي أو فندق أمبوس
موندوس, أو المرفأ الذي سمي باسم همنجواي, وهؤلاء السياح تزايدوا أوائل التسعينيات
من القرن الماضي بعد أن شجع الرئيس كاسترو علنا على تحدي قرارات الحظر الأمريكي.
وأعطيت تعليمات واضحة لجميع المنافذ الكوبية بعدم ختم الجوازات الأمريكية - دخولا
ومغادرة - حتى لا يتعرضوا للمساءلة القانونية من قبل حكومتهم.
إن مبلغ 38 دولارا أمريكيًا كتلك التي دفعتها بعثة مجلة (العربي) لمن
لا يعلم تعادل مجموعة من الرواتب التي يتقاضاها أصحاب وظائف مرموقة اجتماعيا
كالطبيب والمهندس ومثل هؤلاء يتقاضون رواتب شهرية هزيلة لا تزيد على عشرة الدولارات
الأمريكية.
والحق فإنني لا أظن أن الحكومة الكوبية تستفيد من متحف مزرعة همنجواي
أو غيره من المتاحف الأخرى الشهيرة كمتحف مقتنيات الثورة, أو منزل شاعر كوبا الأول
خوسيه مارتي, لسبب بسيط هو كثافة الموظفين العاملين في تلك المتاحف, إذ يجدهم
الزائر في كل زاوية - ربما لحماية المقتنيات من السرقة - وكان الأجدر بالسلطات
المختصة تركيب كاميرات مراقبة أو تشديد الرقابة على بوابات الخروج وكفى الله
الكوبيين القتال.
الثورة والنهاية الدموية
لم يغادر همنجواي كوبا بعد نجاح ثورة كاسترو عام 1959 م مثل الكثيرين
من الأجانب الذين توجسوا خيفة من القادم المجهول, بل العكس من ذلك مارس همنجواي
مغامرته الأخيرة بتأييده المطلق للثورة وتقرب من كاسترو لدرجة أن الاثنين قاما
بتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقة لصيد سمك المارلين, وكان همنجواي قد أصيب
بالاكتئاب بعد وفاة أمه وزوجته الأولى وبعض المقربين منه ما دعاه لتلقي علاج
بالصدمات الكهربائية, يتلخص بتمرير حوالي مائة فولت كهربائي عبر مخه خلال أجزاء من
الثانية, وقد نجح هذا العلاج في تخليص همنجواي من الاكتئاب, ولكن بعد أن خسر كفاءة
قدرته على التذكر, وهو ما اعتبره همنجواي وأي كاتب خسارة كبيرة لا تعوض.
ومع شعوره بدنو الأجل عاد همنجواي إلى مسقط رأسه في ضاحية أوك بارك في
مدينة شيكاغو وظل يصارع المرض فيها, إلى أن قرر أن ينهي حياته بالطريقة نفسها التي
قضى بها والده, وفي صبيحة الثاني من يوليو 1961 م انسل إرنست همنجواي إلى غرفة
مكتبه وتناول بندقيته العزيزة ذات الماسورتين ووجهها إلى جبهته ثم ضغط على الزناد
لتنطلق منها عاصفة نارية حطمت الجزء العلوي من رأسه منهية حياة كاتب كبير عاش ومات
مقبلا على الدنيا ومدبرا عن همومها أو همومه بمعنى أدق.