سيرة النساء اللواتي تعرّفن بفرويد ودخلن بيته, وحركته التحليلية
النفسية سيرة مثيرة وجديرة بالعناء. ليس لرصد سلوك رجل عوّل في نظرياته أشدّ
التعويل على الجنس والطاقة الجنسية وحسب, وإنما أيضًا لأن سيرة هؤلاء النساء ذاتها
فيها من الدراما, ولحظات التألق والسقوط, والبطولة والضعف - بل الخسّة في بعض
الأحيان - ما يشبع كلاً من فضولنا النفسي والمعرفي.
هذا الأمر يمكن أن يعيد إلى الأذهان ما يردّده العامة من أن الفلسفة
وعلم النفس طريق سالك إلى الجنون. غير أنها أيضًا سيرة الإنجاز الشخصي والفكري
الألمعي, سيرة نساء تمكّن من أن يحفرن أسماءهن بكل قوة وثقة إلى جانب أسماء رجال
كبار من خلال ما تركنه من منجزات فكرية وعلاجية ناصعة, وكذلك من خلال ما أبدينه من
صنوف التحرر الشخصي, مهما قيل في هذا التحرر.
لقد اجتذبت حركة التحليل النفسي, وفرويد شخصيًا, عددًا كبيرًا من
النساء اللواتي شكّلن في أواخر حياة فرويد ما يشبه (البطانة) أو الحلقة الخاصة
المحيطة به والتي راحت تتحكّم بمواعيده, وتحدد من يقابل من الزائرين, والأمكنة التي
يقضي فيها عطلاته, وغير ذلك من الأمور. غير أننا قبل أن نبدأ بتناول هؤلاء النساء,
ربما كان من المفيد الإشارة إلى علاقة فرويد بنساء أقدم منهن: أمه, وأخواته,
وزوجته, وأخت زوجته وسواهن, لتأتي سيرة تلميذاته في النهاية كيما تحتل مكانها من
سيرة حياته على هذا الصعيد, علمًا أن الصورة لا تكتمل في الحقيقة إلا بوضع ذلك كله
في سياق رؤية التحليل النفسي الفرويدي للمرأة, الأمرالذي لايتّسع له المقام.
معروف أن فرويد لم يكثر من الإشارة إلى إخوته في كتاباته. لكنه كان
يشبّه حياة أسرته بكتاب تشكّل البنات (وكنّ خمس بنات) صفحاته, بينما يشكّل هو وأخوه
ألكسندر الغلافين. ويبدو أن حاجات فرويد ورغباته كانت المحور الذي دارت من حوله
حياة أسرته اليهودية التي كان طبيعيًا, بسبب التمسّك بالتقاليد, أن تكون الحظوة
فيها للذكور. فحين أزعجه صوت بيانو شقيقاته اختفى هذا الأخير إلى الأبد. فهو صاحب
الحظوة لدى أمّه المتدينة إلى حدّ التصوف, والتي تنبأت له بمستقبل زاهر, ولم يكن
همّها سوى أن تحقق له كل ما يرغب فيه. ومن جهته, فقد كان فرويد شديد التعلّق بأمّه
حتى أواخر حياته, خاصة إذا علمنا أنها عاشت حتى الخامسة والتسعين ولم تسبقه إلى
الموت إلا بتسع سنوات فحسب. وكان فرويد يزورها كل صباح, أما هي فكانت تأتي إلى بيته
كل مساء أحد لتتناول العشاء عنده, في حين لم يكن يفرد لأي من أفراد أسرته مثل هذا
الوقت, بما في ذلك زوجته. ومما يشير إليه معظم كتّاب سيرة فرويد أن علاقته بأمه كان
لها أعمق الأثر في تمتّعه بالثقة بالنفس, وهو ما يتفق مع رؤيته هو نفسه أن الذي
يكون مفضّلاً عند أمّه يتمتّع بثقة بالنجاح تكون كفيلة بأن تولّد النجاح الفعلي في
أغلب الأحيان. ومرّد هذه الثقة, بحسب فرويد, إلى الأمان الذي يوفّره حبّ الأم, على
الرغم من أن هذا الأمان يشير أيضاً, وبحسب إريك فروم, إلى جانب سلبي يتعلق بخلق
شعور من الاكتئاب والسلبية حين يلوح ما يقلل من المحبة والإعجاب المطلقين.
الحب الأول
وكان أول حبّ لفرويد في السابعة عشرة من عمره, وقت دخوله الجامعة, إذ
أحبّ (جيزيلا فلوس), ابنة الأسرة التي استضافته, وكانت في الخامسة عشرة. لكن لقاءه
معها لم يدم أكثر من أيام معدودات, عادت بعدها إلى مدرستها, في حين راح يطوف في
الغابات وحيدًا وحزينًا يحلم بالزواج منها, بل إنه تذكّرها بعد ثلاثين عامًا من
خلال هفوة دفعته لأن يكتب اسمها على ملفّ مريضة تحمل اسمها الأول. أما حبّ فرويد
الثاني والمعروف فكان مارتا, التي غدت زوجته, وقد خطبها وهو في السادسة والعشرين
وقضى معها في فيينا تسعة أشهر لم تكن بالأشهر المميّزة, ولكن ما إن باعدت المسافة
بينهما طيلة أربع سنوات من الخطبة حتى جمع بينهما (حبّ عظيم) عبّرت عنه تسعمائة
رسالة غرامية من جانبه, اتّسم في كثير منها بالعجرفة والرغبة العارمة في إحكام
سيطرته عليها والغيرة من أي شخص تكنّ له شيئًا من المودة أو المحبة, حتى أن هذه
الغيرة طالت أمها وأخاها, إذ طلب منها في إحدى الرسائل ألاّ تكتفي بانتقادهما, بل
أن تشاركه كراهيته لهما.
ويجد قاريء رسائل فرويد إلى مارتا صورة لما كان فرويد يأمله لزواجهما,
فهو يقول لها في واحدة من هذه الرسائل: (سأدعك تديرين البيت كما يحلو لك,
وستجازينني على ذلك بعطفك وحبك وتعاليك عن السفاسف وزلاّت السلوك التي كثيراً ما
تجعل النساء موضع احتقار. وبقدر ما تسمح أعمالي بأوقات فراغ, فإننا سنطالع معًا
كتبًا تروق لنا, وسوف أطلعك على أمور لا يمكن لها أن تثير اهتمام فتاة ما لم تشارك
زوجها المقبل حياته الحميمة). وهو يقول لها في رسالة (غزل): (ويلك مني عندما آتي
إليك يا أميرتي, سوف أقبلك حتى أدميك وسوف أغذيك حتى تسمني. وإذا ما تحسّنت فسوف
ترين من هو الأقوى, فتاة رقيقة لا تأكل بما فيه الكفاية أم رجل متوحش كبير يسري
الكوكايين في جسمه?) (كان فرويد في هذه الفترة يقوم بدراسات تجريبية على الكوكايين,
حيث جرّبه على نفسه).
إن مثل هذه الرسائل هي التي دفعت بواحد من أخلص أتباع فرويد, وهو
أرنست جونز, لأن يرى في نظرة فرويد إلى المرأة نظرة متخلفة قابلة بلا ريب لأن تعدّ
نظرة عفى عليها الزمن, مع أن جونز يردّ ذلك إلى البيئة والعصر أكثر مما يردّه إلى
عامل شخصي. فمن الواضح من رسائل فرويد, ومن اختياره للمرأة التي أحبّ, ومن تنظيره
لقضية المرأة ونفسيتها, ومما كان يريد أن تكون عليه علاقته بتلميذاته, أن ثمة
نموذجًا كان ماثلاً في ذهنه هو نموذج المرأة الطيّعة, نموذج الملاك المكلّف بالسهر
على راحة الرجال وتأمين حاجاتهم. ولا ريب في أن لهذا النموذج جذورًا في ثقافة فرويد
المستمدّة من أوربا العهد الفيكتوري وكذلك من ثقافته اليهودية التي يردّد فيها
الرجال في صلواتهم: (أشكرك يا ربّ, لأنك لم تخلقني امرأة), وتردّد فيها النساء:
(أشكرك يا ربّ, لأنك خلقتني وفق مشيئتك).
هكذا أتت نظرة فرويد إلى المرأة مصطبغة بما تتميّز به التبريرات
البطريركية من ضعف وابتسار. وكان يرى أن سيكولوجية النساء بمنزلة (القارة المظلمة)
التي تبعث على الحيرة والبلبلة وتقتضي الحذر والاحتراس أكثر بكثير من سيكولوجية
الرجال. وقد قال ذات مرّة لماري بونابرت: (إن السؤال الكبير الذي لم تتم الإجابة
عنه أبدًا, والذي لست قادرًا بعد على الإجابة عنه, على الرغم من ثلاثين عامًا من
البحث في النفس الأنثوية هو: ما الذي تريده المرأة?).
أيهما الزوجة?
وعلى أي حال, فقد وضع زواج فرويد من مارتا حدّاً لذلك الحبّ المضطرم
الذي عرفته فترة الخطبة. ويبدو أن السبب في ما كان عليه هذا الزواج من تقليدية ومن
انطفاء للحبّ هو فشل فرويد في أن يجعل منها كائنًا على صورته. فهي لم تكن طيّعة بما
فيه الكفاية, ولذا فقد وجد في (مينا) أختها ذلك الرفيق الذي كان يريد صنعه من
زوجته. وكانت مينا قد جاءت في سن الحادية والثلاثين لتعيش مع عائلة فرويد عام 1896
بعد وفاة خطيبها, وصارت أمًا ثانية لأطفال فرويد وعاشت معهم حتى وفاتها عام 1941
دون أن تتأثّر الصلة الوثيقة بين الشقيقتين. ويبدو أن مينا كانت أكثر ثقافة من
مارتا, إذ غدت سندًا حقيقيًا لفرويد في عمله. وكان يروقه أن يناقش أفكاره معها, كما
كانت شريكه المفضّل في لعب الورق ورفيقه في أسفاره الكثيرة. ومع ذلك فإن أكثر
الكتابات التي تناولت هذه العلاقة تشير إلى أنها لم تتحول إلى علاقة غرامية, وأن
فرويد ظلّ مخلصًا لمارتا. وثمة من يرى أن فرويد كان لديه ضرب من الفصام في حياته
العاطفية, حيث احتفظ لمارتا برغباته الجنسية, في حين انزاح انشغاله الروحي صوب
مينا. ويبدو أن فرويد كان مفرطاً في طهرانيته وعفّته ولم يشغل الجنس حيّزًا مهمًا
في حياته الشخصية قياسًا بالحيّز الذي شغلته فتوحاته العلمية في هذا المجال.
وفي أواخر حياته, أحيط فرويد بعدد كبير من النساء. فحتى عام 1924 كانت
قائمة تلاميذه خالية منهن. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا, صارت للنساء الأولوية والصدارة.
ولعله اكتشف في تلك السنّ أنهن أقل منافسة وعنادًا من الرجال. ولقد شكّلت تلميذاته
في هذه المرحلة طابورًا طويلاً من (البنات بالتبنّي): ميرا أوبرهولزر, أيوجينيا
سكولنيكا (محلّلة أندريه جيد البولونية التي ذكرها في روايته (مزيفو النقود), وقد
انتحرت بالغاز عام 1934), هيرمن فون هوج هيلموت, هيلين دويتش, ماري بونابرت, روث
ماك برونشفيك, لو أندرياس سالومي, وغيرهن ممن قدمن إليه عن طريق صداقتهن مع ابنته
آنا,إضافة إلى ميلاني كلاين. وهكذا, فإن فرويد الذي لم يعرف عنه حبّ النساء في
شبابه وجد نفسه, على الرغم من تقدمه في السن واعتلال صحته, محاطًا بسرب منهن. ومع
أنه لم يجهد نفسه بالتقرّب من هؤلاء النساء أو التزلف إليهن, إلاّ أنه لم يبتئس
أيضًا لوجود ما يشبه الحاشية الملكية من حوله. وفي خضمّ انشغاله بعمله ومعاركه مع
العالم الخارجي, وجد نفسه مستسلمًا ليس لامرأة واحدة فحسب, وإنما لمجموعة من النساء
اللواتي رحن يرسّخن أقدامهن في مهنة بدا أنها ترحّب بالمواهب الأنثوية وتحتفي بها,
كما بدا أنها تقذف بصاحبات هذه المواهب إلى مصائر غريبة أشدّ الغرابة.
إدمان وموت
ولو أخذنا ثلاث حالات فقط لوجدنا غرابة هذه المصائر في أوضح تجلياتها.
وأولى هذه الحالات هي حالة روث ماك برونشفيك. وهي واحدة من أقرب تلميذات فرويد إلى
نفسه, بل كانت أقربهن على الإطلاق منذ عام 1930 وحتى وفاته. فقد كانت مثل فرد من
أفراد أسرته. ولعبت دورًا كبيرًا - بوصفها أمريكية - كوسيط بين المحللين الأمريكيين
وحلقة فرويد الضيقة في فيينا, كما كانت القناة التي جاء عبرها الأثرياء الأمريكيون
إلى فرويد طلباً للتحليل. بل إن آنا ابنة فرويد كانت تغار من التصاق روث بأبيها.
وعلى الرغم من إنتاج روث العلمي المتميز وعملها الناجح كمحللة نفسانية فإن صحتها
كانت معتلّة دون أن يتمكن الأطباء من تشخيص أمراضها تشخيصًا قاطعًا على أنها أمراض
عضوية. وفي إحدى المرات كشف هؤلاء الأطباء كمية من الزرنيخ في دمها دون أن يتضح
مصدر هذا التسمم. كما كانت تستخدم المورفين للتغلّب على الآلام الفظيعة التي كانت
تنتابها, إلى أن رحلت فجأة عام 1946 بعد تناول كمية كبيرة من الأفيون. والحقّ أن
ثمة من تساءل من الكتّاب عمّا إذا كانت أمراض روث قد تفاقمت من جرّاء تعلّق بفرويد
لم يلق حلاًّ له, وعمّا إذا كانت قد اعتبرت سفره إلى لندن حيث توفي بمنزلة نبذ لها,
خاصة أن فرويد كان قد ملك عليها حياتها في سنواته الأخيرة, وهي لم تفقد بموته ذلك
الرجل الذي احترمته طوال عمرها فحسب, وإنما أيضًا مصدرًا من أهمّ المصادر فيما
يتعلق بإرضائها لذاتها.
والحالة الثانية هي حالة آنا فرويد, وريثة أبيها على رأس حركة التحليل
النفسي, حيث كانت آنا تغار من النساء اللواتي يحظين بأهمية في حياة والدها, وكانت
تعتقد أن شدّة غيرتها تصلح لأن تكون مقياسًا لمدى أهمية امرأة ما عند والدها, كما
كانت تفخر بأن والدها قد أمسك نفسه عن جميع النساء اللواتي سعين وراء حبّه, وأنه قد
اقتصر على الإفادة منهن في نشر التحليل النفسي وتوسيع نطاقه. وكانت آنا المولودة
عام 1895 آخر أطفال فرويد, وكانت خجولة وجميلة في صباها حتى قيل في فترة ما إن كل
عازب في حلقة فرويد كان يسعى إلى الزواج منها. ولكن آنا لم تتزوج مطلقًا وكرّست كل
حياتها لرعاية والدها وللتحليل النفسي, خاصة تحليل الأطفال, ونأت بنفسها عن الملابس
الأنيقة والعصرية وراحت ترتدي ثيابًا طويلة فضفاضة إلى الكاحلين وتقصّ شعرها قصيرًا
وتخوض معارك عنيفة في الذود المتزمّت عن تراث والدها.
امرأة شهيرة
أما الحالة الثالثة فهي حالة لو أندرياس سالومي, التي ولدت عام 1861
وتوفيت عام 1937, وكانت امرأة شديدة الشهرة من قبل أن تتعرّف بفرويد. فقد وقع نيتشه
في حبها وطلب يدها, وكذلك صديقه الطبيب الملهم بول ري, كما أقامت علاقة حميمة مع
الشاعر الكبير ريلكه. وعندما انضمّت إلى حلقة فرويد بهدف تعلّم التحليل النفسي,
أرادت أن تحصل على المعلم, وحين لم يتم لها ما أرادت اختارت أنبه تلاميذه آنذاك,
فيكتور توسك, المولود عام 1879 والمتوفى عام 1919, بوصفه ثاني أفضل الخيارات بعد
فرويد, وأسهمت في إرساله إلى التهلكة. ومع أن توسك كان واحداً من أنصار فرويد
الأوائل وشخصية بارزة, حتى إن فرويد كان يخشاه, فإنه يذكر الآن كواحد من عشاق لو
أندرياس سالومي, إذ نشأت بينهما علاقة قصيرة الأجل أثناء وجودها في فيينا 1912 -
1913. وحين انتحر توسك, كتب فرويد بنفسه نعيه الرسمي, وقال فيه: (لم يكن بمقدور أحد
أن يفلت من انطباع مفاده أن هذا الرجل ذو أهمية, وأنه قد خلّف, بلا أي شكّ, ذكرى
عطرة في تاريخ التحليل النفسي وصراعاته الباكرة). وبعكس هذا النعي الرسمي, كتب
فرويد إلى لو أندرياس سالومي رسالة كان فيها أكثر صراحة إذ عبّر عن ارتياحه لرحيل
توسك: (أعترف بأنني لم أفتقده حقّاً, ومنذ فترة طويلة وأنا أعتبر أن لا نفع منه, بل
وإنه بمنزلة تهديد للمستقبل). وقد وافقت سالومي على أن توسك كان بمنزلة تهديد
لمستقبل التحليل النفسي, كما قبلت تملّق فرويد حين قال لها إنه احتمل توسك كل هذا
الوقت بسبب صداقتها معه, وهكذا تخلّت عن توسك وذكراه بسهولة.
والحال أن حالات الانتحار بين أوائل المحللين النفسانيين لا تقتصر على
روث برونشفيك وسوكولنيكا وتوسك, فهناك كارين ستيفن, وتاتيانا روزنتال, وكارل شروتر,
وماكس كاهان, ومارت بك, ويوهان هونيجر مما يثير التساؤل والدهشة فعلاً. ولكن هل
كانت هذه المجموعة من البشر أشدّ اضطراباً من سواها? ألا يمكن أن يكون التدقيق
البالغ والدراسات المكثّفة التي خضعت لها حركة التحليل النفسي هي السبب في رؤية مثل
هذه الأحداث بمثل هذه السعة, بخلاف كثير من الحركات الأخرى? ألم يعرف التاريخ
أفكارًا ومنظومات فكرية تمّ دفع ضريبتها وراحت حيوات كثيرة قرابين
لنجاحها?.