أوراق أدبية

أوراق أدبية

لأن الـحـب مـثـل الشـعـر...
الحب والإبداع قيمتان تغتني بهما الحياة, ويعمر بهما الوجود,
وينجو بهما الإنسان من رحلة الضياع في بحر الحداد, أو بحر العدم.

في ديوان (الناس في بلادي) للشاعر صلاح عبدالصبور, نجد أن الحب كالإبداع, من منظور الوعي المديني الذي تجسّده قصائد الديوان, كلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً على نحو ما يؤكد صلاح عبدالصبور في قصيدته المطوّلة (أقول لكم) التي جعلها عنواناً على ديوانه الثاني, خصوصاً مقطع (الحب) الذي يبدو على النحو التالي:

لأن الحب مثل الشعر... ميلاد بلا حسبان
لأن الحب مثل الشعر ما باحت به الشفتان

بغير أوان
لأن الحب قهّار كمثل الشعر
يرفرف في فضاء الكون لا تعنو له جبهة
وتعنو جبهة الإنسان
أحدثكم بداية ما أحدثكم عن الحب

و (الحب) في (الناس في بلادي) فرحة كائن يستبدل الحرية بالضرورة, وسعادة قلب يتحسس ما خلف الوجود على صفحته, ونسمة وعد تحمل العاشقين إلى حيث يشمّان ريح الجبل.

صحيح أن كلمات الحب تعتل من الليل الموحش الذي يولد فيه الرعب, لكنها تظل رقية كائنين يلوذ كل منهما بالآخر ليكتملا معاً, فيحمي كل منهما قرينه في مواجهة المصير الذي هو هوّة تروع الظنون:

ما يصنع قزمان التقيا في ظل مساء?
منهوكين
وعليلين
نظرا في استحياء
عرفا الأيام الممرورة
وأنين النفس المكسورة
وسعار الدم المذنب حين يحن إلى الدم
لفحت أيام الرعب رؤاهما حتى شاها
وذوى في عينهما زهو الفطنة
....................
في قلب العاجز ماذا يلقي العاجز
ماذا يهب العريان إلى العريان
إلا الكلمة
والجلسة في الركن النائي... قزمين ودودين
أناشيد للعشق

هذا التلازم بين (الكلمة) و(الجلسة) في السطرين الأخيرين يلقي بظلاله على قصائد من طراز (أغنية حب) و(لحن) في (الناس في بلادي) وذلك من المنظور الذي يفضي منه الحب إلى الشعر, ويفضي الشعر إلى الحب في الوقت نفسه. ولذلك تبدأ (أغنية حب) بالبداية العذبة التي تستلهم (نشيد الإنشاد) في (العهد القديم):

وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من الرخام
نهدا حبيبي طائران توأمان أزغبان
حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور
الكنز والجنة والسلام والأمان
قرب حبيبي.

وهي بداية تصل الوجه بالشعر بالخد بالجيد بالنهد بالحضن, مستعينة بالتشبيهات البلاغية التي لا تعرف أداة التشبيه, لتقرن التعدد في الحضور المادي للحبيبة بتعدد الحضور المادي للثراء والجنة والسلام والأمان, فيستجيب التعدد إلى التعدد بما يؤكد المعاني والتي تعد مناقضة لحضور (الأجدل المنهوم) أو (الطارق المجهول) أو (بحر الحداد) وذلك مما يجعل للسلام والأمان معنى في جواره مع الجنة بمتعها الروحية والمادية الثرية ثراء الكنز. ولكن هذا الاستهلال لا يمضي إلى تفاصيل المتع الروحية والمادية, وإنما ينتقل منها إلى حضور الأغنية, أو حضور القصيدة التي تحوّلت إلى صندوق أوتاره الظلام والخيال, صندوق يعود من الغناء للصحاب المشابهين في الجرح إلى الحبيبة التي تلهم الأغنية, كما تلهم المزيد من الغناء, وتمضي الأغنية إلى مقطعها الأخير بما يؤكد ذلك:

صنعت مركبا من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم:
(وجه حبيبي خيمة من نور
وجه حبيبي بيرقى المنشور)
جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤه,
وعدت في الجراب بضعة من المحار,
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار.

فنعود إلى رمزية الرحلة المرتبطة بالإبداع, ومن ثم إلى رمز السندباد, وننتقل من عالم الحب وعلامته الارتحال في الليالي بحثاً عن لؤلؤة المستحيل الفريدة, لؤلؤة الإبداع, والعودة من الرحلة ببعض المحار الذي
لابد أن يتفتح عن القصيدة - اللؤلؤة التي تتحول إلى (أغنية حب).

امتزاج المدركات

ولا تفارق قصيدة (لحن) هذه الدلالة التي يفضى فيها الحب إلى الشعر ويلازمه. والبداية هي هذه الصورة الفريدة التي تمتزج فيها المدركات وتتجاوب الإحساسات. فيغدو المسموع مرئيا والمرئي مسموعاً, والمحسوس معنوياً والمعنوي حسيّاً, والاستعارة المكنية الأساسية تتحول إلى استعارة مرشحة تتولد منها تشبيهات واستعارات فرعية متداخلة, موقّعة توقيع تفعيلة الرمل (فاعلاتن) التي تتأود بالمعنى الموزّع على قافية ثنائية ترد على القافية الاستهلالية:

جارتي مدّت من الشرفة حبلاً من نغم,
نغم قاس رتيب الضرب منزوف القرار,
نغم كالنار.
نغم يقلع من قلبي السكينة,
نغم يورق في نفسي أدغالا حزينة.

ومن السهل جداً نقل (حبل النغم) من مجال (نظرة الحب) إلى مجال (لحظة الإبداع), فالثانية كالأولى تلسع كالنار, فتقلع السكينة, وتورق في النفس أدغالاً حزينة, الأمر الذي ينتقل بمجرى اللحن من الحبيبة إلى الشاعر المحب, فنسمع صوته, ونقترب من هويته, ومن فقره, بالقياس إلى الحبيبة التي تذود عن نفسها السآمة بالمرايا واللآلئ والعطور وانتظار الفارس الأشقر في الليل الأخير:

- أشرقي يا فتنتي
- مولاي...!
- أشواقي رمت بي!
- آه لا تقسم على حبي بوجه القمر,
ذلك الخداع في كل مساء,
يكتسي وجها جديد
وأنا لست أميرا
لا, ولست المضحك الممراح في قصر الأمير

والتضمين في المقطع يذكّرنا بحضور شاعر آخر, في تضمين المتأخر لأقوال المتقدم, فيدخل بعض حوار جولييت لحبيبها روميو في مسرحية شكسبير الخالدة (روميو وجولييت), ولكن الشاعر الذي أصبح واعياً بحضور الشعر لا يمضي مع التضمين الشكسبيري بل يقطعه بحيلة تعلّمها من شاعر آخر هو ت.س.إليوت, في قصيدته (أغنية حب ج. ألفريد بروفروك) - خصوصاً حيث نقرأ:

كلا! إني لست الأمير هاملت, وما كان لي أن أكونه:
إنما أنا سيد تابع, شخص صالح
... ... ... ... ...
ومن المؤكد أنني أكون أحياناً مضحكاً
بل أكاد أكون, في بعض الأحيان, أضحوكة البلاط.

هكذا, يتحول اللحن إلى ألحان, أو يتجاوب مع ألحان في المجرى النغمي الذي يوازن بين حضور الحبيبة وحضور اللحن الذي يستحيل إلى قصيدة, والقصيدة التي تستحيل إلى لحن يستدعي ما يجانسه من الألحان, والهدف الفني هو تنغيم صوت الحبيبة في كل فضاء بما يكاد يكون تنغيماً للشعر في كل مجال, وما دام اللحن ابتعث غيره من الألحان, فمن المنطق الشعري أن يبتعث حضور الشاعر غيره من أبناء الطليعة المبدعة التي ينسب إليها, ويجمعه وإياها حلم أن يومض في العتمة مصباح فريد, هو مصباح الحب أو الإبداع بلا فارق.

انتزاع الحياة

ولماذا لا أقول - والأمر كذلك - إن ما يجمع بين الحب والشعر هو معنى النسمة العفية التي تنتزع الحياة من الموت, وتفرض الحبور على الوجود بما تؤذن به من ولادة جديدة, وتبعث الصحة التي تقضي على المرض, تماماً مثل خطاب الحبيبة الذي جاء بالعافية في الصورة التالية التي تختتم بها قصيدة (رسالة إلى صديقة) حيث نقرأ:

خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتي يعقوب,
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب:
الساق للكسيح:
العين للضرير,
هناءة الفؤاد للمكروب,
المقعدون الضائعون التائهون يفرحون,
كمثلما فرحت بالخطاب يا مسيحي الصغير,
والطريف أن هذه الأسطر تتناص مع شاعر من الأسلاف العرب هذه المرة, هو محمود سامي البارودي في بيتيه:
خبر جلا صدأ القلوب فلم يدع
فيها مجال تحفز لوجيب
ضرح القذى كقميص يوسف عندما
ورد البشير به إلى يعقوب

لكن معنى (الرسالة) ينتقل من المدح - خبر صعود الخديو إلى سدة الخديوية - إلى الحب, وتتحول الصورة من عنصر شارح إلى بناء ممتد, وذلك بواسطة ترشيح التشبيه الاستهلالي, وتوليد تشبيهات فرعية عدة منه, على نحو دائري يردّ العجز على الصدر ويختم بما يجانس المشبّه به الاستهلالي, لكن مع مزج معجزة قميص يوسف الذي ردّ البصر إلى أبيه بمعجزة المسيح الذي يحيي الموتى, وهو مزج يعود إلى الشعر, في المجال الذي يتحول به الشاعر - مثل الحبيبة - إلى مسيح تحيي كلماته موتى الأرواح أو موتى الأجساد بلا فارق, فالمهم الدلالة الرمزية لفعل الإحياء.

غواية الرحيل

هكذا, تغدو الحبيبة الوجه الآخر من الشاعر, كما يغدو الوصول إلى الشعر الوجه الآخر من الوصول إلى الحبيبة, وتنداح المسافة بين الرحلة إلى المحبوبة والرحلة إلى القصيدة بما يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد. ولولا ذلك ما كانت قصيدة (أغنية ولاء) في ظاهرها أغنية ولاء للمحبوب, واستعداداً لاستقباله بما يشبه شعائر استنزال الشعر من عليائه, أو إغوائه بالارتحال إلى الشاعر, مقابل ارتحال الشاعر إليه, ولذلك يمكن أن نقرأ المقطع الأول على أنه انتظار للحبيب أو انتظار للشعر بلا فارق:

صنعت لك
عرشا من الحرير... مخملي,
نجرته من صندل
ومسندين تتكي عليهما,
ولجة من الرخام... صخرها ألماس
جلبت من سوق الرقيق قينتين,
قطرت من كرم الجنان جفنتين,
والكاس من بلّور,

وكل ما في ظاهر المقطع يتشوّق إلى الحبيبة المنتظرة, ولا يكف عن ذكر ما يغريها بالحضور, لكن السطح الثاني من المعنى الكامن تحت الظاهر يتشوّق إلى حضور الشعر, زيارة الوحي, مهبط القصيدة, في اللحظة الغسقية التي تتوسط ما بين الصحو والغيبية, حيث الظل الغريب للنور المفضض المهيب يلتف في إزاره الشحيب, والمفارقة التي ينتهي بها المقطع ترد نفور الحبيبة وامتناعها عن المجيء على تأبي الشعر على الشاعر واستعصائه عليه, وعندئذ لا سبيل إلى العاشق إلا الارتحال إلى الحبيبة, فيهدم كل ما بني ويهجر كل ما اقتنى, ويخرج محرّما إلى أرض الحبيب:

أسائل الرواد

عن أرضك الغريبة الرهيبة الأسرار
في هدأة المساء, والظلام خيمة سوداء.

والزمان هو الليل قرين الإبداع, والمكان هو مهمه الخيال الذي يمضي فيه القلب, باحثاً عن حبوة الصحبة في مجلس المحبوب الذي يسعى منقطعاً عن كل ما عداه, ولا فارق بين (أغنية ولاء) وقصيدة (الرحلة) من هذا المنظور سوى أن الأولى تنبني على أساس وحدة التفعيلة بينما الثانية تنبني على العمود الخليلي, مؤدية معنى الرحلة الليلية نفسها, ولذلك تتجاوب علامات الرحلة: نجيمة تغفو على النافذة محددة الزمن الليلي, والشرود الذي يحلّق بعيداً, وصدى الموال الذي يختلط بحفيف الموسيقى مثل بواده الإبداع, والرؤى والعرائس التي تختال في الحلم, فيظل الوعي عليها مأخوذاً برحلة المعنى على خلده, مدركاً حلاوة حضن اللاوعي المشرق بوجهه السحري.

هل يمكن القول - والأمر كذلك - إن غياب الشعر كغياب الحب يعني الموت? إن الأمر ممكن, خصوصاً عندما يتجسّد الحب في رمز الطفل, وعندما يموت الحب كما يموت الطفل في قصيدة (طفل) التي لا تخلو تشبيهاتها من حضور المبدع (عازف وفد النعاس عليه في الليل الأخير) ويرادف فيه الموت الصمت الكبير الذي هو معنى من معاني توقف الإبداع والعقم, ويسكن الطفل الصدر, حتى في حال موته, ليغدو الصدر المعاد بعد أن كان هو البدء

 

جابر عـصـفـور