زيارة لعالم القصة القصيرة.. عند عبدالـله الطوخي

زيارة لعالم القصة القصيرة.. عند عبدالـله الطوخي

قرأت العديد من قصص عبدالله الطوخي حين نشرت لأول مرة في مجلات مختلفة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حيث كان فن القصة القصيرة موضع الاهتمام والحفـــاوة من الجــيل الذي ينتمي إليه عبدالله الطوخي والأجيال التالية له.

وحين عدت الآن لأقرأ قصصه القصيرة التي جمعها كلّها في المجلد الأول من أعماله الكاملة, وجدتني أبدأ بقراءة تلك القصص التي لم أستطع نسيانها منذ القراءة الأولى, والتي مضى على قراءتها ما يزيد على ثلاثين عاماً, وكأنني ألتمس إجابة عن سؤال خفي:

لماذا بقيت هذه القصص في نفسي طوال هذه السنين?

كان الانطباع القوي الباقي في ذاكرتي هو أن كل هذه القصص أو أغلبها يقوم على بناء موقف قصصي بالغ الإحكام يتألف من عناصر متناقضة أو متقابلة يبدو كل عنصر وكأنه قادم من عالم مختلف أو من طبقة مختلفة, ولكن ظرفاً ما أو حدثاً ما يسمح لهذه العناصر المتناقضة بأن تتقارب أو تتداخل في الموقف القصصي ربما ليكشف مرة عن هشاشة هذا التناقض, وأن كل عناصر الموقف التي تبدو متباعدة أو متناقضة إنما تنتمي إلى أرومة واحدة! وربما ليكشف مرة أخرى عن صلابة هذا التناقض وحدّته فيحدث ذلك الانفجار المدوي الذي تبقى آثاره في نفسك عبر ما يزيد على ثلاثين عاما!

من خلال هذا الانطباع القديم عدت أقرأ قصصاً مثل: (في ضوء القمر) و(في شارع السد) و(الصورة) و(الصيد) و(داوود الصغير) و(الموتوسيكل)... وغيرها.

فماذا وجدت من هذا الانطباع القديم? وماذا أضافت القراءة الجديدة للقصص القديمة? وكيف أصبحت الصورة الشاملة حين قرأت لعبدالله الطوخي قصصاً جديدة لم تسمح لي الظروف بقراءتها حين نشرت لأول مرة?!

بعض هذه القصص لم تفعل شيئاً أكثر من أنها أكدت الانطباع القديم مثل قصة (في ضوء القمر) حيث تجسد القصة ذلك التناقض الحاد بين جمال الطبيعة ورقتها في الريف المصري , وبؤس وقسوة الحياة التي يعيشها الفلاحون في هذا الريف حتى ليعجزهم هذا البؤس عن رؤية هذا الجمال أو الشعور به, وحتى حين ينجح أحد أبناء هذا الريف في الإفلات من هذا البؤس فإن بعض آثاره يبقى معه في حياته بالمدينة في صورة حزن غامض مفاجئ تلاحظ زوجته - التي هي من أبناء المدينة - أنه يداهمه فجأة دون سبب واضح لديها, وحين يدفعه حبه لزوجته ليأخذها في زيارة لقريته لتستمتع بجمال الطبيعة في هذه القرية, فإنها لا ترى في ضوء القمر الجميل في القرية التي تزورها لأول مرة سوى ينابيع الحزن الغامض الذي كان يظهر دون أسباب على وجه زوجها, يفجرها حادث عرضي مما يقع عادة في حياة هذه القرية!!

قصتان أم قصة واحدة?

في قصتي (الصورة) و(الصيد) وهما قصتان متكاملتان, ويمكن أن تجدهما قصة واحدة, في مشهدين مختلفين, في المشهد الأول (الصورة) يلتقي البطل (الراوي) وهو شاب جامعي في بداية حياته يبحث عن وظيفة مع نائب دائرته الانتخابية الثري الذي وعده بتدبير هذه الوظيفة, سلوك كل شخصية في هذا اللقاء الذي يتم في قصر النائب يكشف عن المسافات الطبقية الهائلة التي تفصل بين الشخصيتين ويجسد التفاوت الكبير بينهما, ولكن لوحة فنية على أحد الجدران في قصر النائب تجتذب أنظار الشاب الباحث عن وظيفة, وحديثه عنها إلى صاحب القصر ينجح لبعض الوقت في إلغاء المسافات بين الرجلين حتى لتشعر بأنهما قد أصبحا فجأة صديقين تحت تأثير الجمال الذي يعيد الشاب اكتشافه في اللوحة بحديثه عنها. ولكن هذه المسافات التي ذابت فجأة تحت وهج الفن تعود صُلبة وراسخة في القصة الثانية أو في المشهد الثاني حين يلتقيان مع المسئول الكبير - الذي سوف يدبر الوظيفة للشاب الجامعي - في نادي الصيد, تعود صلبة وقوية أمام مشهد الصيد حيث يرى الشاب وجه المسئول الكبير الذي سوف يدبر له الوظيفة عنده وهو يتفجر بالنشوة حين ينجح في تمزيق جسد الحمام برصاصاته التي أحكم تصويبها إليه!

هل كان نجاح الكاتب في اقتناص مثل هذه التناقضات في لحظة قصصية عابرة جزءاً من السحر الكامن في هذه القصص, والذي ضمن لها البقاء في الذاكرة طوال هذه السنين?

أم أن الأمر الأجدر بالسؤال والمتابعة هو, أي نوع من التناقضات, وبين أي قوى? وفي أي اتجاه, ولانتاج أي دلالات? ذلك الذي يستهوي الكاتب ليغريه باصطياده ومطاردته سواء في داخل النفس البشرية أو في داخل المجتمع? وكيف يصوغه الكاتب في شكل قصصي وكيف مضت رحلة تطور الكاتب في اصطياد هذه التناقضات بمختلف أنواعها واتجاهاتها, وفي صياغتها في شكل قصصي?

رؤية جديدة لقصة قديمة

في قصة (داوود الصغير) التي تقدم لمحة من حياة أسرة صغيرة قوامها زوج وزوجة وطفلان, الزوج مثقف من النوع المشغول طوال النهار ومعظم الليل بالبحث في القضايا الكبيرة التي تهم المجتمع والإنسانية والزوجة مشغولة بطفليها وبكل ما يبقي على حياتهما هادئة وآمنة ومستقرة داخل تلك الحدود التي تعرفها البرجوازية الصغيرة وتفاجأ الأسرة ذات يوم بأن طفلاً صغيراً في عمر ولديهما يتسلل إلى الأسرة من خارج هذه الحدود, ذلك هو (داوود الصغير) المشكلة - لا أدري كيف أصبحت هذه مشكلة - أن الطفل الصغير يتعلق به طفلاهما إلى الحد الذي يصبح فيه جزءاً من حياة هذه الأسرة لا يمكن الاستغناء عنه, وحين يفكر الأب في شراء شيء لولديه لعبة أو حلوى فإنهما يذكران الأب دائما بألا ينسى (داوود الصغير) وربما كانت المشكلة الحقيقية أن الصبي الصغير عاقل وهادئ ومهذب ونظيف بالرغم من ثيابه بالغة البساطة وبالرغم من أنه يلبس في قدميه مجرد قبقاب خشبي يعلن دائما عن أوقات وصوله وأوقات انصرافه, لا يعرف حتى الطفلان من أين يأتي أو إلى أين ينصرف, كأنه يأتي من المجهول ويعود إليه, ولا يجد الأبوان أي أسباب معقولة للتخلص من هذا الطفل الجميل, ولا للاطمئنان التام إلى علاقته غير المتكافئة مع ولديهما, ذات ليلة تتعرض الأم لأزمة صحية بعد أن أخلد طفلاها إلى النوم في الموعد المحدد, وقبل أن ينصرف داوود الصغير, فيبقى إلى جوار الزوجة يساعدها على اجتياز الأزمة, ولا يفكر في الانصراف إلا بعد أن يعود الزوج المشغول دائما بالقضايا الكبيرة للمجتمع والإنسانية, وحين تنتهي الزوجة من حكاية الأزمة وما فعله داوود الصغير من أجلها لزوجها يكون داوود قد انصرف في هدوء من تلقاء نفسه بعد أن اطمأن إلى أن الزوجة قد أصبحت في رعاية زوجها, تقول الزوجة لزوجها: (كان يجب أن توصل داوود إلى منزله في هذه الساعة المتأخرة من الليل), وربما كانت تفكر (على الأقل لنعرف بيته), وحين يحاول الزوج المشغول دائماً بالقضايا الكبيرة للمجتمع والإنسانية أن يلحق به يكون قد اختفى تماماً في ظلام الحارة التي ربما يأتي منها, ولم يعد يسمع حتى صوت قبقابه المميز!

في هذه القصة يبرز التناقض مرة أخرى هادئاً وناعماً ولكن مزلزلاً في الوقت ذاته, والتناقض هنا موظف باقتدار ليكشف أكثر من هدف فهو لا يبرز فقط المسافة الهائلة بين طبقتين في المجتمع, ولكنه يبرز أيضاً وربما كان هذا الأكثر أهمية المسافة بين ما يقوله إنسان وما يفعله, فكيف ينجح إنسان في مواجهة القضايا الكبيرة للمجتمع وللإنسانية إذا كان ذاهلاً عن وقائع الحياة الصغيرة اليومية التي تحدث في بيته وتحت قدميه?

ولا أدري كيف وجدتني في هذه القراءة الأخيرة لهذه القصة أربط لأول مرة بينها وبين قصتي (الصورة) و(الصيد) فمع أن قصة (داوود الصغير) قصة واحدة ذات حكاية واحدة إلا أن سلوك داوود الصغير الذي كان سفيراً غير مفوض من أسرته يحكي دون كلام قصة أسرة أخرى سكت عنها الكاتب تماماً, ليترك لقارئه هذه المرة فرصة قراءتها أو كتابتها بقوة وروعة هذا السكوت! فنحن هنا إذن أمام قصتين إحداهما مكتوبة والثانية الأكثر نفاذاً وتنوعاً هي المسكوت عنها!

جذور التناقض وفروعه

قد يلاحظ قارئ قصص عبدالله الطوخي أن شعوره القوي بالتناقض بمختلف درجاته وتنوعاته, وبالمفارقة بمختلف ألوانها الساخرة أو الأليمة أو المحبة هو النبع الذي جاء منه إيثاره لهاتين الأداتين الفنيتين في بناء معظم قصصه ولا أقول كلها. وحين قرأت قصته (ابن العالم) ولم تكن من القصص التي بقيت في ذاكرتي بالرغم من عنوانها الذي يمكن أن يكون لافتاً حتى للذاكرة.

في هذه القصة يسأل طفل أباه, وكانا يتناولان طعام الغداء.

- إيه أهم حاجة في الدنيا دي يا بابا?

ويذهل الأب عن إتمام مضغ طعامه أمام سؤال ابنه المفاجئ.

فمن ناحية الإجابة ليست سهلة, فالأشياء المهمة كثيرة, وتختلف درجات الأهمية بين شخص وآخر, ومن وقت لآخر وبين موقف وآخر, كيف يشرح ذلك كله لطفله? ويشعر الأب بأن ابنه كبر فجأة, وأصبح يسأل أسئلة فيها كلمة (الدنيا), والسؤال الخفي الذي دار في رأس الأب وإن كان لم ينطق به: ما الذي دعا صغيره لأن يسأل هذا السؤال?

وكانت القصة قد قالت لنا في صفحاتها التي تسبق هذا السؤال السبب الذي دعا الطفل لكي يلقي بسؤاله على أبيه!

والمسألة ببساطة أن الطفل كان يريد أن يعرف أهم شيء في الدنيا ليقوم فوراً بإنجازه ليظفر في النهاية باهتمام أبويه وأسرته لأن وضعه في الأسرة وبين إخوته قد جعله عاجزاً عن أن ينال حقه من الاهتمام والحب. الحاجة إلى الحب إذن قد تكون في البداية هي الدافع لأن نعرف أهم شيء في الدنيا لنقوم بإنجازه,وهكذا يقودنا الحب إلى المعرفة, ومن خلال الحوار الممتد بين الأب وابنه, بل ومن خلال أحداث القصة يصل القارئ, كما يصل الابن إلى أن أهم شيء في الدنيا هو أن نحب الحياة كلها, بكل وجوهها دون قيد أو شرط وأن ندفع ثمن ذلك النوع من الحب في شجاعة وبكل الكبرياء!

وفي قصة أخرى بعنوان (الأمل والجرح) ويبدو أن عبدالله الطوخي واقع في غرام القصص التي يكمل بعضها بعضاً, نجد أن الأب الذي يبدو أنه قد نجح في قصة (ابن العالم) في أن يربي طفله ليصبح ذلك الإنسان الذي يقع في حب العالم وفي حب الحياة دون قيد أو شرط, هذا الأب نفسه نراه في قصة (الأمل والجرح) حين يتقدم به العمر ويحرقه الشوق إلى رؤية ابنه الذي وقع في غرام الدنيا كلها, نراه يدفع عن طيب خاطر ثمن ذلك الحب العظيم, حيث يكتشف أن نصيبه من هذا الحب أو ما يتبقى له منه لا بد أن يكون ضئيلاً بالضرورة ما دامت الدنيا واسعة إلى هذا الحد!

تناقض آخر يبرز من خلال الربط بين هاتين القصتين, وربما كان سقوط قصة (ابن العالم) من ذاكرتي أنني لم أكن قد قرأت قصة (الأمل والجرح) فبقيت قصة (ابن العالم) وكأنها من نوع قصص الأفكار الجميلة التي يمكن أن تستمتع بها أثناء قراءتها ولكنها لا تبقى طويلا في الذاكرة.

ولعلي لا أكون متورطاً في خطيئة من خطايا التعميم حين أزعم أن كل أشكال التناقض التي تغري عبدالله الطوخي باصطيادها وإيقاعها في شراك فنه الجميل, إنما تنبع من عشقه الغامر للحياة بكل وجوهها لا أكثر ولا أقل, فعبدالله الطوخي - وبالرغم من كل ما يحاوله النقد الحديث من الفصل بين شخصية الكاتب وما يكتب هو عاشق كبير للحياة بكل وجوهها, والعاشق من هذا الطراز يتفهم ويتقبل ويحس ويحتوي كل التناقضات التي تنبع من هذا النوع من الحب غير المشروط.

وسأكتفي هنا بإشارات سريعة إلى القصص العديدة التي تؤكد هذه الفكرة.

في قصة (الموتوسيكل) يبرز التناقض بين حب الابن الشاب للحرية ولروح المغامرة والاستقلال التي يشعر بها من امتلاكه وركوبه للموتوسيكل, وبين خوف الأب الثري على ابنه, من ركوب الموتوسيكل فيعرض عليه شراء سيارة, ولكن السيارة لن تمنحه تلك الخصوصية وذلك التفرد الذي يشعر به وهو يركب الموتوسيكل. يبدو الحب والخوف في هذه القصة وكأنهما قطبا التناقض ولكن الحقيقة أنهما وجهان لعملة واحدة, في داخل كل منهما يكمن حب الحياة بوجوهه المتعددة.

في مقتبل العمر يتدفق هذا الحب في صورة حب للحرية وللمغامرة وللتفرد وقبيل الغروب يظهر هذا الحب في صورة اللهفة على الأمان والسلامة! وحين تنتهي القصة بحادث مروع للصبي يتحول الأب العنيف القاسي إلى طفل والطفل إلى رجل يدفع ثمن التجربة.

تكاد التيمة ذاتها تتكرر في قصص مثل (حفلة عشرة) و(العصفور لعبة) و(شجرة) وغيرها.

مرحلتان من القص

ملاحظة أخيرة تقودنا إليها القراءة الكاملة لقصص عبدالله الطوخي, تقول الملاحظة إن معظم قصص عبدالله الطوخي في عقدي الخمسينيات والستينيات, وهي القصص التي كتبت في فترة المد الاشتراكي كانت تهتم كثيراً برصد التناقض بين طبقات المجتمع أو بين الفرد والجماعة, وأن القصص التي كتبت في عقدي السبعينيات والثمانينيات كانت أكثر اهتماماً برصد التناقضات في داخل الفرد وبين قواه الداخلية, ويتجلى ذلك بوضوح في قصص مثل (الخروج من المربعات الضوئية) و(البحر يكشف كل الأقنعة) و(قوة الجذور) و(موت الموت) و(الميلاد), وهذه الأخيرة تستحق وقفة فهي قمة من قمم الأعمال القصصية التي أبدعها عبدالله الطوخي الذي رحل عن عالمنا ولكن فنه الجميل باق لينير حياتنا بكل ما فيه من محبة للحياة!

هكذا تبدأ قصة الميلاد

(رأيت نفسي حاملاً نعشي وسائرا نحو القبور) ونحن منذ أول سطر في القصة نعيش في جو حُلْمي ولكن رائق وبالغ الصفاء... الميت فيه هو الذي يحمل نعشه ويسير على قدميه, يقول الميت الذي يسير وحده دون مشيعين, والذي يمضي إلى النهاية في لحظة تبدأ فيها الحياة دورة يــوم جـــديد: (وداعــا يا حقول القمح, ويا ذئاب البر, ويا قانون الجاذبية الذي ينـــتظم كل عناصر الكون, لقد حاولت أن أبقى جزءاً من الـــدورة, حاولت بكل ما منحتني الحياة من قدرة ولكن القــدرة نضــبت مرة واحدة حين رأيت الدورة تفقد حيويتها ومعنـــاها, وأصــبحت أجد في تكرار الدورة تأكيداً لمعنى الثبوت والسكون, وهكذا لم يبق أمامي أعظم من شرف الموت).

الميت الذي اختار موته بناء على فكرة يسمع في قلب هذا السكون من يستوقفه قائلا:

- دقيقة لو سمحت!

ويتلفت حواليه باحثاً عن مصدر الصوت فلا يرى أحداً, وإذن, فهذا الصوت صادر عن عالم الخفاء الذي يسعى إليه بإرادته, وآنذاك يهاجمه خوف كاسح غريزي, يجمده للحظة في مكانه!

ويقول لنفسه: أنت سائر إلى الموت فلماذا ومن أي شيء تخاف? يا له من تراث ثقيل ذلك الذي اسمه الخوف يظل يلاحقنا ونحن سائرون إلى قبورنا (انبثاق الخوف دليل على أن الميت لا يزال نابضا بالحياة) ويتوقف الميت لينفض عن نفسه عار هذا الخوف المقيت وآنذاك يأتيه الصوت رائقاً هذه المرة, ربما من حقول القمح التي كان يودعها منذ لحظات:

- نشكرك أن وقفت, وما دمت قد قررت الموت, فهي ليست جريمة لو أضفت إلى عمرك بضع لحظات نتكلم فيها! ثم يتابع الصوت الصادر من حقول القمح.

- أنزل نعشك أولاً إلى الأرض كي تتكلم براحتك!

ويزداد تشبث الميت بنعشه وهو يقول:

- لقد أصبحت لا أتكلم براحتي إلا إذا كنت حاملاً نعشي, هكذا حسمت القضية, (ما أكثر ما تقوله هذه العبارة عن دوافع البطل لقراره بالموت).

ويأتي الصوت هذه المرة بنبرة ساخرة:

- حسمتها بالهروب.

ويرد الميت:

- لم أكن لحظة اتخاذ القرار جندياً في معركة ثم هربت منها خوفاً على حياتي, إنما الحياة أصبحت دورة عقيمة, العار الحقيقي أن أبقى أسيراً لها, أنتم معشر النباتات قمة فرحكم في مجرد الوجود بالحياة, يزرعكم شخص ويخلعكم آخر, ولا لوم عليكم, فأنتم لا تعرفون شيئاً اسمه إرادة الحياة, وإرادة الموت, أن نحيا بإرادتنا وإلا فبإرادتنا نموت!

في هذا الجزء من القصة يجسد الكاتب قدرة العقلانية - بالرغم من كل بهائها - على إفراز سموم ناقعة, ويمضي الميت مواصلاً طريقه إلى سور المقابر ليقابله هذه المرة لصان لا يهمهما سوى أن يحصلا على نعشه مرة بالحيلة وحين يفشلان فبالقوة وفي هذه المعركة يتحول النعش في يد الميت إلى سلاح أخير, الميت الذي ترك كل شيء وراءه لا يمكنه أن يترك نعشه الذي يجسد صدق إرادته للموت, ومن خلال هذه المعركة, التي تبدو عبثية وساخرة, يصبح صدق إرادة الموت أحياناً هو الطريق إلى انبثاق إرادة الحياة من جديد.

التناقض هنا كله في داخل الإنسان, بين إرادة الموت وإرادة الحياة! والصراع قائم بين الفكر والفعل كيف يمكن أن تكون العقلانية وحدها طريقاً إلى الموت? وكيف يمكن أن يكون الفعل حتى في أكثر حالاته عبثية طريقاً إلى الحياة?

هذا ما تجسده هذه القصة البديعة في إطار من الخيال العبثي الجامح الذي يتسع ليضم حواراً بين شتى مستويات الوجود, وشتى حالات النفس الإنسانية, تيمة مثل هذه تقدمها قصة (موت الموت) لكن في إطار واقعي لا يبعد لحظة عن منطق الحياة اليومية, يفتح في جداره ثغرة تطل على آفاق الوجود كله!

هذه لمحات من زيارة عابرة لعالم القصة القصيرة الثري ومتعدد الآفاق عند عبدالله الطوخي لعلها تكون مجرد بطاقة دعوة مفتوحة لجيل جديد من النقاد, ليتقدم ويقوم بما عجز النقاد من جيل عبدالله الطوخي عن القيام به

 

أبو المعاطي أبو النجا







مؤلفات عبدالله الطوخي