نحو نهضة ثقافية عربية في عصر العولمة

نحو نهضة ثقافية عربية في عصر العولمة

عديدة هي الظواهر التي استجدت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وعصفت بدول العالم أجمع، ما يدعى بدول الشمال ودول الجنوب، المتقدمة منها والنامية، الغنية والفقيرة. انهار نظام القطبين الذي شكّل طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الأمم طيلة عقود طويلة من القرن، فاختلّ النظام الثنائي السائد الذي لطالما أوحى - أحقًا كان أم وهمًا - بوجود توازن بين القوى العظمى العالمية تفيد منه الدول النامية وتحتمي في ظله. وبرز خطر هيمنة القطب الواحد على دول العالم وشعوبها، وهو خطر لم يقتصر الإحساس به على دول الجنوب بل إن عديدًا من دول الشمال قرعت نواقيس الخطر.

غير أن انهيار أحد القطبين لم يشكّل انتصارًا حاسمًا للقطب الآخر. لقد أدى استئثار القطب الواحد بالسيادة أو بالسعي للتحكّم تحكّمًا تامًا بالسياسات العالمية وتطبيقاتها في شتى المجالات ، إلى حدوث ردّات فعل لمواجهة الخطر الداهم القادم، تمثّلت في التقوقع والانكفاء على الذات والرفض القاطع للآخر، وشكّلت أخطارًا جديدة جسّدتها الحروب الأهلية والعرقية والطائفية ومظاهر العنف والإرهاب التي انتشرت كالوباء في أصقاع الأرض.

إن هذه الظاهرة المستجدّة المعقّدة التي اصطلح على تسميتها بـ «النظام العالمي الجديد» تزامنت معها ثورة لم تعرف البشرية لها مثيلاً منذ الثورة الصناعية، هي ثورة المعلومات التي اجتاحت العالم بأسره في العقد الأخير من القرن العشرين وحوّلته إلى قرية في فترة زمنية تعدّ بالسنوات، وعمّت آثارها البشرية جمعاء. هذه الثورة أوجدت أنماطًا جديدة من السلوك، للأمم والجماعات والأفراد، في أوجه الحياة كافة: في الحياة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية، مؤكدة وحدتها العضوية. هذه الثورة زادت الهوّة اتساعًا بين أغنياء العالم وفقرائه، بين المحظوظين والمحرومين، بين الشمال والجنوب، بين الدول المصنّعة والدول النامية، بين الدول القادرة والدول القاصرة، فأصبح 80 في المائة من الدخل العالمي في أيدي اثنتي عشرة دولة من دول العالم، في حين توزعت العشرون في المائة على بقية الدول بما فيها الهند والصين.

بهذه الثورة تسارع إيقاع التطوّر فازدادت الدول المتمكّنة انطلاقًا وبدا أمل الآخرين باللحاق بها ضئيلاً. هكذا أفسحت هذه الثورة التي طبعت العصر بطابعها، المجال للقويّ والقادر والمتقدّم للسيطرة على مقدّرات البشر وقدراتهم، على ممتلكاتهم ومَلكاتهم. هذه التحولات في المشهد العالمي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين هي ما اصطلح على تسميته بالعولمة، نظام تسعى الدول القوية فيه لبسط هيمنتها على الشعوب النامية في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

العولمة وثورة المعلوماتية

وقد تمثّلت العولمة في زيادة تشابك علاقات الترابط عبر العالم أجمع وعمقها وسرعتها وتأثيراتها على الاقتصاد والسياسة والهجرة والثقافة والقانون، مما أوجد نظامًا عالميًا جديدًا قائمًا على سيادة سلطة الشركات المتعددة الجنسية وإخضاع الاقتصاد العالمي لخدمة تلك الشركات، وتوحيد السوق العالمية وتشريع حرية التجارة. وليس أدل عليه سوى ما يشهده العالم أجمع اليوم من أزمة مالية اقتصادية ومالية عالمية بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية وانتشرت كالنار في الهشيم لتعمّ أرجاء المعمورة.

إن هاتين الظاهرتين: العولمة وما أفرزته من نظام عالمي جديد والثورة المعلوماتية الكاسحة، شكّلتا صورة العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومطلع عقده الثاني، وهما ظاهرتان مترابطتان: فالقطب الواحد الذي يرتكز عليه النظام العالمي الجديد هو مطلِق هذه الثورة المعلوماتية وهو الممسك بزمامها. هذه الثورة تتضمّن - فيما تتضمّن - عنصرا ثقافيا قويّا وإن كان غير منفصل عن العناصر الأخرى التي يتشكّل منها مضمون هذه الثورة. من هنا أدركت دول العالم وأدرك مثقفوه أن هذه الثورة المعلوماتية الكاسحة تشكّل خطرًا لم يسبق له مثيل على الثقافات القومية وعلى مفهوم القوميّات بذاته. فالقطب الواحد يسعى بوسائل الاتصال الحديثة إلى فرض نمط واحد من الحياة ومن القيم ومن المبادئ ومن الذوق العام على بقية شعوب الأرض، بل إن اللغات القومية نفسها أصبحت مهدّدة بالخطر مقابل لغة القطب الواحد السائدة في وسائل الاتصال الحديثة.

إن التحدّيات التي حملها العقدان الأخيران من القرن الراحل وواجهت الشعوب في الدول النامية، وتمثّلت فيما تمثّلت - في تهديد الذاتيّات الثقافية والفقر والتفاوت الكبير بين دول الشمال ودول الجنوب في مناحي الحياة جميعها، والشعور بالعجز والتصاغر والانسحاق، تهدّد بإشعال الحروب والعنف والانتقام، ردّات فعل تطال الدول القويّة في عقر دارها، كما برهنت الأحداث الرهيبة التي عصفت بالولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تبعتها من أعمال إرهابية مؤسفة في دول غربية عدة. لهذا فإن الخطر سيف ذو حدّين، مسلط على العالم بأسره في وقت واحد.

في ظل هذه المستجدات على الساحتين العالمية والإقليمية تعيش الشعوب النامية، ومنها الأمة العربية، منعطفا تاريخيا خطيرا وتقف في مواجهة تحديات مصيرية بكل معنى الكلمة. ولعل أول شروط الاستجابة لهذه التحديات هو العمل لتحقيق نهضة ثقافية عربية تستند إلى رؤية علمية للواقع بمستوياته المحلية والإقليمية والعالمية، وترتكز إلى فكر نقدي واعٍ ومنطق حداثي معاصر يعتمد العقل في مجالات عمله ولا يخلط بين عالمي المادة والروح، وتؤمن بحرية الفكر والتعبير كشرط أساسي للإبداع، وبالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان سبيلاً لتحقيق التنمية البشرية.

والتنمية البشرية، كما عرّفتها «خطة العمل حول السياسات الثقافية للتنمية» التي أقرتها دول العالم في المؤتمر الدولي حول السياسات الثقافية من أجل التنمية الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) باستوكهولم عام 1998 وشاركت فيه الدول العربية على المستوى الوزاري، واستندت إلى وثيقة مهمة بعنوان تنوعنا البشري الخلاق» أعدها مجموعة من الخبراء العالميين برئاسة خافيير ديكويلار، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بتكليف من أمينها العام حينذاك - هي «عملية توسيع مجال الخيارات أمام الناس»؛ وهو مفهوم يقيس التنمية بمدى توافر تنوّع واسع من الإمكانات المتاحة أمام الناس تضمّ فيما تضمّ، الحرّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفرص المتاحة أمام الفرد ليتمتّع بالصحة والتعليم والثقافة ويكون منتجًا وخلاقًا وينعم بالكرامة وحقوق الإنسان. وليس الهدف النهائي للتنمية سوى تحقيق الخير المادي والذهني والاجتماعي لكل الناس على حدّ سواء.

الحرية الثقافية

ولا شك أن العنصر الثقافي أساسي في هذا المفهوم للتنمية، كما أن الحرّية الثقافية حيويّة لتحقيق الكرامة الإنسانية. والحرّية الثقافيّة، كما أكّدت وثيقة ديكويلار، خلافًا للحرية الفردية، هي حرّية جماعية تقرّ بحق أي جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة. والحرّية الثقافية هي ضمان للحرية بما هي كل متكامل، فهي تتجاوز حماية الجماعة إلى حماية حق كل فرد من أفرادها. والحرية الثقافية بحمايتها لأنهج الآخرين في الحياة، تشجّع على التجريب والتنوّع والخيال والإبداع. وقد خلصت الوثيقة إلى نتيجة مهمّة في هذا الموضوع وهي أن التنمية الحقيقية ليست تلك التي تسعى إلى ردم الهوّة وتجاوزها بين الدول الفقيرة والدول الغنية فحسب، بل تلك التي تظهِر أن التقاليد الخاصة بكل ثقافة من الثقافات يمكن أن تدمج بالموارد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الحديثة فيكون للشعوب حقّها في رسم تصوّراتها الخاصة للحداثة المرتبطة بتراثها وتقاليدها، فلا تُملى عليها أنماط الحداثة الغربيّة ولا تُفرض مبادئها الغريبة عنها باسم الحداثة.

إن الأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية، شأنها شأن الدول النامية جميعا، تعصف بها تحدّيات خطيرة تزداد حدّة يومًا بعد يوم؛ تحدّيات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وثقافية تهدد كيانها وتطرح أسئلة عميقة الدلالة يصعب الإجابة عنها في شأن مستقبل أبنائها. ولا شك أن إدراك الطبيعة الحضارية للمعضلة، يبرز العنصر الثقافي بما هو العنصر الحيوي في الاستجابة لما تواجهه الأمة العربية من تحديات.

إن الاستجابة لتلك التحديات تتمثل في تحقيق انطلاقة حضارية عربية تستند إلى عملية انتقاء بروح نقدية مثقفة ومسئولة، من ماضي هذه الأمة العريقة تجلّياته المشرقة، لتزاوجها مع أفضل ما أفرزته الحداثة في هذا العصر من قيم الحرّية والعدالة واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين البشر وتشجيع الإبداع وتبجيل العلم وتأكيد قيمة العمل، وهي قيم أخلاقية محورية في ثقافتنا نهضت بها الحضارة العربية وترسّخت بها في تاريخها العريق، وهي أساس كل نهضة حضارية.

إن الإنسان هو الأساس والمنطلق وهو الهدف والغاية. والشرط الأساسي للتنمية البشرية احترام الإنسان وتوفير الكرامة لكل فرد من أفراد المجتمع وتأكيد حقه في العلم والعمل وحرّية الرأي والتفكير والتعبير وممارسة حقوقه الإنسانية كافة في إطار المسئولية الوطنية والعمل لخير الوطن ومراعاة حقوق الآخرين، واعتماد مبدأ المساواة بين المرأة والرجل والاعتراف بحقوق المرأة كاملة، وضمان وصولها إلى مراكز صنع القرار. بهذا يشعر كل إنسان بإنسانيته ويحقق كل طاقاته ارتقاء بذاته ونهوضًا بمجتمعه ووفاء لوطنه وأمّته. ولابدّ أن تشكل هذه المبادئ الهدف الأول للسياسات الثقافية التي تمثّل هي ذاتها محورًا أساسيًا لكل سياسة تنموية. وينبغي لهذه السياسات أن تعتمد مفاهيم ثقافية وتربوية واجتماعية جديدة تتماشى مع التطوّر المتسارع للعصر وتضمن الدخول بقوة في مجتمع المعلومات والمشاركة الفعلية فيه للحاق بالمنجزات العلمية والتقنية الحديثة مع ما تفترضه من قيم جديدة قوامها نبذ الانغلاق والانكفاء على الذات والتعصب، والتأسيس لثقافة التسامح واحترام الاختلاف وقبول الآخر- المختلف دينًا أو طائفة أو فكرًا أو طبقة، الشريك في الوطن، كما كل إنسان في العالم - وتعزيز مقوّمات المجتمع المدني.

إننا، نحن العرب نعيش اليوم منعطًفا تاريخيًا خطيرًا؛ نقف، أفرادًا وجماعات وأقطارًا ووطنًا كبيرًا وأمة، في مواجهة تحدّيات حضارية مصيرية في عصر التجمعات الإقليمية الكبرى وزمن التحديات العالمية الكبرى. ولعل أول شروط الاستجابة لهذه التحديات أن نعمل معا لمواجهتها، متكافلين ومتعاضدين، وأن نعيد صياغة سياساتنا الثقافية والتنموية للنهوض بالإنسان العربي لنبدع نهضة ثقافية في عصر العولمة. فلا بد من استجابة ترقى إلى مستوى ما يواجهه الوطن العربي من تحديات - وهذه مسئولية تاريخية وأخلاقية وقومية - لنضمن للأمة العربية حضورها الفاعل بين الأمم في خارطة الغد الإنساني.
-----------------------------------
* كاتبة عربية مقيمة في تونس.

 

ريتا عوض*