صورة الأرض

صورة الأرض
        

          إن الذي تحصل من كلام الفلاسفة وجلة العلماء وأهل النظر في علم الهيئة أن الأرض مدورة كتدوير الكرة والماء لاصقٌ بها وراكدٌ عليها ركوداً طبيعياً لا يفارقها, والأرض والماء مستقران في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة ووضعهما وضع متوسط, والنسيم محيط بهما من جميع جهاتهما, وهو لهما جاذبٌ إلى جهة الفلك أو دافعٌ لهما والله أعلم بحقيقة ذلك.

          والأرض مستقرة في جوف الفلك وذلك لشدة سرعة حركة الفلك وجميع المخلوقات على ظهرها والنسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة, والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل بمنزلة حجر المغنطيس الذي يجذب الحديد إليه.

          والأرض مقسومة بقسمين بينهما خط الاستواء, وهو من المشرق إلى المغرب, وهذا هو طول الأرض, وهو أكبر خط في الكرة, كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة والدرجة خمسة وعشرون فرسخاً والفرسخ إثنا عشر ألف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصقة بطون بعضها لظهور بعض فتكون بهذه النسبة إحاطة الأرض مائة ألف ألف ذراع واثنين وثلاثين ألف ألف ذراع وتكون من الفراسخ أحد عشر ألف فرسخ, هذا بحساب أهل الهند, وأما هرمس فإنه قدر إحاطة الأرض وجعل لكل جزء مائة ميل فتكون بذلك ستة وثلاثين ألف ميل فتكون من الفراسخ اثني عشر ألف فرسخ وبين خط الاستواء وكل واحد من القطبين تسعون درجة واستدارتها عرضا مثل ذلك, إلا أن العمارة في الأرض بعد خط الاستواء أربع وستون درجة والباقي من الأرض خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود والخلق بجملته على الربع الشمالي من الأرض و أيضاً فإن الربع الجنوبي - وهو الذي فوق خط الاستواء - غير مسكون ولا معمور لشدة الحر به دائماً على سمته فجفت مياهه وعدم حيوانه ونباته لعدم الرطوبة, لأنه لا يكون الحيوان والنبات أبداً إلا حيث تكون المياه والرطوبات.

          والأرض في ذاتها مستديرة لكنها غير صادقة الاستدارة فمنها منخفض ومرتفع والماء يجري فيها من أرفعها إلى أخفضها والبحر المحيط يحيط بنصف الأرض إحاطة متصلة دائرتها كالمنطقة لا يظهر إلا من نصفها فكأنها عند الصفة بيضة مغرقة في الماء, والماء في طست فكذلك الأرض نصفها مغرق في البحر والبحر يحيط به الهواء والهواء دافع لهما أو جاذب كالذي قلناه قبل هذا, وهذا الربع المسكون من الأرض قسمه العلماء سبعة أقاليم كل إقليم منها مار من المغرب إلى المشرق على خط الاستواء وليست هذه الأقاليم بخطوط طبيعية لكنها خطوط وهمية محدودة موجودة بالعلم النجومي, وفي كل إقليم منها عدة مدن وحصون وقرى وأمم لايشبه بعضهم بعضًا, وأيضاً فإن في كل إقليم منها جبالاً شامخة ووهاداً متصلة وعيوناً وأنهاراً جارية وبركاً راكدة ومعادن ونباتات وحيوانات مختلفة وسنذكر أكثر ذلك فيما يأتي ذكره بعد بعون الله وتأييده.

          وتخترق هذه الأقاليم السبعة سبعة أبحر تسمى خلجاناً, ستة منها متصلة وبحرٌ واحدٌ منفصلٌ لا يتصل بشيء من البحور المذكورة وأحد هذه البحور التي في الأرض المعمورة هو بحر الصين والهند والسند واليمن, ومبدؤه من جهة المشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة, ممتد مع خط الاستواء إلى جهة المغرب فيمر بالصين أولاً ثم بالهند ثم بالسند ثم باليمن على جنوبها وينتهي إلى باب المندب وهناك مبلغ طوله على هذه المسافات فيما حكاه الثقات المسافرون والبحريون الخائضون فيه, المقلعون من بلدٍ إلى بلد, من مبدأ بحر القلزم إلى الواق واق أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ وفيه من الجزائر نحو ثلاثمائة جزيرة بين عامرة وخالية, وسنذكر منها بعد هذا ما اتصل بنا علمه وصحت الأخبار عنه, ويتشعب من هذا البحر الصيني الخليج الأخضر وهو بحر فارس والأبلة وممره من الجنوب إلى الشمال مغرباً قليلاً فيمر بغربي بلاد السند ومكران وكرمان وفارس إلى أن ينتهي إلى الأبلة, حيث عبادان وهناك ينتهي آخره ثم ينعطف ريفه راجعاً إلى جهة الجنوب فيمر ببلاد البحرين وأرض اليمامة ويتصل بعمان وأرض الشحر من بلاد اليمن وهناك اتصاله بالبحر الصيني وطول هذا البحر أربعمائة فرسخ وأربعون فرسخا وفيه جبلا عوير وكسير, وعمقه سبعون باعاً إلى ثمانين باعاً وفيه من الجزائر تسع جزائر بين عامرة وخالية وسنذكرها فيما يأتي ذكره بعون الله سبحانه.

          ويتشعب أيضاً من هذا البحر الصيني خليج القلزم ومبدؤه من باب المندب, وحيث انتهى البحر الهندي فيمر في جهة الشمال مغربا قليلا فيتصل بغربي اليمن ويمر بتهامة والحجاز إلى مدين وأيلة وفاران حتى ينتهي إلى مدينة القلزم وإليها ينسب ثم ينعطف ريفه راجعاً في جهة الجنوب فيمر بشرقي بلاد الصعيد إلى جون الملك, ثم يأتي إلى عيذاب إلى جزيرة سواكن إلى زالغ من بلاد البجة, وينتهي إلى بلاد الحبشة ويتصل بالبحر الهندي, وطول هذا البحر ألف ميل وأربعمائة ميل وأكثر قعر هذا البحر أقاصير تتلف عليها المراكب فلا يركبه إلا الربانيون العالمون بأقاصيره المختبرون لطرقه ومجاريه, وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة, وأما البحر الثاني الكبير المعروف بالبحر الشامي فإن مخرجه من البحر المظلم الذي في جهة المغرب ومبدؤه في الإقليم الرابع ويسمى هناك بحر الزقاق لأن سعته هناك تكون ثمانية عشر ميلاً, وكذلك طول الزقاق من جزيرة طريف إلى الجزيرة الخضراء أيضاً ثمانية عشر ميلاً ويمر مشرقا في جهة بلاد البربر وبشمال المغرب الأقصى, إلى أن يمر بالمغرب الأوسط ويصل إلى أرض أفريقيا إلى وادي الرمل إلى أرض برقة وأرض لوبية ومراقية إلى أرض الإسكندرية إلى شمال أرض التيه إلى أرض فلسطين وسائر بلاد الشام إلى أن ينتهي طرفه إلى السويدية وهو نهايته, ومن هناك ينعطف ريفه راجعاً فيمر ببلاد أنطاكية إلى جهة المغرب فيتصل بالخليج القسطنطيني إلى جزيرة بلبونس إلى أذرنت وهناك مخرج الخليج البنادقي ويتصل إلى مجاز صقلية إلى بلاد رومية إلى بلاد سغونة وأربونة ويجتاز بجبل البرتات فيمر بشرقي بلاد الأندلس إلى جنوب وسطها وينتهي إلى الجزيرتين من حيث بدأ, وطول هذا البحر الشامي من ابتدائه إلى حيث انتهاؤه ألف فرسخ ومائة وستة وثلاثون فرسخاً وفيه من الجزائر نحو من مائة جزيرة بين صغار وكبار ومعمورة وخالية, ويخرج من هذا البحر الشامي خليجان أحدهما خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقي بلاد فلوريه من بلاد الروم من عند مدينة أذرنت فيمر في جهة الشمال مع تغريب يسير فيمر بأرض باري إلى ساحل شنت انجل ثم يأخذ من جهة المغرب إلى بلاد أنقونة, إلى أن يمر بساحل البنادقة وينتهي طرفه إلى بلاد ايكلاية ومن هناك ينعطف ريفه راجعاً مع الشرق على بلاد جرواسية ودلماسية وبلاد اسقلونية إلى أن يتصل بالبحر الشامي من حيث ابتدأ, وطول هذا الخليج من حيث ابتدأ إلى أقصى انتهائه ألف ميل ومائة ميل وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة منها ستٌ معمورة والباقية خالية, ويخرج أيضاً من البحر الشامي الخليج الثاني المسمى بحر نيطس ومبدؤه من البحر الشامي, حيث فم أبذه وعرض فوهته هناك رمية سهم ويمر مجريان فيتصل بالقسطنطينية فيكون عرضه عندها أربعة أميال ويمر كذلك ستين ميلاً حتى يصل إلى بحر نيطس وعرض فوهته هناك ستة أميال ويمر بحر نيطس في جهة المشرق فيتصل من جهة الجنوب بأرض هرقلية إلى أرض استروبلي إلى سواحل اطرابزندة إلى أرض أشكالة إلى أرض لنلانية وينتهي طرف هذا الخليج إلى أرض لانية وينتهي طرف هذا الخليج هناك, حيث الخزرية ومن هناك ينعطف ريفه راجعاً إلى مطرخة ويتصل ببلاد الروسية وبلاد برجان وموقع نهر دنابرس ويمر إلى موقع نهر دنو إلى أن ينتهي إلى مضيق فم الخليج القسطنطيني ويتصل بالقسطنطينية ويمر بشرقي بلاد مقدونية إلى أن يتصل بالموضع الذي بدأ منه, وطول بحر نيطس من فم المضيق إلى حيث انتهاؤه ألف ميل وثلاثمائة ميل, وفيه ست جزائر وأما بحر جرجان والديلم فإنه بحر منقطع لا يتصل بشيء من البحار المذكورة وتقع فيه أنهارٌ كثيرة وعيونٌ دائمة الجري ويتصل بهذا البحر من جهة المشرق أرض الأغزاز ومن جهة الشمال أرض الخزر ومن جهة المغرب بلاد أذربيجان والديلم ومن جهة الجنوب بلاد طبرستان وطوله من جهة الخزر إلى عين ألهم ألف ميل وعرضه من ناحية جرجان إلى موقع نهر إثل ستمائة ميل وخمسون ميلاً وفيه من الجزائر أربع وعلى كل بحر من جميع البحور التي قدمنا ذكرها بلاد وأمم سنأتي بذكرها مشروحاً موضوحاً بلدا بلدا وأمة أمة بعون الله سبحانه, وفي هذه البحور أيضاً أنواع من الحيتان والحيوانات المختلفة الصفات ومن العجائب ما سنأتي بأوصافه في مواضع ذكره.

          وإذ قد فرغنا من ذكر هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها وذكر البحار التي وصفنا مباديها وانتهاءاتها وأحوازها وما يلي سواحلها من البلاد والأمم وذلك بالقول الوجيز فلنبدأ الآن بذكر الأقاليم السبعة وما يحتوي عليه من البلاد والأمم والعجائب إقليماً إقليما وبلداً بلداً ونذكر ما تشتمل عليه ممالكها ونأتي بطرقاتها ومسالكها ومبلغ فراسخها وأميالها ومجاري أنهارها وعلو بحارها وسلوك قفارها, كل ذلك مشروحاً موضوحاً باستقصاء من القول مع الإيجاز بغاية الجهد ومبلغ الطاقة وبالله التوفيق ومنه العون وله القوة والحول.

          ولما أردنا رسم هذه المدن في الأقاليم ومسالكها وما تحتوي عليه أممها قسمنا طول كل إقليم منها على عشرة أقسام أجزاء مقدرة من الطول والعرض ورسمنا في كل واحد من هذه الأجزاء ما له من المدن والأكوار والعمارات ليرى الناظر في ذلك ما خفي عن عيانه أو لم يبلغه علمه أو لم يمكنه الوصول إليه لتعذر الطرقات واختلاف الأمم فيصح له الخبر بالعيان ومبلغ أعداد هذه المصورات الآتية بعد هذا سبعون مصورة غير النهايتين اللتين إحداهما نهاية المعمور في جهة الجنوب وأكثرها خلاء لشدة الحر وقلة المياه, والنهاية الثانية نهاية المعمور في جهة الشمال وأكثرها خلاء لشدة البرد وأيضاً بان مع ما ذكرناه وقدمنا وصفه أن الناظر إذا نظر إلى هذه الصفات المصورة والبلاد المذكورة رأى منها وضعاً صحيحاً وشكلاً صبيحاً, لكن يبقى عليه بعد ذلك أن يعلم صفات المماليك وهيئات الأمم وحلاها وزيها وطرقاتها المسلوكة بأميالها وفراسخها وعجائب بلادها مما شاهده المسافرون وذكره المتجولون وصححه الناقلون ولذلك ما رأينا أن نذكر بعد كل صورة منها ما يجب ذكره ويليق بمكانه من الكتاب حسب المعرفة والإمكان والله المستعان لا رب غيره.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات