حقول الجاحظ... وأطياف دريدا

حقول الجاحظ... وأطياف دريدا

يفتح لنا الأدب المقارن نافذة على
التفاعل الثقافي بين الشعوب رغم تباعد
الأقطار والأزمنة. ويسير هذا المقال
على خط رهيف يربط بين كاتبنا العربي
الجاحظ والمفكر الفرنسي دريدا.

الحقول التي دخلت إليها مع أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري إمام أهل الأدب, المتوفّى من أكثر من ألف عام, سنة 255 للهجرة, حقول شاسعة, متنوّعة ذات استقامات ونتوءات, وفيها فسحة للنفس والجسد كأنها الجنّة, كما تنطوي على حفر ومهاو مستورة على شاكلة آبار سُدّت أفواهها بطبقة رقيقة وخادعة من أوراق الأشجار وأغصانها, ما إن تطأها قدم, حتى تهوي إلى قاع البئر السحيقة, وتمشي في هذه الحقول وكأنك تمشي في مساحة قائمة بين اليقظة والمنام,. لا هي واقعية فتستند إليها استناداً حسيّاً مأموناً, ولا طالعة في محض المخيّلة, فتكتفي منها بمتعة الخيال, وأثمارها ومحاصيلها ملتبسة, كبطونها ومهاويها, فتحسب أنك تستمتع (معه) باللفظ استمتاعك بالمعنى, وباللفظ والمعنى معاً استمتاعك بالشيء نفسه, وحين تحاول الإمساك بالشيء واللفظ والمعنى, تفرّ جميعها من شبكتك كأنها أسماك زلقة في شبكة واسعة, ولا يبقى سوى هذه المتعة المستحيلة, النصّ المستحيل للجاحظ.

أعترف أنني دخلت إلى الحقول التي دخلت إليها مع أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ, وكانت تحلّق فوقي أطياف (دريدا), وكان دريدا يتنقّل أحياناً كغيمة فوق هذه الحقول, ويُسقط بعض المطر على الأثلام والحبوب والأشجار, فينعش من يباسها, وربما تنقّل كشمس ساطعة كاشفة للزوايا المظلمة, أو ابتعد ككائن هائل مديراً ظهره للحقول, وارتمت أطيافه عليها, وعليّ, فالمشهد هكذا هو,كان, أو هكذا على وجه التقريب, ولا أجزم شخصياً بأنه حدث على هذه الصورة بالضبط, كما لا أجزمُ بأنه لم يحدث, فالعلاقة بيننا نحن الثلاثة, افتراضية على كل حال, أما بينهما فالأرجح النفي.

خطأ نحوي

قال الجاحظ (... قال وقال رجل لزياد: أيها الأمير, إنّ أبينا هلك وإنّ أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا, فقال زياد: ما ضيّعت من نفسك أكثر مما ضاع من ميراث أبيك, فلا رحم الله أباك حيث ترك ابناً مثلك), وقال أيضاً: (كان زياد النبطي شديد اللكنة, وكان نحوّياً, فدعا غلامه ثلاثاً, فلما أجابه قال: (من لَدُن دأوْتُك (أي دعوتك) إلى أن ديتني (أي جئتني), ما كنتَ تصْنأ? (أُي ما كنت تصنع?).

المحاسن والأضداد التي يوردها الجاحظ, في هذا الحقل, تمنح اللغة حقّاً, في الحقّ والباطل, في الصواب والخطأ, في استخراج الشيء من ضدّه, والضدّ من أصله, أكثر مما توحي بنيتها الخارجية, حتى كأنها ميزان قائم فوق العدالة. إذ كيف يضيع حقّ الرجل الشاكي القادم إلى الأمير زياد (ابن أبيه), وهو الحاكم والقاضي, بإرثه المغصوب من قبل أخيه, لأنه أخطأ في النحو واللغة, فجرّ اسم إن المنصوب, ونصب الاسم المجرور بحرف الجرّ (من), ولم يبؤ من شكواه إلا بالتوبيخ والتأنيب? وهل اللغة سلطة قائمة فوق مجريات الحياة, وهي فيها, حتى إذا فسدت فسدت? إنه من المضحك جداً أن يكون زياد النبطي, نحوياً وذا لكنة, في آن, فيقول (دأوْتُك) بدلاً من (دعَوْتُك), و (ديتني) بدلاً من (جئتني), وتصْنأ) بدلاً من (تصنع), إنها بنية تنخر نفسها بنفسها, يتشكّل ضدّها في أصلها, والجاحظ كاشف عجيب وقديم عن هذه النقائض, لقد حمل منجل (اللاّ...) من أكثر من ألف عام, وحصد به حقول اللغة والمجتمع, التاريخ والأسطورة, حصاداً فنياً ذكياً ومبكراً لا مزيد عليه.

دريدا... يفكك

يمرّ طيف دريداً أمامي الآن, حاملاً منجله على صورة (De)... ويفكّك به البنية (Construction), بمكر هائل, بمكر معاصر, ثم يمضي تاركاً كل شيء تناوله منجله, مبقوراً من داخله, وأحشاؤه طالعة منه, بكل أخلاطها, وبكل محاسنها وأضدادها.

كأنه ماكر, يهودي, أمريكي, يجزئ الوجود والعالم, ليحسن تناوله. كأنه انتقل من ميتافيزيقيا المعارضات التاريخية, الغربية والشرقية معا, من الضديات المطلقة القديمة, التي كرّسها هيغل في فلسفته, إلى تفكيك هذه الميتافيزيقيا, على ظهر هيدغر في النقض Destruction, وصولاً إلى التفكيك (Deconstruction) كأنه أعظم مخرّب لحكم النسق الذي سيطر على العالم قبله, بأداة الاختلاف La difference والغيرية Alterite, وهما ليسا خارج المفاهيم والأشياء واللغة, بل في أصلها, في خلاياها الأساسية المكوّنة لها المركّبة تركيباً متداخلاً وملتبساً, فليس المُقصى أو المستبعد من غياب أو تأخّر أو غرابة, مقيماً خارج (النَسَق), بل هو قائم في أصله, في جوهره. حسناً, يقول الجاحظ في (المحاســـن والأضداد): (شكا رجلٌ إلى إياس بن معاوية (وهو من مشاهيــــر أجواد العرب, حتى قيل: في جود إياس) كثرة ما يهب, ويصل الناس وينفق. قال: إن النفقة داعية الرزق, وكان جالساً على باب, فقال للرجل: أغلق هذا الباب, فأغلقه, فقال: هل تدخل فيه الريح? قال: لا. قال إياس: فافتحه, ففتحه, فجعلت الريح تخترق في البيت, فقال: هكذا الرزق, أغلقت فلم تدخل الريح, فكذلك إذا أمسـكت لم يأتك الرزق).

وقال: (بحاتم يضرب المثل في السخاء... قيل: ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره القرى, فقام حاتم إلى ناقة الضيف فنحرها وعشّاه وغدّاه منها وقال: إنك قد أقرضتني ناقتك فاحتكم علي. قال: راحلتين, قال: لك عشرون, أرضيت? قال: نعم وفوق الرضا, قال: لك أربعون, ثم قال لمن بحضرته من قومه: مَن أتانا بناقة, فله ناقتان بعد الغارة, فأتوه بأربعين, فدفعـها جميعاً إلى الضيف).نقع في هذين المثلين الجاحظيين, في السخاء, على ما يشبه جنون العطاء, خاصّة في المثال الثاني عن حاتم, أو ما يشبه هستيريا الكرم. وكان الجاحظ, في البخلاء, قدّم نماذج طريفة ساخرة عمّا يمكن تسميته لوثة البخل, الواصلة لحدود المرض والأضحوكة, عن مريم الصناع وأهل مرو وديكة مرو, وما إلى ذلك, وينضمّ لأضحوكة البخل ما قاله ابن الرومي في عيسى, البخيل:

يقتّر عيسى على نفسه

وليس بباقٍ ولا خالدِ

فلو يستطيع لتقتيره

تنفّس من منخر واحد



وهستيريا الكرم الحاتمي, كما يرويها الجاحظ, تكاد تكون قائمة في منطقة وسط بين الواقع والأسطورة أو الخرافة. وهي تنتمي في النتيجة إلى (الحكاية), والحكاية ما هي? واقع أم خيال? أم واقع أكمله الخيال وحرفه عن أصله? أم خيال يحاول الواقع أن يتقمصه ويتلبّس فيه?

العطاء لدرجة الجنون

أساس حكاية إياس بن معاوية أن الرزق وهو الكسب, مؤسس على العطاء أو الإخراج. والرزق كالباب إذا أقفل لا تدخل فيه الريح, أما إذا فتح, فالريح مدعوّة إليه. وهذا الأساس الذي يجعل الضدّ شرطاً لضده أو أصلاً له, فيما يتجاوز به الجاحظ الثنائيات المطلقة, يدفع به الكاتب إلى أقصى حالاته, الواصلة به لحدود الخرافة, أو الأسطورة, في أخبار (حاتم), فالواقع هنا يحبل بالأسطورة, والأسطورة تضفي على الواقع ظلالها العجيبة. الواقع ينطوي على اللاواقع, كما اللاواقع يرشد الواقع ويتمثّل له, أي يصبح له مثالاً وطريقاً. فالإعجاب قائم تلقائياً بجنون كرم حاتم, وقد ذهب مثلاً في التاريخ. ليس مهمّاً إذا كانت حكاية حاتم المذكورة, قد جرت بالفعل, أم لم تحدث, صحيحة أم مركّبة, المهم حضورها كحكاية بين التاريخ والأسطورة, الواقعة والعبرة, الداّل والمدلول, المهم أنها علامة أو إشارة (Signe).

إذ كيف يعمد رجل مضياف, كحاتم, إلى نحر ناقة ضيفه, في الصحراء, من دون علمه, ليطعمه من لحمها, وكيف بعد ذلك يطلب منه احتكاماً, بدل قرضه القسري هذا, فيطلب الضيف ناقتين بدلاً عن واحدة, فيقبل حاتم, ثم تأتي المفاجأة الكبرى, فيعطيه عشرين بدلاً من اثنتين, وللوصول بالحكاية إلى حد الخرافة, تتضاعف العشرون, فتغدو أربعين ناقة, يجمعها حاتم من أصحابه, لتعطى لضيفه البدوي, بدلاً من واحدة مستلفة. ما هذا? اللغة الاصطلاحية, هنا, لا تعسّف في الإجابة. فلابد من إضافة وصف ما, كلمة أخرى, لكلمة كرم, أو عطاء, أو ضيافة, ليستقيم المعنى أو يتضح الرمز, أو الدلالة. هو (كرم حاتمي) أي مبالغ فيه إلى حدود الخرافة. قل هو (جنون العطاء)... ولا يتصل بواقع الصحراء بل بواقع النفس البشرية المتصلة بالأسطورة أو الخرافة.

لاشكّ في أن تفكيك هذه الحكاية يمرّ فيه طيف لدريدا. وقد سبق ومرّ مثله في نكث أو نكأ, أونقب دريدا لما أورده مارسيل موس Marcel Mauss في كتابه الممتع عن الأعطية Le don, المسمّى (تجربة حول الأعطية) أو الهبة: (Esïai sur le don), (بنية ومنطق التبادل في المجتمعات البدائية) Forme et raison de lصechange dans les societes archaiques.

- طبعة باريس 1966 PuF.

فالهبة, كما يرى (موس) لدى بعض الشعوب البدائية, كشعوب (الماوري), مثلاً, تتجاوز إطار ومعنى التبادل السلعي المنفعي بين الناس, من أخذ وعطاء محكومين بالحاجة والمنفعة, في اتجاه إضفاء معنى رمزي روحي وديني على الهبة.

إن الأشياء الموهوبة تنطوي على جزء من القوة الروحية المسمّاة (هُو), التي لابد لها أن تعاد مضاعفة إلى واهبها, لأنّ من طبيعتها هذه العودة.

طقوس الهبة

والهبة غير القرض, فمن شروط القرض الإعادة في زمن محدد, وتوقيت ملزم, والقرض من معاملات الاستهلاك والاقتصاد المتبادل. أما الهبة فلا تخضع لمبدأ الردّ, بل توهب بلا مقابل ولا توقيت. هي عطاء مطلق, ويصل جنون الهبة لدى بعض القبائل إلى ما يشبه جنون العطاء لدى حاتم الطائي, في حكاية الجاحظ عنه, إنه يصل إلى حدود تبديد الثروات, أو هدرها على مائدة العطاء, بلا رويّة, وبلا فكرة نفعيّة, وربما وصل إلى وهب النساء والأطفال أو المدن, أو القلاع أو الأراضي الشاسعة, وهنا تنتقل الهبة من إطارها الواقعي إلى إطارها الأسطوري, بل أكثر من ذلك, تنقل من حقل الواقع أو الحكاية, إلى حقل العبادة, فما هي على وجه التحديد يا ترى?

هنا يبرز الاختلاف المخترق للنسق, كما يبرز ما يسمّى بالتبديد Dissemination في حقل الدلالة اللغوية.

يأخذني الجاحظ من يدي, في حقوله الشاسعة العجيبة, ولاتزال أطياف من دريدا, تتراقص بين خطانا, ونحن نقطع هذا البرزخ الغامض بين اليقظة والنوم, هذه الحقول المغناطيسية الرائعة.

 

محمد علي شمس الدين