فن تلاوة القرآن

فن تلاوة القرآن
        

          ربما كانت هذه أول دراسة سماعية عن تلاوة القرآن الكريم. فقد انشغل الباحثون شرقًا وغربًا بدراسة معاني القرآن ومكانته الروحية, ولم يلتفت أحد إلى ذلك الفن الجميل الذي أوصله إلى أسماع كل الناس.

          لهذه الدراسة التي أعدتها المستشرقة الأمريكية (كريستينا نلسون) موقع فريد, وسط عشرات الدراسات والأبحاث الغربية الكلاسيكية التي توقفت عند القرآن الكريم واللغة العربية بالبحث والتحليل, فإذا كانت هذه الكلاسيكيات الغربية قد اقتصرت على دراسة نص القرآن المكتوب فقط دون جوانبه الأخرى, مما جعل تلك النوعية من الأطروحات المتعلقة بالتفسير واللغة والبلاغة وتاريخ الوحي...إلخ, تحظى بالنصيب الأوحد من اهتمام الباحثين الغربيين, فإن الكاتبةاتخذت من فن تلاوة القرآن محورًا لهذا الكتاب / الدراسة بكل ما يحمله هذا المنحى من أبعاد سماعية/ شفاهية. وقد عاشت تلك الكاتبة في مصر, وقضت عامًا كاملاً في حضور المآتم والأفراح وافتتاحات الشركات التي تبدأ بتلاوة القرآن, بالتزامن مع تلقّي دروس في تحفيظ القرآن وإجادة تلاوته في المساجد مع عامة الناس توخيًا للبعد الاجتماعي لفن تلاوة القرآن حتى أنها انضمت لجماعات من هواة تدارس القرآن الكريم تجويدًا وترتيلاً, تلك الجماعات المنتشرة في المجتمع المصري, مستعينة على ذلك بإجادتها التامة للغة العربية بلهجتها المصرية على وجه الحصر.

          يضم هذا الكتاب الصادر عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة مائتين وستا وأربعين صفحة من القطع المتوسط, ويقع في قسمين كبيرين يتحدد كل منهما في سبعة فصول تتفرع في صفحاتها الداخلية إلى عدد كبير من العناوين الإشارية, تبلغ أربعة وعشرين عنوانًا تحرّيًا لمزيد من الدقة والتحديد المفترض توافرهما في دراسة علمية رصينة غزيرة المادة.

جدل الشفاهي والمكتوب

          تقدم الفصول الأربعة الأولى مادة وصفية لطبيعة القرآن الكريم, فهو آخر وحي أرسله الله للبشر, كي يصحح الانحرافات التي حدثت فيما سبقه, وقد أوحى الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة عبر الملاك جبريل, وبطبيعة الحال كان الوحي شفاهيًا, وتواتر الوحي خلال عشرين عامًا حتى وفاة النبي عام 632م, ونقل الوحي للرسول في سبعة أحرف. وتحرص الكاتبة على إعطاء شرح تفصيلي للطبيعة الخارجية والداخلية للنص القرآني والجدل القائم بينهما, من حيث التهجيات المختلفة والعلاقة بين الطبيعة الشفاهية للقرآن ونصه المكتوب, وبناء على هذا تصل كريستينا إلى تحديد القواعد التي تنظم فن التجويد بما له من جماليات داخل مدارس التلاوة المتعددة وتمييزا للفروق الدقيقة بين المجود والمرتل من القرآن الكريم, والمعاني المتضمنة الخاصة بهذه الموضوعات. تضع كريستينا نلسون مصطلحًا تطلق عليه (السماع الجدلي) وهي تؤكد على أن المفردة العربية (السماع) أكثر عمومية ودقة من المفردة الإنجليزية Listening بترجماتها المختلفة, وعلى هذا الأساس يكون لمصطلح السماع الجدلي معنى التفاعل مع الموسيقى الداخلية والخارجية للقرآن الكريم, وبهذا الصدد تحاول المؤلفة أن تميز موقع الموسيقى داخل قواعد التلاوة بشكلها النموذجي آخذة في الاعتبار الجدل الدائر بين علماء المسلمين حول هذه الإشكالية, مع الاحترام الكامل لقيم المجتمع الإسلامي, كما تؤكد المؤلفة مرارًا عبر فصول الكتاب. ومن خلال السماع الجدلي تتطرق الدراسة لمحدد آخر من محددات فن التلاوة, وهو مصطلحات علم التجويد, وكذلك الموضوعات التي تحدد التلاوة النموذجية طبقًا لمعاني القرآن وطبيعة الدور الذي تلعبه هذه المعاني والقيم في بنية المجتمعات الإسلامية, وخلال الفصول الثلاثة التالية تقوم الباحثة بتقديم التدريب العملي الشائع لتلاوة القرآن الكريم في مصر, عبر معلومات حصلت عليها بالاحتكاك والتعامل مع علماء الدين المتخصصين في مجال التلاوة, معتمدة أدوات مثل المقابلة الشخصية والمشاركة في التلاوة والملاحظة.

          إذن تتعامل هذه الفصول مع الطرق التي تجسّد نسق الأفكار والعلاقات داخل البنى الخاصة بتلاوة القرآن, بالإضافة للقواعد المنظمة لجماليات التلاوة وكيفية التداخل والتراكب والانفصال وديناميكية الإدراك الحسّي, والاستجابة التي تجسّد التقاليد المصرية لفن التلاوة, وفي هذا الإطار تميز الباحثة بين القرآن المرتل والقرآن المجود بالقراءات المختلفة لكل منهما. وفي نهاية كل فصل من فصول الكتاب تحرص المؤلفة على أن تقوم بإعطاء عدد من النماذج التطبيقية لتلاوة بعض الآيات طبقًا للشكل النموذجي مستعينة بالأشكال التوضيحية الخاصة, والتي تبرز الفروق الدقيقة بين أشكال التلاوة المختلفة.

تجليّات الوحي

          وبالرغم من أن كل قسم من أقسام هذه الدراسة يتناول موضوعًا مختلفًا وأنواعًا متباينة من المصادر فإنها تتحد وتتكامل في حوار مطرد بين الفكرة والتطبيق كي تصل إلى مجموعة من النتائج المترابطة والمتداخلة كان أهمها على الإطلاق إقرارها بأن التلاوة النموذجية للقرآن هي تلك التي تستغرق القارئ مع السامع ضمن معاني الوحي عقلانيًا وعاطفيًا, وبالقدر نفسه الذي تستغرقه على المستوى الروحي حيث تستدعي كل لحظة من لحظات التلاوة لحظات الوحي بتجلياتها.

          تختتم الكاتبة دراستها بثبت يحوى أهم ثمانية عشر قارئًا مصريًا, تاريخ الميلاد, تاريخ الوفاة, وأهم ما قدموه لهذا الفن العظيم, ابتداء من القارئ محمود عبدالحكم مرورًا بالقراء عبدالباسط والبهتيمي ومصطفى إسماعيل, وانتهاء بالقارئ عامر السعيد عتمان, وشرح آخر أكثر تفصيلاً للقراءات السبع, وأوجه التطابق والاختلاف, وأهمية كل منها في نسق التلاوة. وعي الباحثة وإحساسها باللغة العربية كان من القوة, بحيث دفعها للتمييز بين أداء اللغة العربية التي هي لغة النص القرآني - كتابة وقراءة - وهو محور الكتاب, واللغة الإنجليزية التي كتبت بها تلك الدراسة.

 

كريستينا نلسون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات