كشفُ الحجاب عن حتمية ميلاد العقل في أحْضان الرموز الثقافية
كشفُ الحجاب عن حتمية ميلاد العقل في أحْضان الرموز الثقافية
تمثل أفكارُ هذا المقال آخر كتاباتي حول منظومة ما أسميها الرموزالثقافية (اللغة المكتوبة والمنطوقة والفكر والدين والمعرفة/العلم والقيم والأعراف الثقافية والأساطير...). ففي مقالاتي القصيرة وبحوثي الطويلة السابقة وجدتُ علاقات متينة بين الرموزالثقافية وطول عمر الإنسان وسيادته في العالم، وتأخر مشي الأطفال مقارنة بالمشي المبكر لدى صغارالحيوانات وعلاقة خلود الفكر البشري بالرموزالثقافية. تحاول سطورهذا المقال كشفَ الحجاب عن العلاقة الوثيقة التي تربط بين الرموز الثقافية وأعز ما يميز الإنسان عن سواه من الكائنات الأخرى ألا وهو العقل. وبالنجاح في هذا المسعى تتعزز القدرة على فهم وتفسير أفضل لمركزية منظومة الرموزالثقافية في هوية الإنسان ومن ثمّ كسب رهان التقدم والنضج في التنظيرحول الظواهر الإنسانية الفردية والجماعية انطلاقًا من منظومة الرموزالثقافية كأهم ميزة ينفرد بها الجنس البشري. عندما يَسأل المرءُ عامة َ الناس: ما الذي يميّز الإنسانَ عن بقية الكائنات الحية الأخرى؟ لطالما تكون إجابة الأغلبية الساحقة أن العقل هو أكثرالأشياء التي ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس على وجه الأرض. وهي إجابة ذات مصداقية عالية. ومع ذلك، فإن الفضول العلمي لايكتفي بتلك الإجابة البسيطة ويريد معرفة العوامل التي تؤدي إلى وجود ظاهرة العقل لدى الإنسان دون سواه من الكائنات. ولكسب رهان رصيد المعرفة اللازمة لتفسير ظاهرة العقل يمكن للباحث أن يتبنى منهجية شفافة وبسيطة الطرح للموضوع في ثلاثة معالم: 1- التعرف على إمكان وجود سمات أخرى يتميز بها أيضا الإنسان بطريقة قاطعة كما هو الحال في انفراده بالعقل. 2- وفي حال وجود تلك السمات تُطرَح فرضية وجود علاقة بينها وبين ظاهرة العقل البشري. 3- إن التأكد من وجود علاقة بين السمات الواردة في «1» وظاهرة العقل لدى الإنسان يساعد على فهم وتفسير أصل جذور منبت العقل كخاصية يتميز بها الإنسان وحده. فبحوثي المتواصلة منذ 1990 قادتني إلى التأكد من أن الإنسان يتميّز عن غيره من الدواب بمنظومةالرموزالثقافية. فالرموزالثقافية هي، إذن، ميزة بشرية بكل وضوح تُلبي ما يتطلبه ما جاء في رقم «1» أعلاه. أما احتمال وجود علاقة بين الرموزالثقافية وظاهرة العقل البشري فهو فرضية مقبولة بسبب أن كلا منهما ميزة خاصة وكاملة للإنسان مما يسمح بالقول إن هناك على الأقل علاقة ارتباط correlation بين الاثنين وربما تكون هذه العلاقة أكثر من ذلك: علاقة سبب بمسبَّب. أي أن العقل هوسبب وجود الرموزالثقافية لدى الإنسان أو العكس. وهذا يحتاج إلى رفع للالتباس في مسألة متشابكة جدا تشبه قضية هل الدجاجة نتيجة للبيضة أم البيضة نتيجة للدجاجة؟ وهكذا يمكن القول إن العقل والرموزالثقافية ميزتان بارزتان في الإنسان. وعلى مستوى ثانٍ فإن ظاهرة سيادة الإنسان في العالم يُرجعها عامة الناس إلى مواهب العقل البشري الممتازة. بينما تفسرها بحوثي بمركزية الرموزالثقافية في هُوية الإنسان. طول عمر الإنسان وخلاصة القول استنادًا إلى ما سبق إيضاحه أن الكائن البشري هو كائن ثقافي بالطبع، أي الرموزالثقافية تحتل صُلب َالموقع المركزي في هويته. ونظرًا لعلاقة الترابط القوية بين الرموزالثقافية والعقل لدى الإنسان، فإنه يجوز تحديد طبيعة هذه العلاقة بين الاثنين بإضفاء صفة السببية عليها. فمنطق المعطيات والتحليل لهذه العلاقة المتشابكة بين الرموز الثقافية والعقل يسمح بالقول إن تملك الإنسان لمنظومة الرموزالثقافية هو السبب الرئيسي الأول لتأهيله لامتلاك مواهب العقل. يمكن تقديم حُجتين لصالح هذه الرؤية. أولاً: الكائنات الأخرى لاتملك منظومة الرموزالثقافية التي يتمتع بها الجنس البشري، ومن ثمّ، فهي فاقدة لنوعية العقل البشري. ثانيًا: يتجلى تأثير الرموزالثقافية على طبيعة العقول لدى الناس في ثلاثة أصناف لتلك العقول: العقول الأمية والعقول المتعلمة والعقول المفكرة العظيمة كما سنرى لاحقا في هذا المقال. أطلس المخ ولمحاولة رفع الالتباس أكثر، نحتاج أولا إلى التعرف على بعض المعطيات العضوية التشريحية حول مخ الإنسان. فأطلس المخ يمدنا بالمعلومات الأساسية التالية : يوجد في المخ بين 100 و1000 مليارعصب/ neurones. ويزن المخ حوالي 1.5 كلغ، أي 2 في المائة من الوزن الكامل للإنسان. ينقسم العدد الهائل من تلك الأعصاب إلى أعصاب مركزية ذات لون رمادي وأعصاب هامشية ذات لون أبيض. فأعصاب المخ صاحبة المادة الرمادية تكوّن ما يُسمى بالكورتكس cortex /قشرة الدماغ. وهي مساحة كثيفة جدا وذات تكوين معقد فريد من نوعه لدى الإنسان يسمح له بالقدرة على تحاشي الانصياع إلى الأعمال اللاإرادية وتنويع ردود أفعاله نحو محيطه بحيث يكون قادرًا على التفكيروالتخيل واستباق الأحداث بطرق مختلفة عما يمليه المحيط. وبناء على ما ذُكر، فإن القسم الأمامي frontal cortexعلى الخصوص من الكوتاكس يمثل الموقع المميّزالذي يحضن منظومة الرموزالثقافية التي يرتبط بوجودها حضور العقل لدى الإنسان. مؤشراتُ علاقة العقل بالرموز الثقافية وللتقدم في مسيرة كشف الحجاب عن طبيعة العلاقة بين العقل والرموز الثقافية، من المناسب في المقام الأول طرحُ بعض الملاحظات التي قد تساعد على القرب بوضوح من المسألة الغامضة قيد التحليل وذلك بذكر بعض مؤشرات الارتباط بين الرموز الثقافية والعقل: 1- إن القراءة والتعلم بواسطة الذهاب إلى المدارس أو بطريقة مستقلة يعطي عقل الإنسان معرفة وعلما يمكنانه من فهم أفضل لكثيرمن الأشياء والأمور في الحياة. وهذا يعني أن عقل الإنسان المتعلم يملك قدرة أكبرمن عقل الإنسان الأمي على الفهم والتفسير للعديد من الظواهر ومجريات الحياة. 2- إن الاعتماد على العقل كوسيلة وأداة لإنشاء المعرفة لدى بني البشريتطلب فهم مكوّنات العقل التي تمنحه القدرة على تكوين المعرفة والعلم. يمكن القول إن العقل الإنساني هو نتيجة لعنصرين رئيسيين: كما رأينا فالمخ يتكون من عناصر بيولوجية فيسيولوجية ونرولوجية، من جهة، ومنظومة الرموزالثقافية المشار إليها، من جهة ثانية. يمثل الكورتاكس الأمامي تلك المنطقة الخاصة الخصبة لنشأة الرموزالثقافية وفي طليعتها اللغة والفكر وتطورهما ونضجهما عند الإنسان. فالعقل والرموزالثقافية هما إذن، صفتان يختص بهما الإنسان مما يطرح فرضية وجود علاقة ترابط قوية بين الاثنين. تصلح هذه العلاقة الفرضية لكي يُقال ابستيمولوجيا إن منظومة الرموزالثقافية هي المصدر الأول لتجسيم ظاهرة العقل لدى أفراد الجنس البشري، إذ إن غياب الرموز الثقافية لدى الأجناس الأخرى، كما وقعت الإشارة، حرمها من تمتعها بمواصفات العقل البشري. وخلاصة القول، أنه يصعب الحديث عن العقل الإنساني دون وجود منظومة الرموزالثقافية. العقول العظيمة الريادية والرموز الثقافية يشهد التاريخ البشري الطويل عبر ثقافاته وحضاراته المختلفة بأن ظهور العقول العظيمة الرّائدة في الميادين المعرفية والعلمية المختلفة ارتبط في غالب الأحيان بحصول تلك العقول على مستوى معرفي/علمي عال يتمثل في المعرفة الواسعة العالمة والعميقة. ويتطلب كسبَُ رهان ذلك أمرين رئيسيين: معرفة القراءة والكتابة، من ناحية، والتمتع بمستوى رصيد متميّز في ميدان التخصص العلمي ورحاب معرفة عامة واسعة بلا حدود ، من ناحية أخرى. فعامل معرفة القراءة والكتابة قد لا يكون ضروريًا في عمليات الإبداع والابتكار في بعض ميادين الأنشطة الإنسانية، ولكن معرفة القراءة والكتابة تعدّ ركيزة أساسية بالنسبة للعقول العظيمة المبتكرة في معظم فروع المعرفة البشرية والثقافية. تبرز النظريات المعاصرة بقوة العلاقة بين الإبداع والابتكار من جهة، والمعرفة البشرية الرحبة من جهة ثانية. وفي الواقع تؤكد تلك النظريات على وجود علاقة مباشرة بين الاثنين (المعرفة الواسعة والإبداع والابتكار)، إذ يرى المنظرون حول ظاهرة الإبداع والإبتكار «بأنه كلما كان المرء أكثر معرفة بالأشياء، كان العثور على حلول مبتكرة لما يواجهه أسهل عليه» . كما أن المعرفة الواسعة تعطي الإنسان القدرة على القيام بالمبادرات المتكررة في أنشطة ذهنية وفكرية cognitive processes معقدة قد تقود إلى حالات التألق والعبقرية لدى بعض البشر. العقل الخلدوني في لباس الرموزالثقافية العربية الإسلامية بكل المقاييس يمثل العقل العمراني الخلدوني الذي ألف المقدمة في القرن الرابع عشر عقلاً رائدًا وعملاقًا في دنيا الفكرالبشري قاطبة. ونظرًا لمناداة أطروحة هذا المقال بالدورالطلائعي الذي تلعبه الرموزالثقافية في تكوين مستوى العقل الإنساني، فإن التعرف على منظومة الرموزالثقافية العربية الإسلامية التي نهل منها عقلُ ابن خلدون يُصبح أمرًا ضروريًا لفهم وتفسيرظاهرة العقل الخلدوني الفريد. ففي صباه درس ابن خلدون في تونس التي كانت يومئذ مركز العلماء والأدباء في بلاد المغرب. ركز ابن خلدون دراسته في ثلاثة مجالات وهي: 1- العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه على المذهب المالكي وأصول وتوحيد. 2- العلوم اللسانية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأدب. 3- المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية. وقد أعطت تلك الدراسات ابن خلدون تكوينًا تعليميًا في ثقافتي عصره بالمعنى الحديث لمصطلح الثقافتين The Two Cultures. يعترف ابن خلدون بأنه كانت لديه رغبة قوية في التعلم وكسب رهان المعرفة منذ طفولته الأولى «لم أزل منذ نشأت وناهزت مكبا على تحصيل العلم، حريصا على اقتناء الفضائل، متنقلا بين دور العلم وحلقاته إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان، والصدور وجميع المشيخة» (التعريف : 57). ونتيجة لذلك هاجر من تونس إلى المغرب العلماء والمثقفون الذين لم يصابوا بالطاعون. وفي زمن لاحق كان لابن خلدون فرصة العودة للدراسة في مدينة فاس التي أصبحت مركزًا للعلماء والمثقفين الذين غادروا الأندلس وتونس. فمكتبات هذه المدينة كانت أغنى المكتبات الإسلامية في ذلك العهد. ومن ثم فإن وجود ابن خلدون في هذا المحيط الفكري الرموزي الثقافي اللامع قد وسّع وعزز آفاق معارفه وأرضى رغبته الحقيقية في المعرفة « ... وعكفت على النظر والقراءة، ولقاء المشيخة، من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس، والوافدين في غرض السفارة، وحصلت من الإفادة منهم على البغية» (التعريف : 61). وهكذا يتجلى أن العقل الخلدوني صاحب الفكرالجديد والمبتكر هو وليد عاملين رئيسيين: الموهبة الشخصية، من جهة، وتشبعه بالمعرفة والعلم والرموز الثقافية في محيطه الثقافي ومن كبارعلماء عصره، من جهة أخرى. وهذا يعني أن العقل العملاق لابن خلدون ما كان لينضج ويكتب المقدمة دون منظومة الرموزالثقافية العربية الإسلامية التي اكتسبها وعايشها في المغرب والمشرق. تعزز المسيرة التعليمية لصاحب المقدمة مقولةَ أفكار هذا المقال المؤكدة على أن ظاهرة العقل البشري مرتبطة شديد الارتباط في ميلادها ونضجها وحصافتها المعرفية والفكرية بحضورالرموزالثقافية في صلب عقول المفكرين والعلماء البارزين المشارإليهم بالبنان داخل حدود بلدانهم وخارجها القريبة والبعيدة. وهكذا يتجلى أن حتمية ميلاد العقل البشري ونضج فتوته واكتمال حكمته في المعرفة والعلم لايمكن أن يتم ّ من دون حَضَانة منظومة الرموزالثقافية له في مسيرته الطويلة. نظرية في العقل البشري أختم هذه الملاحظات والتأملات حول العقل الإنساني بمحاولة فكرية تنظيرية عنه. يمثل النجاح في كسب رهان تحقيق إطارنظري زبدة وخلاصة ما يطمح إليه البحث المعرفي/العلمي في نهاية المطاف. تُعرَّفُ النظرية ُ على أنها إطار فكري يساعد على الفهم والتفسير للعديد من الظواهرالمختلفة التي يهتم بدراستها صاحبُ تلك النظرية. فنظريتي للرموزالثقافية ساعدت فعلاً على تفسيرظواهرمتعددة لدى الإنسان هذا الكائن الرموزي الثقافي بالطبع (الذوادي 2011). وتتمثل بعض تلك الظواهر الخاصة والمميزة للإنسان عن غيره من الكائنات في الأمثلة التالية : انفرادالإنسان بالسيادة الكاملة على هذه الأرض/ في هذا العالم وانفراد أطفال بني البشربالعجزعن المشي المُبكرمثل صغارالحيوانات وانفراد الإنسان بالعقل ومواهبه الجبارة. بيّنتْ الأفكاروالتحاليل الواردة في سطور هذا المقال أنه لايمكن الحديث عن ظاهرة العقل البشري في غياب منظومة الرموزالثقافية التي يملكها ويستعملها قليلاً أوكثيرًا أفراد الجنس البشري. وهذا ما يفسرحرمانَ بقية كائنات الأجناس الحية الأخرى من عقول لها المواصفات نفسها التي يتمتع بها العقل الإنساني. إذن، فالعلاقة بين ظاهرة العقل البشري ومنظومة الرموزالثقافية هي علاقة مباشرة وقوية وحتمية. ومما يزيد في مشروعية ومصداقية هذا الطرح الفكري وهذا التصور تلك الملاحظات الميدانية التي تؤكد وجود أنماط العقول المختلفة لدى الناس. لقد وقعتْ الإشارةُ أعلاه إلى ثلاثة أصناف من العقول يمكن ملاحظتها في الكثيرمن المجتمعات في عصرالعولمة وهي : العقول الأمية والعقول المتعلمة والعقول المفكرة العالمة والعظيمة. إن ما يفصل بين هذه الأنماط الثلاثة من العقول البشرية هو درجة فقرها في أو امتلاكها لعناصرمنظومات الرموزالثقافية، فالإنسان الأمي فقير في نصيبه من رصيد الرموزالثقافية. فحسب التعريف المتداول لمفهوم الأمية، هوشخص لايعرف القراءة والكتابة ومن ثم فهومحروم من المعرفة والعلم في أوسع وأعمق معنييْهما الأمرالذي يعطل قدرته على التفكيرالواسع والعميق. وفي المقابل، الإنسان ذو العقل المفكر والعالم يتمتع بنصيب عظيم وغني من منظومة الرموزالثقافية، تأتي في طليعتها مهارتا القراءة والكتابة وامتلاك المعرفة والعلم الواسعين والعميقين والقدرة على الفهم والتفكير، وبالتالي كسب رهان المساهمة في الإنتاج والتجديد والابتكار في رحاب الميادين المعرفية والعلمية. يتضح مما سبق مدى مشروعية التنظيرحول ميلاد العقل وتطوره وبلوغه القمة في أحضان منظومة الرموزالثقافية.
------------------------------------
* عالم اجتماع - تونس.