جمال العربية

جمال العربية
        

مع الشاعر اللبناني الذي يُنسب إلى نفسه
صلاح لَبْكِي وقصيدته (الليل)

          لا أذكر - على وجه التحديد - من هو قائل هذه العبارة المفعمة بالمحبة والتقدير: (في مؤمّلي الذي يتطاول عهدًا أن أقول في صلاح لبكي بعض العجب!). لعله سعيد عقل, شاعر لبنان الكبير, فالعبارة تشبه لغته - في نثره وفي شعره - ولعله كان يقدم بها - فيما أذكر ملحمة صلاح لبكي الشعرية المتفردة (سأم) التي يصور فيها نشأة الخليقة, وما وراءها من أسرار محجوبة, ومن حكايا وأساطير.

          هذه الملحمة التي أتيحت لي قراءتها منذ نصف قرن, عندما حملها إلينا - نحن رفاقه من طلاب الجامعة - الشاعر والناقد الأردني خالد الساكت, وكان مفتونًا بالشعر والشاعر, أما نحن - طلاب العلم والمعرفة في مصر - فلم نكن قد سمعنا باسم صلاح لبكي على الإطلاق. وشيئًا فشيئًا بدأت الغيوم تتكشف, وخزانة الأوراق تطلعنا على الشاعر الذي ولد في البرازيل عام 1906, والذي توفي عام 1955, بعد اكتشافنا له ولشعره - من خلال زميلنا الأردني الذي كان يسبقنا في العمر وفي صبوات المعرفة - بعام واحد.

          نعم, نصف قرن لا تزيد ولا تنقص, تقضّت على تلك الأيام التي هي زهوة العمر الجميل ونضارته وتألقه, أتذكرها وأستعيدها - بكل فرحها وجيشانها وانطلاقها - وأنا أستعيد معها الأبيات الأولى في ملحمة (سأم) التي يقول فيها صلاح لبكي:

متى يسفرُ الأفقُ الغيهبُ? وتسمع يا رب ما أطلبُ?
رأيتك - قبل انهمار السّنين يؤانسني وجهُك الطيّبُ
وأنت قريبٌ إليّ, قريبٌ كنفْسي منّي, بل أقربُ!


          ودار الزمان دورته, وتفرّق الرفاق بددًا في كل اتجاهات الأرض, لكن اسم صلاح لبكي لم يفارقني منذ ذلك الحين. ظللت أسأل عنه كل من ألقاهم من شعراء لبنان الأصدقاء, وأسأل عنه وعن شعره, ودوران هذا الشعر, في محافلهم ومؤتمراتهم ومهرجاناتهم. وعندما كانوا يحتفلون في (زوق مكايل) بخمسينية إلياس أبو شبكة سألت مرة أخرى عن شاعرهم العبقري الذي رحل ولمّا يبلغ الخمسين, فلم أظفر إلا بوعود مؤجلة, ترتجّ من تحتها نوايا وأمنيات يمكن أن تتحقق في القريب. وها هو ذا القريب يصبح أدنى مما نتصور. ففي هذا العام: 2005 - تحين الذكرى الخمسون لرحيل صلاح لبكي, فهل يبقى بعد هذا عذر لمن يتهرب أو يتقاعس?

          أكتب في باب (جمال العربية) عن صلاح لبكي, لأنه واحد من مبدعي هذا الجمال وصُنّاعه ومؤسسيه. جمال العربية حين ينساب به قلمه ليس مجرد لغة ومفردات وتراكيب, لكنه نَفَسٌ ينساب في عشقٍ - أشبهَ بعشق الصوفيين - وتدفق موسيقي يحاكي هسهسة الأنهار وهي تصدح بثروتها من الماء القراح, ورسم باللون والظل والحركة والإيماءة والإيحاء للوحاتٍ ثرية بالإيقاع والتجليات, هي قصائده الزاخرة بجماليات التعبير والتصوير, والتأمل الهادئ العميق, والفكر الذي يقبض على الكون ويعتصره بقبض اليدين, محاولاً استكناه أسراره وألغازه وأحاجيه, حتى لو اقتضى الأمر قدْرًا من الفناء فيه, والحلول في شخوصه وكائناته, حالمًا بضمةٍ تنفتح فيها ذراعاه وتتسعان لكل هذا الوجود, مصدرِ وحيه وإلهامه.

          تقدم لنا السيرة الذاتية لصلاح لبكي مفردات قليلة عنه, أهمّها أنه حصل على إجازة في الحقوق, ثم عمل في الصحافة, وشارك في تأسيس جمعية (أهل القلم) وأن من دواوينه: مواعيد, وغرباء, وحنين, والملحمة الشعرية (سأم), وأن أعماله الكاملة صدرت في بيروت عام 1981.

          لكن, ما بالنا ندور من حوله, ونتحدث عنه, دون أن نلقاه وجهًا لوجه, من خلال واحدة من بدائعه الشعرية وعنوانها (الليل):

رحمَ الليلُ أعينَ السهّادِ ومَحتْ كفُّه الشعاعَ المُنادي
أخرستْ كلّ صيحة في فم الشمسِ ومالت بكبرياءِ المِهادِ
وبِمثْلِ الحنان سربلت الكوْنَ ببُرْدٍ من هينماتِ السّوادِ
أيْ رب يا ليل, أنت رئيفٌ بتجنّي الورى ورِجْسِ العِبادِ
ما كسوْتَ الوجود لُطْفكَ إلا خجِلَ الشوكُ بالرؤوسِ الحِدادِ
واستفاقت على يديْك الأماني حالماتِ الألوانِ والأورادِ
تملكُ الغمْرَ والترابَ كما يملكُ قلْبَ العذراءِ حُلمٌ غادِ
ثم تغشى الجوّ الفسيح وتنسابُ حياةٌ ريّانةٌ في الجمادِ
ويفيض الجمالُ منك فلا يبقى قبيح في الكون إلْف حِدادِ
بسمة أنت في السفوح وعفْوٌ دائم الفيض دائمُ الميلادِ
كلٌّ حسنٍ من فضل كفّك حُسنٌ روعة الصمت والجلال البادي
انظرِ الأرضَ حينَ تلفحُ أنفاسُك وجه السهولِ والأَنْجادِ
تَرها والخشوعُ هدهد عِطْفيْها تهادت بالإثمدِ المُتهادي
فشفاهُ الورود فوْحُ بخورٍ مرسلٌ في مجاهِل الأبعادِ
تنحني دونك البرايا وتنهدُّ سُكارى, بنشوةِ العُبّادِِ
فالتسابيح من صدور الروابي صاعداتٌ ومن ذُرى الأطوادِ
والضراعاتُ تائهاتٌ على رجليْكَ مسفوحة على كلِّ وادِ
شربتْكَ الدنيا كما تتملّى هاطلاتِ الغيوث عطشى الوهادِ
عبد الناسُ دونَكَ الشمسَ في الأعصُرِ قِدْمًا فيا لجهلِ العِبادِ
مرّغوا الهام دون (مردوْكَ) في (بابلَ) خوف السّنا المُشعّ البادي
واستذلوا حيال (آتون) مصرٍ قبل فجر الأهرامِ قبل العوادي
وثرى (الصين) خافق بدمِ الكُهّانِ غِبّ الصلاةِ في الأعيادِ
آن تستقبل الخدودُ المُدَى والأرجلُ النارَ, والجموعُ نوادِ
ويُذرُّ الأرزُ والملْحُ في النارِ فتزداد فوق كلّ ازدياد
وتُوالي الفحيح فهي أفاعٍ تتلوّى جريحةً في الرمادِ
وعذارى حُرِمْنَ في طُرق الشّمْسِ نَواجي الهوى ودفْءَ الودادِ
خالعاتٌ مُنى الشبابِ عليها واهناتٌ في عُزلةِ الزهّادِ
ظامئات للحبّ في مسرح النورِ فهل نلْن غير غصّاتِ صادِ?
حمّلوهن فوق مُتّسع الأنفُسِ طُهرًا, وتلكم الأجسادِ
سائلوا (بعلبك) هل شمسُكِ إلا مواكبَ استشهاد!
سائلوها كم مرةٍ نثر السيفُ على حدّه سنا الأجيادِ
عبد الناسُ وحَدةَ الضوءِ قِدْمًا وفَدوْهُ بطارفٍ وتِلادِ
رهبوا الوهْج في المشارقِ وارتدّوا حيارى في سرّه الوقّادِ
لو دروْا بعض ما تُكنُّ لخرّوا في العشيّات فوق صدر الجهادِ
كنت قبل الزمان في خاطر الغيْبِ وتبقى على مدى الآبادِ
حين لا تُشرقُ الشموسُ ولا يُلمحُ في الأفْقِ كوكبٌ فوق حادِ
وتموتُ الأزهار إلا أريجًا في حواشيكَ عالقًا في البِجادِ
وتروح الدُّنا يُجلْبِبُها الثلج بأكفانِه, وتمضي بَدادِ
فإذا أنت واحدٌ أروعُ الوحْشةِ تسمو إلى ذُرى الآحادِ
أنا أهواكَ في الشتاء غضوبًا بين لمع البروقِ والإرعادِ
غضبتَ المؤمنينَ تحت مُثارِ النّقْعِ في حوْمة الوغى والجهادِ
ترزح البيدُ تحت عصْفكَ خوْفًا وتميد الجبالُ غيْرَ جِلادِ
أنا أهواك في الربيع رقيق البثِّ حُلْوَ المنى كوجْهِ بلادي
تحلم الشهبُ في ذراك على الأرواحِ مأخوذةً بترجيعِ شادِ
وتكاد الحياةُ تسعى مع الريحِ على كلّ مُورقٍ ميّادِ
أنا أهواك في الخريف وفي الصيْفِ وأهواكَ في غناءِ الحادي
ليت لي ضمةً أشدُّكَ فيها بذراعيْ مُعانقٍ مٌتمادِ
فيميلُ الوجودُ حولي وينهارُ وتبقى مخلّدا لفؤادي!


          من السهل أن يقال - في التعليق على هذه القصيدة - إنها تنتمي إلى المدرسة الرومانسية العربية في معناها الواسع من حيث المعجم الشعري والصور الشعرية والخيال المترامي الأبعاد والعاطفة الجياشة. لكن تصنيفها داخل هذا الإطار يظلمها ويحدد أبعادها, لأنه يحول بينها وبين كونها تحمل أثارات وملامح من النموذج الرمزي لدى العديد من أعلامه وفي مقدمتهم بشر فارس وسعيد عقل وإلياس أبو شبكة وآخرون. ثم هي تُغاير المألوف والمعتاد في الشعر الرومانسي حين تعتمد البنية الكلاسيكية متكأً ومُستقرًا, يحفظ للقصيدة شموخها وعُنفوانها واكتمال أدائها. هل نقترب أكثر من مدار الخصوصية الشعرية في هذه القصيدة حين نُصنّفها باعتبارها نسيج وحدها, قد تتشابه مع ما نعرف, بقدر ما تختلف عنه وتبتعد في الوقت نفسه? وإن هذ الخصوصية هي نفسها معنى التفرد عند صلاح لبكي, في نزعته الإنسانية الوجودية, وقلقه الحسّي الروحي المفجّر لصراعات النفس والجسد, وفي توْقه الدائم للمغامرة والتحدّي والوقوف في وجه الثوابت الغليظة التي وُضعت لتقييد الأجنحة ومنعها من التحليق, أو محاولة خنقْ الروح وعدم إعطائها مداها الحقّ وآفاقها الرحبة لِنَفَسٍ مُغاير, ونسيم غير مألوف.

          في دائرة الشعر اللبناني الحديث - وهي الدائرة التي ينسب إليها عادة شعر صلاح لبكي, من السهل أن نجده لا يندرج تحت سماء شعرية تُظلُّ بشارة الخوري وأمين نخلة وأمين تقي الدين ومن قبلهم خليل مطران ورشيد نخلة وشبلي الملاط وأنيس الخوري المقدسي وغيرهم, وفي دائرة الشعر المهجري - التي ينتمي إليها بحكم المولد في البرازيل - لا نجده مُشْبهًا لجبران أو الشاعر القروي أو إيليا أبي ماضي أو ميخائيل نعيمة أو نسيب عريضة أو آل المعلوف: فوزي وشفيق ورياض, وغيرهم من الشعراء. في مثل هذه الحال يليق به أن يُنسب إلى نفسه, هذه حقيقته وهذا هو حسبه.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات