نيزك الهلاك... هل يقترب؟

نيزك الهلاك... هل يقترب؟

ثمة نوع من النيازك التي تضرب الأرض كل قرن من الزمان على وجه التقريب وتسبب هلاكاً واسع الانتشار على ظهر كوكبنا, وهذا المقال يرصد تاريخ واحد منها, ويدعونا للترقّب, لا بغاية التخويف, بل بهدف تقدير معجزة استمرار الحياة, واحترام لحظاتها.

بينما كان الجيولوجي والتر الفاريز من جامعة كاليفورنيا يفحص قطاعاً من الصخور الرسوبية قرب بلدة جوبيو الإيطالية لفت انتباهه طبقة رقيقة من صخر الطين. لم يكن مظهر الطبقة نفسه مثيراً للاهتمام, ولكن ما أثار استغراب ذلك الجيولوجي هو كثرة الأحافير البحرية الدقيقة أسفل هذه الطبقة (أي في الطبقات الأقدم منها) وندرتها في الطبقات التي تعلوها (والتي هي أحدث من طبقة الطين). كان من الممكن أن تمر هذه الملاحظة دون أن تثير أي تساؤلات لولا أن موضع تلك الطبقة كان تماماً على الحد الفاصل بين العصرين (الطباشيري) و (الثلاثي) وهو الزمن الذي حدث أثناءه الانقراض العظيم الذي شمل أغلب فصائل الكائنات الحية في ذلك الوقت. يعرف الكثيرون أن الديناصورات, تلك الزواحف الهائلة التي سادت الأرض لعدة مئات من ملايين السنين, قد انقرضت بنهاية العصر الطباشيري, ولكن ما لا يعرفه أغلب الناس أن أعداداً كثيرة من أنواع الكائنات الحية الأخرى حتى المجهرية منها قد انقرضت في الفترة الزمنية نفسها مما حدا علماء الجيولوجيا على أن يجعلوا الحد الفاصل بين العصرين الطباشيري والثلاثي هو فترة الانتقال من دهر الحياة المتوسطة Mesozoic الذي سادته الديناصورات إلى دهر الحياة الحديثة Cenozoic الذي نعيشه الآن والذي ازدهرت فيه الثدييات.

ولنعد الآن إلى والتر الفاريز الذي عرض عيّنات من تلك الطبقة الطينية على والده الفيزيائي الشهير لويس الفاريز والحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1968. بدأت الشكوك تراود ذهن الوالد الفيزيائي حول أصل هذه الطبقة, فاقترح تحليل عيّنة منها لمعرفة محتواها من عنصر الإيريديوم النادر جداً في القشرة الأرضية والشائع في النيازك والمذنبات. جاءت النتائج مذهلة, فتركيز الإيريديوم في تلك الطبقة من الطين كان عالياً جداً بشكل لا يمكن تفسيره بحسابات معدلات الترسيب السطحية.

10 بلايين قنبلة نووية

في سنة1980م نشر ذلك الفريق العلمي (الأب والابن) نتائج بحثهما الذي استنتجا فيه أن نيزكاً ضخماً أو كويكباً صغيراً قد ارتطم بالأرض وأدى إلى انقراض معظم الأنواع الحية قبل حوالي 65 مليون سنة. منذ ذلك الوقت اكتشفت طبقات شذّة الأيريديوم Iridium anomaly (كما أصبحت تسمى) في أماكن كثيرة من العالم وعلى الحد الفاصل نفسه بين العصرين الطباشيري والثلاثي. رغم كل هذا, فإن هذه النظرية ظلت محل شك لدى بعض الجيولوجيين الذين كان لسان حالهم يقول: (أرونا تلك الفجوة الهائلة التي تكوّنت بسقوط ذلك النيزك الضخم على سطح الأرض). هذا السؤال وإن كان منطقياً في أساسه, فإنه من الناحية العملية صعب التحقيق جداً, فإن حادثة وقعت قبل 65 مليون سنة مهما كان تأثيرها على سطح الأرض في ذلك الوقت, فلابد وأن تكون عوامل التعرية والترسيب قد أتت عليها بحيث قد لا تكون مكشوفة على سطح الأرض على أفضل الأحوال, بل ربما تكون قد محيت آثارها نهائياً.

لم يفت كل هذا في عضد المناصرين لنظرية نيزك الانقراض (أو قاتل الديناصورات كما أسموه) فبدأ البحث المحموم عن أي أثر يمكن أن يدل على مكان الارتطام الفعلي. عثر هؤلاء على ضالتهم في الشاطئ الشمالي لشبه جزيرة يوكاتان في المكسيك. في ذلك الموقع كان الجيوفيزيائيون من شركة النفط المكسيكية قد اكتشفوا فوهة ضخمة على عمق يزيد على 1100 متر تحت سطح الأرض, واعتقدوا آنذاك أن ذلك الانخساف الدائري الشكل لم يكن سوى فوهة بركانية هائلة. يبلغ قطر تلك الفوهة 200-300 كيلو متر, وهو أضخم بكثير من أي فوهة بركانية معروفة, لذلك بدأت في السنوات الأخيرة جهود استكشافية جبّارة لإزالة الغموض عن أصل تلك الحفرة الضخمة.

دلت نتائج الحفر العميق على أن الفوهة مليئة بالصخور المفتتة والزجاج الطبيعي الناتج عن انصهار الصخور ثم تبرّدها السريع. مثل هذه الصخور هي نواتج طبيعية لارتطام النيازك بسطح الأرض, أما الصخور البركانية فكانت غير موجودة البتة.

إذن كانت تلك الفوهة فعلاً مكاناً لسقوط نيزك ضخم منذ فترة زمنية بعيدة, ولكن متى? دل تحديد العمر بالنظائر المشعة في الزجاج الصخري من تلك الفوهة أن زمن الارتطام كان فعلاً قبل 65 مليون سنة, اكتشف بعد ذلك المزيد من حبيبات الزجاج الصخري في مناطق أخرى من البحر الكاريبي وأمريكا الشمالية على الحد الفاصل بين العصرين الطباشيري والثلاثي, حيث يبدو أنها نُثرت لمسافات بعيدة نظراً لشدة الارتطام.

منذ ذلك الوقت سمي ذلك المنخفض بـ(فوهة تشيكشولوب نسبة إلى المدينة الساحلية التي تقع فوق مركز الفوهة. يقدر العلماء حجم ذلك النيزك بحوالي 20 كم, فهو إذن يقترب من حجم الكويكبات Asteroids الصغيرة, وهو من النوع الصخري وليس الحديدي نظراً لتركيز الإيريديوم العالي به, كانت سرعة النيزك عند اصطدامه بالأرض تزيد على 000ر100 كلم/ساعة وقد ارتفعت المواد المقذوفة من وسط الفوهة إلى ما يزيد على ارتفاع جبل أفرست.

ماذا جرى مباشرة بعد الارتطام? حسناً, لقد كان ذلك منظراً جهنمياً حقاً, فقد اخترق النيزك الغلاف الجوي للأرض خلال ثلاث ثوان ليصطدم بسطحها مطلقاً كمية من الطاقة قدرها 100 مليون ميجا طن من مادة الـ TNT أي ما يعادل عشرة بلايين (000ر000ر000ر10) مرة قوة انفجار قنبلة هيروشيما النووية. ارتجت الأرض بزلازل عنيفة وغمرت السواحل بمياه الأمواج الهائلة, أما الفتات الملتهب المقذوف من فوهة الارتطام فقد عمّ الأرض بمطر من النار أحرق الغابات والحيوانات الكبيرة.

لم ينج بعد الساعات الأولى من الكارثة سوى الكائنات البحرية وبعض الحيوانات الصغيرة التي لجأت إلى جحورها, ولكن كل ذلك لم يكن سوى البداية. امتلأ الغلاف الجوي للأرض بالأدخنة السوداء الناتجة عن حرائق الغابات الهائلة والتي ربما حجبت أشعة الشمس لمدة سنة كاملة. نتج عن هذا عصر جليدي مصغّر أتى على أغلب الكائنات البرية التي نجت من الاحتراق, أما في البحر, فقد هلكت أغلب الطحالب نتيجة لانعدام أشعة الشمس وكان هذا بداية للانقراض الكبير للكائنات البحرية, حيث إن الطحالب تمثل قاعدة الهرم الغذائي في المحيط. بعد عدة سنوات, انقلبت الآية حيث انجلت سحب الدخان, وبقى غاز ثاني أكسيد الكربون موجوداً بكثافة عالية في الغلاف الجوي مما أدى إلى تسخين الأرض بطريقة الاحتباس الحراري إلى أكثر بكثير من المعدلات الطبيعية. هذا التغيير المناخي الأخير ربما كان هو الضربة القاضية لبعض الكائنات التي نجت بطريقة ما من الأهوال السابقة.

أكثر من عصر للانقراض

في نهاية الأمر, وبعد عشرات من السنين بدأت الأرض تسترد عافيتها وأخذت النباتات والطحالب بالنمو ممتصة غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء, فبدأت حرارة الأرض بالعودة إلى حدودها الطبيعية, وتكاثرت الحيوانات مرة أخرى, ولكن عهد الديناصورات قد ولى, فقد انقرضت تماماً وحل محلها كائنات أقدر منها على تحمّل تلك التقلّبات المناخية التي مرّت بها الأرض, وبدأ بذلك عصر الثدييات.لقد انقرض خلال سنوات قليلة حوالي 70% من أنواع الكائنات الحية كان أشهرها الديناصورات, ولم ينج من الزواحف الكبيرة سوى الأنواع المائية مثل السلاحف والتماسيح حيث كانت بمنأى عن كوارث الحرق والتجمّد الذي أعقبه. لم تكن تلك هي حادثة الانقراض الشامل الوحيدة في تاريخ الأرض فقد سبقتها حوادث عدة, أهمها تلك التي حدثت قبل 250 مليون سنة في نهاية العصر البرمي Permian والتي يعتبرها الجيولوجيون الحد الفاصل بين دهر الحياة القديمة Paleozoic ودهر الحياة المتوسطة Mesozoic. كان انقراض نهاية البرمي أسوأ فترة مرت بها الحياة على هذه الأرض, فقد قضى على ما لا يقل عن 90% من أنواع الكائنات البحرية و70% من الفقاريات على اليابسة.

أدى نجاح نظرية نيزك الهلاك في تفسير الانقراض الكبير في نهاية العصر الطباشيري إلى محاولة تطبيق النظرية نفسها على انقراض نهاية البرمي. رغم اكتشاف شذّات anomalies واضحة لعنصر الإيريديوم في صخور تلك الحقبة, إلا أنها كانت أقل بكثير من تركيزها في صخور نهاية العصر الطباشيري, ولكن ربما كان ذلك ببساطة راجعاً لاختلاف التركيب الكيميائي للنيزك. تواصلت الدراسات دون يأس حتى كان اكتشاف الفولرينات Fullerenes في عيّنات من أنحاء متفرقة من العالم. ولكن ما هذه الفولرينات? إنها عبارة عن مركبات كيميائية مكوّنة أساساً من ذرات الكربون المرتبطة بعضها بعضا على شكل كرة مجوّفة, وهي في ذاتها لا تدل على منشأ من خارج كوكبنا الأرض, ولكن في داخل تلك الكرات المجوّفة وجدت بوفرة نظائر من عنصر الهيليوم من نوع نادر جداً على الأرض. يعتقد العلماء أن هذا دليل قوي على أن هناك نيزكاً ضخماً قد ارتطم بالأرض في تلك الحقبة, وقد اكتشفت أيضاً تلك الفولرينات المليئة بالهيليوم غير الأرضي في طبقات نهاية العصر الطباشيري.

يبدو هذا النقاش مثيراً للقلق, فلابد أن القارئ الآن يتساءل عن إمكان تكرار مثل تلك الحوادث, وهل يا ترى يكون بنو البشر يوماً ما ضحاياً لكويكب شارد مثلماً حدث للديناصورات من قبل? إن النيازك تخترق الغلاف الجوي للأرض باستمرار ولكن لحسن الحظ فإن أغلبها صغير الحجم جداً ويحترق قبل وصوله إلى سطح الأرض. رغم هذا, فإن بعض النيازك الكبيرة نوعاً ما تستطيع من وقت لآخر إحداث تأثيرات مدمّرة لمناطق شاسعة كما حدث في تونجوسكا بسيبيريا قبل 94 سنة. في يوم 30 يونيو سنة 1908م, دوّى صوت انفجار هائل فوق نهر تونجوسكا السيبيري. وأدت الموجات الاهتزازية لذلك الانفجار إلى اقتلاع الغابات على مساحة 1000 كيلومتر مربع وإبادة قطعان الأيائل والوعول.

يعتقد العلماء أن ذلك الانفجار كان ناتجاً عن نيزك لا يقل وزنه عن 000ر100 طن, وأطلق عند انفجاره طاقة تعادل انفجار قنبلة هيدروجينية ضخمة.

وفي صحراء أريزونا تتكشّف فوهة قطرها 1200 متر وعمقها 180 متراً, وهي - بلاشك - أفضل فوهة نيزكية مكشوفة على سطح الأرض. يقدر علماء الجيولوجيا عمر هذه الفوهة بما يتراوح مابين 25000 و50000 سنة, وأنها نتيجة لسقوط نيزك حديدي قطره 30-100 متر ويزن تقريباً 000ر60 طن.

بعد ست سنوات?!

إذن سقوط النيازك الضخمة هو حقيقة واقعة على كوكبنا الأرضي, ولكن ما فرصة ارتطام نيزك قطره عدة كيلومترات بالأرض? إن الجدول يبيّن تناقص معدل التساقط مع زيادة حجم النيازك. ويُظن أن نيزكا قطره كيلو متر واحد يمكن ان يبيد 25 % من البشرية, ولكن هذا يظل احتمالاً ضئيلاً إذا ما عرفنا أن مثل هذا الجسم السماوي لا يرتطم بالأرض إلا كل 100 ألف سنة تقريباً. لكن نظرة أخرى إلى الجدول المنشور كافية لإلقاء الرعب في القلوب. فإن نيزكاً يصل حجمه إلى 50 متراً قادر على تدمير منطقة بحجم ولاية أمريكية تقريباً, وهذا النوع من النيازك يضرب كوكبنا بمعدل مرة كل 100 سنة حسب تقديرات علماء الفلك. وآخر نيزك من هذا النوع هو ذلك الذي دمّر منطقة تونجوسكا السيبيرية 1908م, لقد حدث ذلك قبل 94 سنة, فهل يعني هذا أن هناك كارثة بالحجم نفسه في طريقها إلينا خلال السنوات القليلة القادمة

قطر النيزك

معدل التساقط

1 سم 10/ساعة
2 سم 1/ساعة
10 سم 1/10 ساعات
30 سم 1/شهر
50 مترا 1/100 سنة
1 كلم 1/000ر100 سنة
2 كلم 1/000ر500 سنة

* معدل تساقط النيازك تبعاً لحجمها


 

أحمد محمد الصالح







فوهة نيزك أريزونا الضخمة.





موقع بلدة تشيكشولوب في شمال جزيرة يوكاتان بالمكسيك





في الأعلى: خارطة جيوفيزيائية تمثل امتداد فوهة تشيكشولوب تحت سطح الأرض، لاحظ أن نصف الفوهة تقريباً على اليابسة والباقي مغمور بمياه البحر





قطع دائرية من الزجاج الطبيعي استخرجت من الحد الفاصل بين العصرين الطباشيري والثلاثي في ولاية وايمنج الأمريكية.





شكل مجسم لفوهة تشتكشولوب المدفونة الآن على عمق أكثر من 1100 متر تحت سطح الأرض.





لحظة ارتطام النيزك بسطح الأرض





انطباع فنان عن حادثة تشيكشولوب، يلاحظ أن حجم النيزك مبالغ فيه جداً





صور لكويكبات مختلفة التقطت عن طريق مركبة جاليليو بين المشتري والمريخ.