حتى لا ننسى أطفال بهوبال مازالوا يدفعون الثمن

حتى لا ننسى أطفال بهوبال مازالوا يدفعون الثمن
        

          في ديسمبر الماضي, ضربت كارثة التسونامي جنوب شرق آسيا مخلفة وراءها, حسب الإحصاءات الرسمية, أكثر من ربع مليون قتيل. ويقول بعض المراقبين إن العدد الحقيقي للضحايا لن يعرف أبدا. وسيسجلها التاريخ باعتبارها أحد أسوأ الكوارث الطبيعية في تاريخ البشرية.

          وفي ديسمبر الماضي أيضا, مرت الذكرى العشرون لكارثة أخرى لا تقل سوءا, لكنها لم تكن من فعل أمنا الأرض, بل من فعل البشر.

          فمنذ أكثر من عشرين عاما, وتحديدا في ليلة الثاني من ديسمبر 1984, تسرب أكثر من أربعين طنا من الغازات القاتلة من مصنع الأسمدة التابع لشركة يونيون كاربايد في مدينة بهوبال الهندية. وكانت أسوأ كارثة صناعية في التاريخ.

          وقد تسرب غازا إيسوسيانات الميثان Methyl Isocyanate وسيانيد الهيدروجين Hydrogen Cyanide وغازات سامة أخرى من صهريج لتخزين المواد الكيميائية أثناء عملية صيانة روتينية. ومع سوء أداء وتعطل أنظمة الأمان, غطت سحابة كثيفة من غاز إيسوسيانات الميثان منطقة مساحتها 40 كيلومترا مربعا يقطنها أكثر من نصف مليون إنسان. وخلال الأيام الثلاثة الأولى بعد الحادثة, مات الآلاف في بهوبال بسبب استنشاق الغاز الذي أدى إلى إصابتهم بهبوط حاد في التنفس والدورة الدموية.

مشاهد مخيفة

          ولم يعرف الناس ما أصابهم. فلم يكن هناك تحذير. وقبل أن يدرك أحد الحجم الحقيقي للكارثة كانت الغازات السامة تغطي المنطقة بأسرها. واستيقظ الناس في بيوتهم على سعال حاد, وكانوا يختنقون, وعيونهم تحترق وأخذت رئاتهم تمتلئ بالسوائل. وانطلق الناس في الشوارع في كل الاتجاهات بحثا عن مهرب. وسقط الكثيرون صرعى وهم يجرون بحثا عن النجاة من خطر لا يعلمونه. وتهاوى آخرون على أبواب المستشفيات حيث كان الأطباء وأفراد الأطقم الطبية أنفسهم ضحايا للغازات السامة أو وقفوا عاجزين أمام تدفق المصابين وعدم معرفتهم بطبيعة الغازات المتسربة. وخلال أيام ثلاثة فقط, وصل عدد المصابين إلى نصف مليون بينما وصل عدد القتلى إلى عشرين ألف شخص.

          وكشفت الأيام التالية عن مشاهد مخيفة تعجز عن تصويرها حتى أفلام الرعب. أخذت فرق الإغاثة التي وصلت إلى المدينة في تجميع الجثث في أكوام بعضها فوق بعض. وكانت الشاحنات تنقل أكوام الجثث إلى المحارق والمقابر الجماعية. ودفن المئات في صفوف من المقابر الجماعية. وتصاعد دخان إحراق أكوام الجثث ليكون مشهدا رهيبا مع أشعة الشمس الغاربة. وأخذت الكلاب الضالة تنهش جثث الحيوانات الملقاة في الطرقات. وانتظرت البيوت المشرعة أبوابها عودة أصحابها. وانعقدت ألسنة المصابين العاجزين عن التعبير عن آلامهم. وخلال الأيام القليلة الأولى التي أعقبت الكارثة كان الرعب والذهول عنوان المشهد برمته.

تشوش وفوضى

          وكان التشوش والفوضى جزءا من الكارثة منذ البداية. وكان سواراج بوري مأمورا لقسم شرطة بهوبال عند وقوع الكارثة. وبعد عشرين عاما من وقوعها, يصف المشهد الذي رآه بقوله: (لم أشهد بعيني المآسي التي حدثت أثناء تقسيم الهند في العام 1947. لكنني سمعت الكثير من الروايات عن أناس يفرون من بيوتهم في هلع للنجاة بأرواحهم. وما شاهدته في بهوبال جعلني أدرك ماذا يعني سيناريو الهلع والفوضى).

          ويضيف بوري: (كان الهواء مثقلا بالغازات. وقد توجهت إلى المصنع رغم أن الجميع كانوا يفرون في الاتجاه المعاكس. وعندما وصلت إلى المصنع, سألت ما هي المادة المتسربة وما هو علاجها. كان ذلك في نحو الثانية عشرة ليلا. لكنهم لم يخبروني بشيء. وانتظرنا حتى الساعة الثالثة صباحا عندما جاءني في مركز الشرطة أحد العاملين في المصنع وأخبرني أن المادة المتسربة كانت إيسوسيانيت الميثان. وقد كتبت اسم المادة على طرف ورقة صحيفة. ومازلت أحتفظ بهذه القصاصة حتى الآن).

          وكانت الأحداث التي أدت إلى الكارثة التي ضربت بهوبال في تلك الليلة قد بدأت في ظهيرة ذلك اليوم المشئوم. فخلال عملية صيانة روتينية أدى خطأ لعمال الصيانة إلى تسرب المياه على نحو مفاجئ وكارثي إلى الخزان الذي يحتوي على إيسوسيانيت الميثان, وهي مركب كيميائي غير مستقر وشديد الخطورة.

          لكن تخزين هذا الحجم الهائل من تلك المادة الخطرة في مكان واحد يظل موضع تساؤل. فإيسوسيانيت الميثان مركب وسيط, والكل يعلم أن تخزينه بكميات كبيرة أمر محفوف بالمخاطر. بل إن أحدا لا يصنعه أو يخزنه بكميات كبيرة لفترات طويلة. ويذهب المدافعون عن شركة يونيون كاربايد إلى أن الشركة أفرطت في ثقتها في قدرتها على تخزين هذه المادة المتفجرة ولم تزعج نفسها أبدا بالتفكير في المخاطر.

          لكن الحقيقة أن الشركة كانت تواجه مشاكل في تسويق المخصبات الزراعية التي تنتجها وحاولت تخفيض إنفاقها من خلال تقليص إجراءات الأمان. وأثناء عملية الصيانة الروتينية التي أفضت إلى الكارثة, كانت أنظمة الأمان الحيوية في مصنع الأسمدة إما سيئة الأداء أو معطلة تماما.

          وبالرغم من أن إدارة الشركة صمتت ثلاث ساعات قبل أن تبلغ الشرطة رسميا بطبيعة المشكلة, فإنه كان لديها الوقت الكافي لإنقاذ كل العاملين في المصنع. ويقول شاكيل موريشي, الذي كان مسئولا عن مناوبة الليل في المصنع في تلك الليلة: (أحد أسباب عدم وفاة أي من العاملين في المصنع أننا أخبرنا جميعا أن نفر في الاتجاه المعاكس للمدينة وأن نبقي أعيننا رطبة بوضع قطع أقمشة مبللة بالمياه عليها). لكن إدارة الشركة لم تفعل شيئا لتحذير سكان المدينة من الكارثة المحدقة. ومع تسرب غازي إيسوسيانات الميثان وسيانيد الهيدروجين, وغازات سامة أخرى إلى سماء المدينة, لم يبلغ أحد سكان المدينة بنصيحة بسيطة: (ألا يهلعوا وأن يبقوا داخل بيوتهم ويبللوا أعينهم بالمياه لكي تمنحهم بعض الحماية). ولكي تنكأ الجرح أكثر, قررت الشركة بسرعة أن تنجو بجلدها من خلال التقليل من حجم وتأثير الكارثة. فعلى مدى أيام عديدة بعد وقوع الكارثة, ظل مدير الصحة والسلامة والشئون البيئية في يونيون كاربايد جاكسون براوننج يصف الغاز بأنه: (ليس سوى غاز فعال مسيل للدموع).

27 مادة كيميائية

          وواصلت الشركة أسلوبها المستهين حتى بعد أن عرف العالم أجمع بموت الآلاف بسبب الكارثة وإصابة عشرات الآلاف بعاهات مستديمة طوال عمرهم. ويقول الدكتور ساتباثي, وهو طبيب في مستشفى هاميدا, المستشفى الحكومي الوحيد الذي كان يعمل ليلة الكارثة: (حتى اليوم, لا يعلم أحد ما هو العلاج الصحيح الذي يمكن تقديمه لمن يستنشق غاز إيسوسيانات الميثان. وبما أن شركة يونيون كاربايد كانت تتعامل مع هذه المادة الخطرة لعقود عديدة, فإنها تتحمل مسئولية إبلاغ الناس بشكل عام, والعاملين في المجال الطبي بشكل خاص, بالعلاج الذي يجب تقديمه لمن يستنشق غاز إيسوسيانات الميثان. لكن الشركة لم تقدم لنا أي معلومات من هذا النوع).

          وقد أشرف الدكتور ساتباثي على أكثر من عشرين ألف عملية تشريح لجثث ضحايا التسرب الغازي. وهو يقول: (من تشريحنا لجثث من ماتوا في أعقاب الكارثة, وجدنا في جثثهم على الأقل 27 مادة كيميائية ضارة لا يمكن إلا أن تكون قد أتت من الغاز الذي استنشقوه. لكن ليس لدينا أية معلومات عن التفاعلات التي أدت إلى وجود هذه المواد في جثثهم).

          لكن المعلومات المتعلقة بأبحاث الشركة, بما في ذلك تلك الأبحاث التي أجريت في جامعة كارنيجي ميلون ببتسبرج بالولايات المتحدة الأمريكية في 1963 و1970, تبقى (أسرارا تجارية).

          وإذا كانت تلك هي بداية المأساة, فإن الأعوام التي أعقبتها كانت أسوأ بكثير حيث تحولت المأساة إلى انهيار بطيء ومؤلم حتى الموت لمعظم الناجين. فقد أصاب التلف رئاتهم إلى الأبد. وتقلصت قدرتهم على العمل. ولم يحصلوا من الشركة على تعويض سوى فتات الفتات.

حظ من الأوفر?!

          وحتى اليوم يموت في كل شهر ثلاثون شخصا نتيجة تداعيات صحية مرتبطة بالحادثة. وقد كان تأثير الكارثة مرعبا على الأطفال بشكل خاص. وحتى اليوم, مازال أطفال بهوبال يدفعون الثمن. فقد مات آلاف الأطفال في الأيام التالية لوقوع الكارثة نتيجة لعجز أجسادهم الضعيفة عن مقاومة آثار التسمم. وبعد سنوات عديدة من وقوعها, استمرت نساء بهوبال في ولادة أطفال مشوهين ومصابين بإعاقات جسدية وعقلية.

          وتقول تشامبا ديفي شوكلا, وهي إحدى الناجيات من الكارثة وترأس اليوم جمعية أهلية لمساعدة الضحايا: (حتى اليوم, مازلنا نعثر على مواد مسرطنة في حليب الرضاعة لدى أمهات بهوبال).

          وتضيف تشامبا: (أحيانا أعتقد أن من ماتوا عند وقوع الكارثة كانوا أكثر حظا ممن نجا منها).

          ومنذ حدوث الكارثة وحتى اليوم, تسحق آثارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية حياة الملايين من الهنود البسطاء. بينما لم يلحق بشركة يونيون كاربايد, وفرعها الهندي شركة يونيون كاربايد إنديا ليميتد, أي تأثير يذكر.

          فإجمالي التعويضات التي دفعتها الشركة كان 470 مليون دولار. وهو قطرة ضئيلة مقارنة بالمبلغ الذي دفعته عملاقة صناعة النفط إكسون غرامة عن الأضرار البيئية التي سببها التسرب النفطي من الناقلة إكسون فالديز في ألاسكا في العام 1989, والبالغ خمسة بلايين دولار.

          ومع أن شركة إكسون تخوض حتى الآن معركة قضائية من أجل تقليل مبلغ الغرامة, فإن ما دفعته حتى الآن يفوق بكثير كل ما تكبدته يونيون كاربايد في قضية بهوبال. والمفارقة أنه لم يقتل إنسان واحد كنتيجة مباشرة لحادثة ألاسكا, بينما مات أكثر من عشرين ألفا في أعقاب كارثة بهوبال.

الإنسان وكلب البحر

          ولكي تزداد الصورة قبحا لك أن تعرف أن إكسون دفعت 490 دولارا لتنظيف كل حيوان من حيوانات كلب البحر تلوث بالنفط. وفي بهوبال, تلقى كل إنسان أصيب بعاهة مستديمة مدى الحياة تعويضا بلغ في المتوسط 500 دولار أمريكي, وهو مبلغ يكفي بالكاد لتغطية نفقات العلاج الطبي لفرد واحد على مدى خمس سنوات فقط. ويبدو أن نصيب كلاب بحر الشمال أفضل بكثير من فقراء الجنوب.

          حدث هذا بالرغم من أن الشركة بدأت في تجنيب جزء من أرباحها بعد وقوع المأساة من أجل دفع هذه الفاتورة. وقد تم تجنيب 250 مليون دولار في ميزانية العام الذي وقعت فيه المأساة, ثم جنبت الشركة خمسين مليون دولار أخرى سنويا على مدى السنوات الخمس التالية.

          وبعد أن سددت الغرامة الهزيلة, غسلت يونيون كاربايد يديها تماما من القضية وقطعت كل صلة لها بمنطقة بهوبال التي سممتها. بل وهجرت مصنعها في بهوبال في العام 1999, عندما انتهى عقد إيجاره, مخلفة وراءها العديد من الحاويات والأوعية المملوءة بالمواد الكيميائية الخطرة.

 

أحمد الشربيني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




هذا الوجه لطفل مجهول من بهوبال أصبح رمزا للحركة العالمية المطالبة بالعدالة لضحايا الكارثة





 





احتراق العيون كان مصير من نجا من الكارثة





نصيب كلاب بحر الشمال كان أفضل من فقراء الجنوب





تسرب النفط من الناقلة إكسون فالديز كلف شركة إكسون خمسة بلايين دولار