مباهج الزجاج

مباهج الزجاج
        

          في حديثها عن القطع الفنية التي قدمتها في معرضها (وجوه المدينة), قالت الفنانة فاطمة الطناني: (لقد كنت مبتهجة وأنا أصنعها). ويمكننا القول إن تلك البهجة كانت تنطلق من الحس النقدي الجمالي, والساخر في معظم الحالات, والذي أعادت به الفنانة تقديم الكثير من الوجوه المعروفة في صيغة أقنعة, تحمل ظلالا وأضواء من ملامح سياسيين معروفين, وفنانين, وشخصيات تاريخية, بل حتى شخصيات من كتب الأدب مثل السيد أحمد عبد الجواد ـ الشهير بـ(سي السيد) ـ في ثلاثية نجيب محفوظ. لكن الفنانة وهي تعيد ترتيب الأضواء والظلال التي توحي بها هذه الشخصيات/الأقنعة, كانت تلجأ إلى إمكانات مادة تشكيل نادرة وصعبة في حركة التشكيل المعاصر, وهي قطع الزجاج الملون التي تمرر أطيافا لونية وتحجب غيرها, على عكس ما تفعل ألوان (البالتة) التي تنجز وظيفتها التشكيلية بأن تعكس موجات منتقاة من الطيف الضوئي. وهنا تتجسد الجدة والصعوبة في آن, فبينما تجسد الخطوط وضربات الفرشاة الدروب التي يسلكها المصور أولا بأول, فإن فنان الزجاج الملون تظل رحلته الإبداعية خافية, تنتقل من مستوى تخيلي ـ داخل الفنان ـ إلى آخر, ولا تسفر عن نفسها حتى باكتمال العمل, فشعاع الضوء يظل مشاركا أصيلا في إبداعات الزجاج الملون, بل مشارك متغير تبعا لمساقط الضوء ودرجات السطوع أو الخفوت, وهذه كلها حسابات لابد أن يجريها الفنان في ذهنه بدقة وتواصل, وتصور استباقي, وتوقع دائم للحيود والمفاجآت. وهنا يبدو العلم لازما لزوم الضرورة لهذا النوع من الفن, وهو أمر متحقق في فنانة الزجاج الملون المصرية البارزة فاطمة الطناني, فهي في الأساس مهندسة معمارية, نالت درجة عضو في جمعية المهندسين المعماريين البريطانية, وهي من القلائل المتخصصين في دراسة الطاقة الشمسية السالبة, ولعل هذا كله كان مكرسا للهدف الكامن الذي كانت تسعى إليه الفنانة: إبداع الزجاج الملون.

          فاطمة الطناني سيدة بسيطة لا تعرف الافتعال, لا تتحدث كثيرا عن فنها, لكنها في القليل الذي تقوله تبلور مفاهيم جوهرية فيما تفعل, فهي تقول: (الزجاج مادة حية جدا). وهو قول يبدو بعيدا عن الحقائق الأولية للزجاج كمادة, لكنه تلخيص دقيق لتحولات الزجاج الكونية, والأرضية, والبشرية التي جعلته ينبض بالحياة في أعمال الزجاج الملون. فالزجاج كمادة في تكوينها الأساس, يوصف بأنه سائل تم تبريده تبريدا فائقا, بمعنى أنه تحول من السيولة إلى الصلابة دون المرور على نقطة تجمد, وهو جدير بهذه الأعجوبة, إذ يرجح العلماء أنه وصل إلى كوكبنا من الفضاء الخارجي على هيئة حبيبات من السيلكا مصدرها النيازك, وبعضه نتج عن التبريد السريع لمكونات معدنية من صهارة البراكين. وبالرغم من التاريخ السحيق للزجاج, الذي تعرف الإنسان على مادته الأساس ـ السيلكا أو أكسيد السيلكون ـ في الرمل, فإن العلماء عجزوا عن الوصول إلى تحديد عناصر وشروط تكوينه, وكل ما أمكنهم قوله هو أنه نتاج صهر معادن معينة وتبريدها بسرعة تبريدا شديدا وسريعا حال دون تكون البلورات.

          الزجاج الشائع, ومنه الذي يستخدم في فن الزجاج الملون, غالبا ما تضاف إليه مادة مثبتة كالحجر الجيري, ويكون الصهر في حرارة 2700 درجة فهرنهايت. وضمن خطوات الإعداد تدخل الأكاسيد والفلزات لتمنح شفافية الزجاج ألوانا ماهي إلا مرشحات لأطياف الضوء. ولعل هذه الألوان, مع اللعب الجمالي على السطوح وفي العمق لتغيير الانطباعات ملمسيا وبصريا, هي مما يجعل هذه المادة الباردة تنبض بالحياة والدفء, ثم بالتألق والإبهاج في أعمال الزجاج الملون.

          تصر فاطمة الطناني - وهي دارسة لتاريخ الفن - على أن جذور تشكيل الزجاج الملون مصرية قديمة, خاصة عمليات الصهر والتلوين, بالرغم من أن المراجع الغربية تعيد بدايات هذا الفن إلى جذور لاهوتية غربية, متكئة على ظهور نوافذ الزجاج الملون, كتعبيرات روحية في الكاتدرائيات الأوربية القديمة, وهي تفترق بهارمونيتها اللونية والتكوينية عن نوافذ المعابد الفرعونية, والأثينية ذات الخطوط البسيطة المتوازية. إنه خلاف يذكرنا بأن التاريخ - حتى تاريخ الفن - يظل مشروع أسئلة تتطلب اجتهادات لا إجابات. ولعل الاجتهاد الذي تقدمه الفنانة في نصوصها التشكيلية, يكمن في تأكيد أن هذا الفن أشمل من النوافذ الملونة ثنائية الأبعاد, ففي إنتاجها الغزير على امتداد أحد عشر عاما, قدمت اللوحة ثنائية الأبعاد في نوافذ باهرة يزهو بها العديد من الأبنية والفنادق الكبرى في مصر, كما قدمت التكوينات ثلاثية الأبعاد متمثلة في قطع نحتية ـ إن صح التعبير ـ من الزجاج الملون, والموشى بأسلاك النحاس وأطر الرصاص, أو المعالج ككتل نحتية تكمل صياغتها الحرارة المحسوبة في أفران الصهر: تماثيل, وحلي, و ثريات, وفراشات شفافة خرافية الأحجام تحلق في هارمونية الألوان والضوء على جدران آخر معارضها, وتمنح متأملها بهجة خاصة من الإحساس بالحرية, والوداعة, وسحر الخيال, ولمسة الحياة التي جعلت الزجاج يطير.

 

محمد المخزنجي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الفنانة فاطمة الطناني تعيد تشكيل مادة نادر وصعبة لا تقدم ألوانا ثابته ولكن تعكس أطيافا ضوئية عابرة





فراشة من الزجاج توشك الحياة أن تدب فيها





جذور من الزجاج قديمة قدم الحضارة نفسها . وهي تنتمي إلى اللحظة التي تعلم فيها الإنسان صهر المواد





انعكاس ألوان الطيف من الزجاج يجعل هذه المادة الباردة تنبض بالدف والحياة