كي لا يظـلم السلطان عبدالحميد

كي لا يظـلم السلطان عبدالحميد

اطلعت على ما نشر في العدد (516) نوفمبر (2001) من مجلة العربي للباحث الأستاذ جان دايه, يعقب فيه على ما ورد في ردي ورد آخر, على مقاله (صمت السلطان), وملخصه: أن كل ما أوردته من إرادات سنية وفرمانات وقوانين صدرت عن السلطان عبدالحميد لإعاقة هجرة اليهود إلى فلسطين إنما كانت نظرية وحبراً على ورق,

بدليل مئات المستعمرات التي كانت موجودة في عهده, وأنشئ معظمها إلا القليل أثناء فترة حكمه. ومع أن كل من يرجع إلى مقالي (ولكن لم يصمت السلطان) العدد (508) مارس (2001) ص164, يتضح له أن ما أوردته لم يقتصر على قرارات وإنما تعداه إلى إجراءات عملية تنفيذية صارمة جعلت الهجرة إلى فلسطين تصل إلى أدنى نسبة سجلها تاريخ الحركة الصهيونية, فضلا عن أن موقف عبدالحميد الصلب تجاه المشروع الصهيوني جعل هرتسل ييأس من تحقيق آمال اليهود في وطن مستقل ما بقي عبدالحميد في الحكم. وعلى الرغم من كل ذلك يبدو أن الموضوع مازال بحاجة إلى المزيد من إلقاء الضوء, لتتجلى الحقيقة ناصعة أمام الأخ الباحث والقراء الكرام, مما يحقق هدف المنتدى الذي يسهم في التنوير بتصحيح الكثير من الأخطاء المتوارثة.

يستشهد الباحث في تعقيبه على مراجع يذكر منها: خطط الشام لمحمد كرد علي, الجزء الثالث بدءاً من الصفحة (198), ومجلة النفائس الجيفادية ليوسف بيدس المجلة (2) الجزء (10) أكتوبر 1911, والموسوعة الفلسطينية - الجزء الرابع, باب الهجرة إلى فلسطين صفحة 516 وما يليها, وتقرير الكاتب والمؤرخ الفرنسي هنري لامنس. إلا أن الباحث الكريم ولسبب ما, ترك جميع المراجع التي ذكرها واعتمد دراسة هنري لامنس المنشورة في مجلة (المشرق), والتي يبدو منها بالأرقام المستعمرات والمزارع والملحقات, التي شاهدها في جولة استطلاعية في فلسطين قام بها عام 1897.

هجرة اليهود شبه مستحيلة

فور اطلاعنا على أول تلك المراجع: خطط الشام لمحمد كرد علي أدركنا سر عدم اعتماده هو وأي مرجع آخر يتمتع بالمصداقية, وهو أن ما ورد فيه وفي الصفحات التي أشار إليها ينفي نفياً تاماً ما ورد في تعقيبه من أن قرارات عبدالحميد إنما كانت نظرية وغير مجدية. ولست بحاجة إلى أن أفعل شيئا إلا أن أنقل حرفيا ما ورد في خطط الشام - الجزء الثالث - بعد الصفحة (198).

نقرأ في الأسطر الثلاثة الأخيرة من الصفحة (199) والسطرالأول من الصفحة (200) ما يلي: (إلا أن العمل الجدي شرع فيه سنة 1897 عقب عقد المؤتمرالأول الذي اشترك فيه ممثلو خمسين جمعية صهيونية وبرزت فيه الروح الاستعمارية بشكل جلي, فقاومتها الحكومة العثمانية بوضع العراقيل أمام هجرتهم, وقيدتهم بقيود جعلت هجرة اليهود إلى فلسطين في حكم المستحيلة تقريباً). وهنا لست بحاجة إلى أي تعليق, وإنما أنتقل إلى الصفحة (202) من المرجع نفسه لأقتطع منه ما يلي:

(أما آمال الصهيونية في فلسطين فقد كاد أن يقضى عليها, لأن الباب العالي أصدر أوامره في شهر نوفمبر سنة (1900) بمنع مهاجري اليهود من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة أشهر, وذلك مما ثبت له من انتعاش الحركة الصهيونية وأنها آخذة في التهام فلسطين واستملاك بقاعها والاستيلاء على واردها وصادرها. واحتجت إيطاليا على هذه الأوامر بأنها مجحفة وأنها - أي إيطاليا - لا تفرق بين رعاياها النصارى واليهود. وكذلك عرضت هذه المسألة على وزير الولايات المتحدة فأصدر أمره في 28 فبراير 1906 إلى سفيرها في الأستانة ليحتج باسم حكومته فرفض الأتراك كل تدخل بهذا الشأن).

في الصفحة (203) من المرجع نفسه نقرأ لمحمد كرد علي بعد الحديث عن المؤتمر الخامس للجمعية الصهيونية المنعقد في ديسمبر سنة (1901), ما يلي:

(ثم انفض المؤتمر وانصرف الزعماء لمتابعة غايتهم, فذهب هرتسل إلى القدس على رأس بعثة صهيونية, فقابلوا إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني أثناء زيارته للقدس وفاوضوه بمهمتهم فأجابهم: إن كل المساعي لترقية زراعة فلسطين والتي تعود بالمنفعة على الدولة التركية وتحترم سيادة السلطان يوافق هواه ورضاه).

عبدالحميد أفشل خطة هرتسل

(فامتعض هرتسل وذهب إلى الآستانة وقابل السلطان عبدالحميد وكانت خطته ترمي إلى التفاهم على أساس تنظيم المالية العثمانية وأن يقنع جلالته بإخلاص الصهيونيين لأمتهم يعملون علانية لا في الخفاء, وأن اليهود عنصر خاضع للقوانين لا يخالفون رغائب القوة الحاكمة, وطلب إليه أن يمنح اليهود سلطة واسعة للحكم البلدي الذاتي, ويدفعون مقابل الامتياز مبلغاً وافراً ويؤدون (300,000) غرش مرتباً سنوياً مثل جزيرة ساموس ذات الاستقلال الإداري بجندها الخاص ورايتها الخاصة ومجلس نوابها الخاص أي حكومة ذات استقلال داخلي ففشل في سياسته ومفاوضته, وظل اليهود يباشرون بعض الأعمال الاقتصادية والزراعية في فلسطين في شيء من التقيّة والتكتم). ويمضي محمد كرد علي فيقول: (ولما أخفق سعي هرتسل مع الأتراك وجه نظره إلى الحكومة الإنجليزية آملا أن يحصل على مقاطعة بجوار الأرض المقدسة يأوي إليها المهاجرون أو المضطهدون مؤقتا, فاستحسن طلبه, وباشر مفاوضته مع لورد كرومر فعرض عليه استعمار شبه جزيرة سيناء, وأرسل الفريقان بعثة سنة 1903 لترتاد الأرض, وقد كاد هذا المشروع يتم لولا قلة المياه ورفض حكومة مصر إعطاء شيء من ماء النيل. ولما حبط هذا المشروع عرض عليهم وزير خارجية إنجلترا شرقي إفريقيا على أثر حرب البوير واقترح الدخول في المفاوضة بشرط إحداث وطن يهودي في شرقي إفريقيا.وعقد المؤتمرالسادس في بازل سنة 1903 وبحثوا في اتخاذ إفريقيا وطناً قومياً فقوبل هذا الاقتراح بالرفض).

والآن, وبعدما تقدم عرضه من أحد مراجع الباحث الكريم, هل بقي لدى أحد شك في أن قوانين وإجراءات السلطان عبدالحميد وحكومته لم تكن حبراً على ورق. والسؤال الآن: إذا كان الأمر كذلك, فما قصة تلك المستعمرات العديدة والمنتشرة في معظم أنحاء فلسطين والتي ذكرها الأخ الباحث نقلا عن تقرير المستشرق الفرنسي لامنس?

كانت خمساً فقط

أمامي الآن ملخص تقرير الأب هنري لامنس كما هو منقولاً عن مجلة (المشرق), العدد 43 الصادر في ديسمبر 1899.

قراءة متأنية لهذا التقرير تظهر ما يلي:

أولا: ان ما وصفه الأخ الباحث بالمستعمرات لم تكن جميعها مستعمرات, فالتقرير يذكر أنه كانت هناك خمس مستعمرات فقط, وهي: مستعمرة يافا ومستعمرة القدس الشريف, ومستعمرة صفد ومستعمرة حيفا, ومستعمرة حوران وعبر الأردن. وأما ما تبقى ذكره فإنها كانت أحياء ومنازل وضواحي ملحقة بتلك المستعمرات.

ثانيا: المستعمرات هي التي تؤوي أكبر عدد من المستوطنين, ثلاث منها وبعض ملحقات وضواح جميعها إنما أسست قبل عبدالحميد, فمستعمرة القدس أسسها ألبير مونتيفوري هي وضواحيها (يمين موسى) عام 1860, كما أن ضاحية نحلة شبع أنشئت عام 1869 وابن يعقوب عام 1870 ومساكن إسرائيل عام 1876 ومنزل إسرائيل وهي قلب مستعمرة يافا إنما تأسست سنة 1870 والشيء نفسه ينطبق على مستعمرة حيفا, فمستعمرة زمار اشترتها شركة روسية عام 1862.

ثالثا: ان إحصاء المستعمرات زمن عبدالحميد لا يعني أنها أنشئت في عصره أو أن الذين يستوطنونها جميعاً قد هاجروا إلى فلسطين في عهده. هجرة اليهود إلى فلسطين بدأت قبل عبدالحميد. زمن السلاطين الذين كانوا يرحبون بهم, ولا يمانعون في استقرارهم في أي من البقاع تحت الحكم العثماني. بل إنه في عهد السلاطين مراد الأول ومحمود الأول ومراد الثاني (1326 - 1421) صار من حق اليهود تملك الأراضي في المدن والريف (Universal Jewish Ency clopedia VL. 10 - P226 - 229) ونتيجة لسياسة التسامح والعطف التي تميز بها السلطان مراد الثاني إزاء اليهود فقد أطلق عليه لقب (الرجل الإنساني). (كمال المنوفي:

الأدبيات الماسونية, دار الوثائق - دمشق, ص334, الطبعة الأولى 1997). وحين طرد الملك فرديناند أعداداً كبيرة من اليهود الأشكنازم, توجهت أعداد كبيرة منهم إلى الدولة العثمانية فرحب بهم السلطان بيازيد وعلق على ذلك بقوله: (إنني مندهش من الذين يقولون إن فرديناند ملك إسبانيا ذكي, فهو يضعف دولته ويغني أرضي).

(Yale storm, The Expulsion of the Jews. P. 62-65 S. P. I Books, New York. 1992)
وحين أتم الملك الأرغوني فرديناند وإزابلا استرداد إسبانيا من المسلمين بتسلم إمارة غرناطة وشرعا في تطهير البلاد من المسلمين واليهود, وصل إلى الدولة العثمانية ممن هاجر منهم (100.000) يهودي, ومن هؤلاء وأولئك استقر الكثير منهم في فلسطين إلاّ أن التدفق الأعظم إنما كان بعد خلع السلطان عبدالحميد, ويكفي أن نذكر أنه خلال عام واحد عقب خلعه وصل إلى فلسطين (50.000) مهاجر صهيوني (مذكرات طلعت باشا - الجزء الثالث - ص1282).

أساليب ملتوية

على الرغم من تلك الإجراءات فقد تمكن عـــدد لا بأس به من اليهود من الوصول إلى فلسطين, ولو أنهم أقل مما سبق عبدالحميد وما تلاه. والسؤال كيف استطاع هؤلاء اختراق تلك الحواجز? وإليكم الجواب:

- الكثيرون دخلوا فلسطين بجوازات سفر سجل فيها اليهود على أنهم نصارى بمساعدة الدول الغربية.

- البعض انتقل إلى الأراضي المقدسة من الولايات المجاورة وخاصة لبنان - بيروت وسوريا.

- تقدم الملياردير النمساوي (روث جايلد Ruth Child) - وتعني الولد الرحيم - بطلب إلى السلطات العثمانية للسماح له بتقديم مساعدات إنسانية لفقراء اليهود في فلسطين, وذلك لترميم بيوتهم وشراء أراض ومزارع يشتغلون فيها لكسب معيشتهم.

- تحايل ممثلي الإدارة العثمانية في فلسطين على القانون وتعاونهم مع القناصل الأجنبية والمهاجرين اليهود لتيسير دخولهم إلى فلسطين دون تسجيل أسمائهم على اللائحة الخاصة بزوار الأماكن المقدسة, وذلك مقابل مبالغ تدفع كرشوة.

- تكاثر اليهود أنفسهم مما جعلهم يضيفون أحياء ومساكن في ضواحي المستعمرات.

- دخول بعض المهاجرين إلى فلسطين عبر منافذ غير قانونية, كالشواطئ الحرة, وذلك بقوارب تقلهم من قبرص أو من سفينة في عرض البحر, وقد سجل تاريخ الهجرة غرق عدد من تلك القوارب التي تنقل المهاجرين.

مواقف مشرفة

وأخيراً, يثير الباحث موضوع فساد إدارة السلطان عبدالحميد وحبه للمال, واستبداده وطغيانه وغير ذلك مما اتهم به عبدالحميد وأكثر الحديث عنه المفكر عبدالرحمن الكواكبي, ليخلص من ذلك إلى أنه لا يستغرب من سلطان بتلك الأخلاق أن يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر: ومع أن سلوك عبدالحميد وأخلاقياته, خارج هذا الموضع والحديث عنها يطول, فإنه يكفي أن نقول إن عبدالرحمن الكواكبي الذي تناول بالنقد اللاذع جوانب كثيرة من تصرفات وسياسات السلطان عبدالحميد, بل لم يخل أحد من سلاطين بني عثمان بمن في ذلك محمد الفاتح من تهجمه, فإنه لم يسجل كلمة واحدة يشكك فيها بمواقف السلطان عبدالحميد من المشروع الصهيوني, أما العلاّمة محمد كرد علي فإنه على الرغم من انتقاده لسياسة عبدالحميد ووصفه له بالمستبد والمعادي للحرية وذلك بدءاً من الصفحة (119) من المرجع السابق المذكور, فإنه سجل لعبدالحميد موقفه المشرف تجاه المشروع الصهيوني وإجراءاته الحازمة ضد المهاجرين اليهود, على أساس (لا تزر وازرة وزر أخرى), ولا يمنع أن يكون للرجل جوانب يؤاخذ عليها وأن يكون له في الوقت نفسه مواقف تستحق التقدير.

لقد نصحنا الباحث الكريم بأن نتبع منهجية النظر إلى الأعمال لا الأقوال, ونحن بدورنا نرى من واجبنا أن نذكره أن من أولى خصائص الباحث أن يكون أميناً فيما ينقل من مراجع لكيلا يقع في المبالغة, ودقيقاً في مراجعة مصادره لكي لا يستشهد بمراجع تنفي ما يقول وتنقلب حجة عليه.

قرارات السلطان لم تكن نظرية وإنما إجراءات عملية حازمة حققت هدفها, والمستعمرات التي أحصيت في زمانه كانت خمساً, أنشئ بعضها ومعظم ملحقاتها قبل عهده

 

محمد طه الجاسر