البحث عن المعادلة المفقودة بين العقل والإيمان
البحث عن المعادلة المفقودة بين العقل والإيمان
نشرت العربي في عددها (511) الصادر في يونيو 2001 مقالا تحت عنوان (أيهما يحجب الآخر: العقل أم الوجدان?) للكاتب الدكتور شوقي جلال. وفيما يلي رد على بعض النقاط التي وردت فيه: قلت معركة مصطنعة, لأنّنا لا نعلم أحداً عبر تاريخ حضارتنا الطويل والذي عرف المدّ والجزر, تجرّأ على الدعوة إلى تجميد العقل وتعطيله عن اكتشاف قوانين الله في الكون, فما يقول بمثل هذا مسلم عاقل. لم تكن معركة, بل كان تدافعاً بين هؤلاء وهؤلاء, محدوداً بمجال معين كان القصد منه الحدّ من استقلال العقل بالبحث في أمور العقيدة والغيبيات, كان له - التدافع - الفضل في حفظ عقيدتنا - إلى حدّ ما - من مغالاة المعتزلة الذين أدخلوا العقل في مجال غير مجاله, وجعلوه يبحث في مسألة ليست من اختصاصاته ولا تهمّ المسلمين في شيء من حياتهم. ومما ذكره ابن رشد الذي أعلى من شأن العقل حتى أوشك أن يؤلّهه وهو الذي يقول بصريح العبارة وبمبالغة انتقدها الكثيرون: (كل آية لا توافق قول أرسطو يجب تأويلها)!. إنني أخشى أن يؤول تحليل الكاتب بأن عقيدة المسلمين هي التي كانت عائقاً أمام تطورهم ولحاقهم بركب التحضر. وهذا التدافع سعى - وحقق ذلك في فترات متفاوتة من التاريخ الإسلامي -
إلى حلّ المعادلة المفقودة بين العقل والوصي. ويقول (نيتشه): (لقد ماتت جميع الآلهة فلم يعد لنا من أمل إلا بظهور الإنسان المتفوق Super Man)! صحيح أن الإيمان بالعقل وبالإنسان حقق بعض ما تتمتع به الحضارة الغربية من إيجابية لتحرير الإنسان من الإحساس بالعجز أمام قوى الطبيعة ودفعه إلى تسخيرها لمصلحته, وتحرير ضميره من ضغط القوى الخفية في الطبيعة التي كانت تشلّه, وبعث روح المغامرة في تذليل الصعوبات والبحث عن المجهول (الاكتشافات البحرية, اكتشاف الفضاء, اكتشاف أراضٍ مجهولة), والإيمان بالتقدم الدائم, وشعور الإنسان بقيمة الحرية على أنّها بعد أساسي من أبعاد وجودنا. ولكنه - الإيمان بالعقل - كان وراء الأزمات التي تعانيها الحضارة الغربية والتي توشك أن تقود البشرية إلى الدمار, عندما فشل - العقل - في تقديم نظرة شاملة موحّدة لكيان الإنسان هذا المجهول وانتهى به عجزه إلى إنكار الحقيقة الروحية للإنسان وإسقاطها من حسابه في تنظيم أسلوب الحياة,وفشل - العقل - في أن يقدّم للإنسان معنى لوجوده وهدفا لحياته وموازين ثابتة لأخلاقه ففتح الباب للقلق والغثيان والفوضى لأن تسود حياة هذا الإنسان الصعبة, فكانت الحروب, وكان الاستعمار, وكان ما يعانيه الغرب - ونحن من أتباعه - من انحلال في الأخلاق وفي العلاقات الاجتماعية ومن فوضى اقتصادية, وجرائم سياسية. نحن في حاجة إلى معادلة تأخذ في الاعتبار الطرح الإسلامي لدور العقل وحدوده باعتباره جزءاً من الوجود, فليس في وسعه أن يحيط علماً بهذا الوجود, وهو أمر, كما يقول ابن خلدون, غير قارح في العقل ومداركه (بل العقل ميزان صحيح, فأحكامه يقينية, غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره, فإنّ ذلك طمع في محال) (المقدمة). إنّ العقل طاقة يجب أن تُوجَّه إلى التنقيب عن كنوز الأرض والتعرف على رزق الله الواسع, واستغلال كل ذلك لترقية الحياة وتنميتها والوصول بها كل يوم إلى مستوى جديد, وإلى التعرف على سنن الله في الكون المادي وفي حياة الإنسان في سبيل تنظيم الحياة البشرية وتقويمها والسّير بها على نهجها القويم. أمّا أن ندفع بالعقل في دروب البحث عن الغيب واختراع عقيدة للإنسان فإن ذلك يعتبر استنقاصاً من قيمة العقل, وزجّاً به في متاهات لن يظفر منها بطائل, لأنه محدود المؤملات, لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمرها, وكل جهد يُبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع, ذاهب سدى بلا ثمرة ولا جدوى.وما يخرج عن إدراكه - العقل - ليس مناقضاً له خارقاً لمبادئه الفطرية وإنما هو متعال عنه, فائق لطبيعته. وإذا كان العقل البشري لم يوهَب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب, فليس سبيله أن يتحجج فينكر, لأن الإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة, والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل وليست في طوق وسائله ولا هي ضرورية له في وظيفته, فيستفزّ بإنكاره هذا أطراف الشق المقابل للردّ عليه بقوّة. أليس التطرف يولد التطرف?, وهذا ما حدث بالفعل في فترة من فترات تاريخ حضارتنا العظيمة. والإقرار بعجز العقل عن الخوض في أمور الغيب واختراع الأديان, لا يعني تقييد العقل الإنساني وتكبيله وشلّه عن الحركة. إنما يعني فهم نظام الأسباب الذي وضعه الله في حياة الإنسان, وأن يوجّه سيره وفق هذا النظام الذي لا تتمّ في الوجود حركة ولا يتمّ عمل إلا من خلاله. هذا الفهم لدور العقل هو الذي مكّن المسلمين من الفهم الصحيح لمفهوم القضاء والقدر فطبع أنفسهم على الثبات واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال, وحلاّها بحلي الجود والسخاء, وحملها على بذل الأرواح في سبيل الحق والعدل, وعرّفهم أنّ هذه الدنيا إنّما خلقت للإنسان ليتمتع بما فيها وفق شرع الله بلا إسراف, وأنّ حركته يجب أن تكون سريعة دائبة,, ولكن ضمن الأحكام والقيم الثابتة التي أودعها الله في شريعته, وإلا تحطمت الحركة. وبهذا الفهم لدور العقل وحدوده أنجبت الحضارة الإسلامية جهابذة شاركوا في ابتكار واكتشاف الكثير من المعطيات والنظم والقوانين الحضارية التي كانت بمنزلة الأسس التي بنت عليها فيما بعد حضارات أخرى في مشارق الأرض ومغاربها. ولم يتوقف العقل المسلم عن العطاء الحضاري إلاّ حين داخلته عناصر غريبة نمت في الثقافة الإسلامية فأفقدتها فاعليتها وإيجابياتها وجمّدت العقل عن الحركة, وحين استوردنا له قضايا ومسائل يخوض فيها لم تنبت في أرضنا ولا كانت من اهتماماتنا, لتتحول القضية من إطار تدافع إلى إطار صراع كما عاشته أوربا المسيحية في فترات تاريخها المظلم. وأخيراً, فإن حياة الإنسانية رهينة إلى حدّ بعيد في ثرائها واستقرارها ونجاتها من الدمار الذي يهدّدها في كل لحظة بتحقيق المعادلة الصعبة بين العقل والإيمان - وليس الوجدان حتى نسمّي الأمور بمسمّياتها - والمتمثلة في الدور السليم الذي يقوم به العقل في ضبط مسالكها ومساراتها مراعاة لفطرة التغيير المستمرّ وتقيّدا بنطاق الحاكمية المطلقة لله تعالى. هذا بعض من المساهمة في حلّ المعادلة المفقودة والمنشودة عوض أن نطرح المشكلة ونهتمّ بطرح الاتهامات جزافاً على هذا أو ذاك
|